22/02/2020 - 12:56

"ما هو البديل؟"... السؤال الشرعي

كل ذلك لن يأتي من البنى التقليدية القائمة، بل من خلال قوى جديدة تدرس التجربة السابقة وتجترح مقاربات وآليات تغيير مبتكرة. والمجتمع الفلسطيني يحمل بذورها، بل براعمها، وهي قادمة لا ريب.

في زمن التأزم، الذي يتبعه ويرافقه انتشار للقلق والخوف من الحاضر والمستقبل، تكثر الأسئلة وتقل الأجوبة. ويتوقع الناس بمن فيهم العديد من أفراد شرائح الطبقة الوسطى غير المنخرطين في السياسة، أجوبةً ممن يعتقدون أنهم يملكون الأجوبة والوصفة التي تخرجهم من حالة التأزم، وتُطمئنهم على حاضرهم ومستقبلهم. ولا يُدرك الكثير من المتسائلين القلقين، أن النخب السياسية، الرسمية وغير الرسمية، التي ينتظرون منها الأجوبة هي أيضًا عاجزة ومحتارة. وفي محاولة للالتفاف على الحيرة والضعف، تختلق أجوبة، شعبوية سهلة، وبالتالي تفشل في تقديم الأجوبة الشافية.

وليس العيب في العجز عن تقديم الأجوبة في مرحلة معينة بالغة القسوة، إنما العيب الفاضح هو في الادعاء بأن لديها أجوبة لتواصل التشبث في موقعها، أو في تقديم أجوبة تبسيطية ومضللة، للعامة، ومدغدغة لمشاعر أو ميول الناس في لحظة ضعف.

على سبيل المثال، فإن أفدح الممارسات والسلوكيات غير السياسية التي مارستها قيادات أحزاب برلمانية داخل الخط الأخضر، هو تعميم الوهم بأن الجواب على مجمل حالة التأزم وتدشين مرحلة مختلفة جديدة، هو في شعار إسقاط بنيامين نتنياهو، المترافق مع هبوط في الخطاب والمضمون والسلوك السياسي. هكذا ببساطة. إنّه استنساخٌ بائسٌ ورثّ للسلوك السياسي الفادح الذي أدمن عليه فريق أوسلو على مدار ثلاثة عقود، المتمثل بالتشبث بالمفاوضات وخدمة الاستعمار، والخضوع لطلب إثبات الجدارة كشرط للحصول على دولة.

وكلنا شاهد أداء رئيس السلطة الفلسطينية الاستجدائي والبائس والمهين أمام جدران مجلس الأمن الصماء، أوائل الشهر الجاري. وعندما نقارن ذلك الخطاب التاريخي، الذي قدمه ياسر عرفات الثائر عام 1974 في الهيئة العامة للأمم المتحدة، ندرك الدرك الذي أوصلتنا إليه القيادات الفلسطينية، وكيف تم تبديد الزخم الثوري والمكانة الرفيعة التي كانت تحظى بها قضية فلسطين. وبطبيعة الحال، لا تتحمل قيادات الحركة الوطنية الفلسطينية وحدها المسؤولية عن الهزائم، إنما الأنظمة العربية سواء تلك التي تاجرت بالقضية أو التي تحالفت دائمًا مع الولايات المتحدة، واليوم تتحالف علنا مع المستعمر الصهيوني.

بعد سقوط مراهنات القائمة المشتركة على بيني غانتس، اشتدت حالة النقد واتسعت دائرة الإحباط عند الكثير من الناس الطيبين الذين تم تضليلهم بخطاب شعبوي تبسيطي غير مسؤول، بل حمل في طياته نزعات صبيانية مغالية في التسرع والتهور، متخليةً عن ثوابت أخلاقية ووطنية أساسية. فعاد القلق ليزداد، ولتطرح الأسئلة الجدية مجددًا، وهي أسئلة متعلقة بطبيعة الصراع الذي نكتوي بناره، والذي يمارس فيه طرفٌ يعلن عن نفسه دولة طبيعية، كل أشكال القهر والتمييز والإقصاء ضد أصحاب الوطن، كونهم في تعريفه أناسًا عابرين. إنما الحقيقة المادية والسياسية، أن هذا الكيان أقامه الاستعمار ومادته مجموعة أوروبية، استئصالية وإقصائية، مثلها مثل المجموعات الاستعمارية التي عرفها تاريخ الاستعمار في الخمسة قرون الماضية.

لقد بات ضروريًا، أخلاقيًا وسياسيًا، استعادة تعريف الحركة الصهيونية وتجسيدها إسرائيل، باعتبارها استعمارية، ليس في الماضي فحسب، بل في الحاضر أيضًا. تلك الحقيقة جرى طمسها تحت عجلات صفقة أوسلو، وحملة التضليل التي رافقت مسيرة هذه الصفقة، إذ جرى استبدال مفردات التحرير الوطني بمفردات هجينة وبقاموس سياسي مناقض لطبيعة الصراع ولحلوله. وهكذا تمكن الاستعمار من تبديل ثقافة المقاومة بثقافة الهزيمة. وكان الرد على تلك الصفقة الكارثية داخل الخط الأخضر بإقامة حزب التجمع الوطني الديمقراطي، بخطاب وطني وديمقراطي في مواجهة يهودية الدولة، جوهر المشروع الصهيوني.

خطاب قدمّه التجمع بجرأة عالية وحكمة بالغة، غير أن من يدير القائمة المشتركة يرتد على ما تحقق من تأثير معنوي وثقافي وسياسي لهذا الخطاب، ومعانيه الإستراتيجية على مدار عقدين من الزمن، واستبدل بخطاب التأثير من خلال التجرد من مخزون هذا الخطاب الأيديولوجي والكفاحي. ولهذا عادت حالة التشكيك بكل قواعد هذه اللعبة تتصاعد، وتطرح نفسها كحراك شعبي.

لقد أوقع كل ذلك عموم الناس في الوهم ومن ثم في الحيرة، فانبرى العديد من هؤلاء الناس والمتابعين، في توجيه ألأسئلة للناقدين وخاصة المنهجيين منهم، على شكل سؤال: وما البديل عندكم؟ وهو سؤال وجيه، ويجب أن يكون موجهًا إلى كل المعنيين، إلينا جميعًا، وألا تقتصر الإجابة على الجانب النظري على أهميته. لا بد أن يتحوّل الجهد المبذول فرديًا أو من خلال دوائر ضيقة مشتتة في الإجابة عليه، إلى عملٍ جماعي. ولا شك أن الناقدين مطالبون قبل غيرهم بالإجابة عليه.

وأول الأمور التي يجب أن تكون واضحة، هو أن لا أحد يملك وصفة سحرية ولا حلا سريعًا، وأن العمل لتغيير الواقع هو طويل وتراكمي... هو نضال مديد.

وفي المفترق التاريخي الذي أوصلتنا إليه الصهيونية، بإعادة التأكيد على مشروعها الاستعماري ودسترة هيمنتها الكاملة على فلسطين، يتعين علينا شطب مسيرة الوهم القاتلة من تاريخنا وسلوكنا، التي سارت بها القيادات الفلسطينية منذ تخليها عن برادايم التحرير، ومن ثم عن برادايم الدولة الديمقراطية العلمانية في فلسطين التاريخية. ليس الحل المزيد من التنازل أو التمسك بحل الدولتين وتقسيم المُقسّم، بل العودة إلى أصول الصراع، وتبني الخطاب الوطني الديمقراطي التحرري الإنساني.

وفي الجزئية المتعلقة بفلسطينيي الداخل، وهي جزئية هامة، بات ضرورة وطنية وأخلاقية، التخلي عن الوهم، وهم التعويل على التأثير من الداخل (من داخل المنظومة الصهيونية الرسمية)، والذي قاد مندوبو المشتركة إلى التخلي عن أبجديات العمل السياسي الوطني، وأدى إلى التكيّف مع تهميش مهمة التنظيم القومي والتسليم بواقع لجنة المتابعة العليا البائس، للاعتقاد أن التنظيم القومي يشكل عائقًا أمام عملية تحصيل الحقوق. وقد سلّمت قيادات لجنة المتابعة، جميعها، بهذه المقولة المغلوطة والمعيقة للنضال ولإشراك الناس في النضال وتقرير مصيرهم.

ليس الناس، خصوصًا الواقعين تحت نظام كولونيالي يرفضهم لانتمائهم القومي، مجرد ناخبين، بل هم أفراد من شعبٍ له حقوق قومية جماعية، والتي يحتاج تحصيلها إلى قيادة قومية حقيقية، تمتلك رؤيةً ووعيًا سياسيًا تحرريًا ببعدٍ ديمقراطي حقيقي.

ما العمل؟

أول الخطوات تبدأ بإعادة تعريف طبيعة الصراع الذي نخوضه، وطبيعة الكيان السياسي القائم، وفهم آليات الهيمنة التي تمارسها مؤسسات هذا النظام/ الكيان الحاكم. وبناء على فهم هذا النظام، نصل إلى نتيجة مفاده أنه لا يمكن تغييره من الداخل، لأن العنصرية والكولونيالية (سرقة الأرض وطمس الهوية والطرد والتطهير العرقي) هي مسألة بنيوية وليست طارئا. عندها، نضع آليات مقاومة هذا النظام، من الخارج وليس من الداخل. ليس المقصود التخلي عن المكاسب التي حصلنا عليها بنضالنا، وهي هامة وكبيرة، وبإمكاننا تطوير استخدامها بصورة أفضل لخدمة قضية شعبنا ككل. إنما، المطلوب هو إعادة بناء الجسم السياسي العربي (داخل الخط الأخضر) بحيث يعتمد أولا على رفض الصهيونية، وعلى استعادة تحدي يهودية الدولة/ النظام وطابعها الكولونيالي؛ وثانيًا، على بناء وإعادة بناء المؤسسات التمثيلية والمهنية والثقافية واللجان الشعبية الميدانية؛ وثالثًا، تجسيد الارتباط بقضية التحرر الفلسطيني العام، نظريًا وعمليًا، وهذا لا يمكن أن يتم من خلال التشبث بالأسرلة.

كل ذلك لن يأتي من البنى التقليدية القائمة، بل من خلال قوى جديدة تدرس التجربة السابقة وتجترح مقاربات وآليات تغيير مبتكرة. والمجتمع الفلسطيني يحمل بذورها، بل براعمها، وهي قادمة لا ريب.

التعليقات