21/04/2020 - 21:47

الجيوش وكورونا كحالة استثناء

حشدت إيران ما يقارب مئة ألف من قوات الحرس الثوري من أجل عمليات إخلاء الشوارع وفق خطة لضمان حجر منزلي صحي، وللقيام بمهام عمليات التعقيم في الشوارع والأماكن العامة والمساجد والمؤسسات الأخرى، ويعملون وفق خطة عمل أعدتها.

الجيوش وكورونا كحالة استثناء

يطرح تفشي فيروس كورونا العديد من التساؤلات حول قضايا سياسية واقتصادية ومجتمعية، لكن تبقى تلك المتعلقة بالشق العسكري الأبرز، خاصة مع اختلاف نماذج الحكم في الدول التي ينتشر فيها الفيروس، وبالتالي اختلاف طرق التنظيم وإدارة الأزمات للحد من انتشاره. وإذا كان للفيروس وانتشاره حقائق لم تظهر بعد، وتبعات سواءً على الدبلوماسية بين الدول أو على الاقتصاد العالمي أو على قواعد النظم العالمية السائدة، إلا أن الجميع متفقٌ على نجاح النموذج الصيني في القدرة على لجم الفيروس، والرغبة في تقليده كنموذج حسن في ظل أزمة لم تترك دولة إلا وأربكتها. بغض النظر عن تاريخ أول حالة إصابة بفيروس كورونا، وأرقام وإحصائيات لم تعد تخفى على أحد، وبغض النظر، أيضًا، عن الإجراءات الطبية التي استنزفت رصيدًا اقتصاديًا لا بأس به، يبرز الحديث عن لجان إدارة الأزمات، ومنزلة العسكر في هذه اللجان، ومدى تأثيرهم في خططها.

سابقًا، أعلن الرئيس الصيني، تشي جينبينغ، في زيارة لمدينة ووهان في العاشر من آذار/مارس الجاري انتصار الصين على فيروس كورونا، وفي أول وقفة له عند أول مشفى شيدها لمكافحة الفيروس، أثنى جي بينغ على "جيش التحرير الشعبي" لما كان أفراده قد قدموه من خدمات، سواء لبناء المشافي أو لمساعدة الحكومة الصينية في فرض حظر التجول في بعض المدن الصينية. فعليًا، كان الجيش الصيني على خط المواجهة الأول مع فيروس كورونا، وهنا لا بد من التركيز على الزخم الإعلامي حول عشرة آلاف عسكري سواء كانوا تابعين للفرق الطبية العسكرية الملحقة بالجيش الشعبي أو قوى الأمن والشرطة الصينية في أداء مهماتهم في الحد من انتشار الفيروس، خاصة في مدينة ووهان، الأمر الذي أعطى مركزية عالية للجيش الشعبي من ناحية التجهيزات ولوجستيات التنسيق والأوامر الصادرة لاحتواء الفيروس. وبالإضافة إلى العتاد والعديد الأمني، تلقّت أكاديمية العلوم الطبية العسكرية (AMMS) المتخصصة بالأبحاث البيولوجية والحرب الكيماوية، تعليمات بالعمل على لقاح أو مصل مضاد للفيروس، خاصة وأن تاريخ الأكاديمية في تعاملها مع وباءي سارس وإيبولا يعزز رصيدها كواجهة طبية عسكرية أساسية في "الحرب" على كورونا. ومن هنا، التفتت الدول إلى الدور المهم الذي يمكن أن يلعبه الجيش في "التصدي " للفيروس والحد من انتشاره.

ومن المناسب هنا، باعتقادي، الإشارة إلى ما جاء به الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك في كتابه "العنف: تأملات في وجوهه الستة" في الحديث حول العنف الذاتي والموضوعي؛ إذ يرى جيجك أن الدول في حالاتها الطبيعية غالبًا ما تمارس العنف باسم القانون، عبر مؤسساتها التي "تضعف الأفراد" وتحد من حركتهم، وهو ما يرفضه جيجك، على اعتبار أن هذا العنف متجذر في النظام الاقتصادي والسياسي والاجتماعي للدولة. وبالتالي، فإن أجهزة الدولة المدربة، من جيش وشرطة وقوى أمن، من شأنها أن تفرز نوعًا ممن العنف حتى وإن كان غير مرئي أو ما يمكن للناس أن يرونه "حميدًا" خدمة للمصلحة المجتمعية. بدت حاجة الدول حول العالم ملحّة لاستخدام القوة العسكرية في حالة كورونا، كحالة استثناء، إما من أجل فرض حظر تجوّل، أو من أجل إمداد المشافي بلوازم العناية بالمصابين من تجهيزات تنفس اصطناعي وغيرها، أو من أجل مساندة الفرق الطبية في تأمين عناصر ترافق سيارات الإسعاف لتسهيل حركتها. ولا بد من القول إن الميزانية التي ترصدها الدول للقطاع العسكري تمكن مكونات هذا القطاع، بالضرورة، من امتلاك أقوى الآلات والعربات على عكس أي قطاع آخر، بما في ذلك القطاع الصحي وما يتبعه من مراكز أبحاث طبية وبيولوجية تم إهمالها، وبالتالي، فإنه يتحتم على الدولة أن تستعمله كخط دفاع بوجه خطر سيحوق بجوانب الحياة كافة.

حشدت إيران ما يقارب مئة ألف من قوات الحرس الثوري من أجل عمليات إخلاء الشوارع وفق خطة لضمان حجر منزلي صحي، وللقيام بمهام عمليات التعقيم في الشوارع والأماكن العامة والمساجد والمؤسسات الأخرى، ويعملون وفق خطة عمل أعدتها خلية أزمة يشارك فيها قادة من الحرس الثوري. وتعدّى تدخل الجيش عمليات فرض حظر التجول أو تطويق بعض المناطق التي تحتوي أكبر عدد من الإصابات وعزلها، إلى القيام بمناورات دفاع بيولوجية هدفها إنشاء مراكز أبحاث طبية عسكرية ومراز علاجية في أكثر من ثلاثمئة نقطة في البلاد. يؤمن خامنئي بقدرة الحرس الثوري على التأثير في المجتمع الإيراني، لا سيما وأن الحرس الثوري لاعب اقتصادي بارز، ويعزز سطوته القبضة العسكرية الحديدية داخل إيران وخارجها. وإن كان خامنئي قد لوّح بورقة المؤامرة الأميركيّة، فإنه بذلك أعطى صلاحية مطلقة لأقوى جهاز عسكري في إيران، ووضعه في خط المواجهة الأول، مع إمكانية فرض عقوبات على مخالفي قواعد حظر التجول الداخلي.

فعليًا، لم تصمد الدول العربية كثيرًا حتى بدأت تعلن عن إصابات في صفوف مواطنيها واحدة تلو الأخرى، ما استدعى القيام بخطوات إجرائية منها الصارم ومنها الاحترازي. سارت الدول العربية على خطى كل من الصين وإيران في العمل على تطويق الفيروس وحصر انتشاره. وكانت خطوة حظر التجول القاسم المشترك بين جميع الدول، في بعضها جزئي مثل الإمارات والكويت وسورية وفلسطين ولبنان، ومنها ما هو كامل كما الحال في الأردن. ولم يكن لهذه الدول إلا وأن تستعين بالجيش وقوات الأمن والدرك من أجل القيام بهذه المهمة. كانت الحكومة الأردنية سبّاقة في فرض حظر تجول قاسٍ إلى حد ما، مع فرض عقوبات مادية على المخالفين ومصادرة آلياهم، وعقوبة حبس أقصاها عام واحد. أما في سورية، فقد نفذت القوى الأمنية والشرطة مهامَ عمليةِ حظر التجول الجزئي في كافة أرجاء الجمهورية شملت ضمان حظر تجول ليلي فقط، مع فرض عقوبات وحبس المخالفين، عدا المصرح لهم، ومحاكمتهم بناءً على قانون صادر عن وزارة الداخلية بالتنسيق مع القوى الأمنية والحواجز العسكرية المسؤولة وتسيير دوريات لضمان الالتزام التام. وفي فلسطين كان حظر التجول ومنع التنقل بين مدن الضفة الغربية أحد أهم الإجراءات بمساندة الأجهزة الأمنية الفلسطينيّة، التي تديرها السلطة في الضفة الغربية. لكن حدّة الإجراءات كانت أقل في لبنان ولم يكن هنالك تدخل عنيف من القوى الأمنية.

وإن كانت هذه حالة استثناء، إلّا أنها تشي بتدخل عنيف من الجيش والقوى الأمنية في بعض دول العالم، بما يتفق مع نظم الحكم فيها. فالأنظمة التي تراعي الديمقراطية في أوروبا لم تفرض حظر تجول لأنها لا تمارس العنف - بأي شكل - عادة مع مواطنيها، كما الحال في إيطاليا وألمانيا وهولندا وبلجيكا. وهذا ربما ما سرّع وتيرة انتشار الفيروس في شوارع العواصم الأوروبية، على عكس الدول التي فرضت حظر تجول بالقوة مع عقوبات ضد المخالفين، وطوّقت الانتشار أو حدّت منه على المستوى الأقل. ليبقى السؤال هنا: هل يمكن عدّ نزول القوى الأمنية إلى الشارع في حالة الاستثناء "تدخلًا حميدًا"، وعدّ الحبس والعقوبات عنفًا مبررًا، ومختلفًا عنه في الحالة الطبيعية للدولة؛ أم أن الدول استغلت هذا الاستثناء لتعزيز سطوتها الأمنية أو اختبارها؟


* كاتب وباحث سوري

التعليقات