02/09/2020 - 14:00

"ما كانت الحسناء ترفع سترها..."

لا يجدي كثيرًا ذلك التعبير عن الغضب الفلسطيني على ما فعلته دولة الإمارات، مهما كان ساطعًا، كما لا يجدي اتهامها بخيانة القضية الوطنية الفلسطينية والخروج عن "صف عربي" لم يعد فاعلا أو حتى قائمًا.  فمن دون التضامن العربي المقنع والنضال

مع ما يلزم من التحفظ، يمكن القول إن هناك ثلاثة محاور متنافسة ومتصارعة على اقتسام النفوذ في أقطار الوطن العربي (خاصة وإن لم يكن حصرًا، أقطار المشرق العربي). هذه المحاور الثلاثة، الواضحة والمميزة، هي التالية:

- المحور الإيراني/ الشيعي

- المحور التركي/ الإخواني

- المحور السعودي/ المصري (ودولة الإمارات العربية المتحدة عضو فاعل فيه)

فإذا كان المحور (1) هو الأكثر نفورًا من كل من إسرائيل وأميركا وابتعادًا عنهما، فإن المحور (3) هو الأكثر اقترابًا منهما وانجذابًا إليهما. أما المحور التركي/ الإخواني فيحتل منزلة بين المنزلتين، أي يحتل موقعًا وسطًا بين الطرفين. لكن الوسط في هذه الحالة ليس بالقطع ذهبيًا! هذا الوسط ينفر أعضاؤه من إسرائيل أو ينجذبون نحوها ونحو أميركا بدرجات متفاوتة.

غني عن القول إن الصراع بين المحورين (١) و (٣) هو الأشرس والأشد حدة، يليه في درجة الشراسة والحدة ذلك الصراع بين المحورين (٢) و (٣). هذا التصنيف للمحاور ودرجة شراسة وحدة كل منها يفسر، إلى حد كبير، نزعة/ نزوة دولة الإمارات الجامحة للتطبيع العلني وبعيد المدى مع إسرائيل. إذ إن خوفها المفرط من إيران والمحور الذي تقوده، وكذلك خوفها المفرط من الإخوان المسلمين المدعومين من قبل تركيا، هو الذي يدفعها إلى مغازلة إسرائيل والتطبيع معها، خصوصًا في غياب أو ضعف الكوابح الرادعة. وكان الاتفاق على وقف أو إرجاء ضم مناطق من الأراضي الفلسطينية، والذي شرعنته "صفقة القرن"، ولوح بتنفيذه رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، ليس أكثر من ورقة التوت لتغطية "عورة" التطبيع الجدي والدافئ. أما الكوابح الرادعة، والغائبة أو شبه الغائبة، فهي على نوعين رئيسين، واحد فلسطيني والثاني عربي.

لأسباب كثيرة، على رأسها الانقسام وتكلس الأطر القيادية الفلسطينية وغياب المقاومة الجدية والمؤثرة، فقدت القضية الوطنية الفلسطينية كثيرًا من الوهج، وهج الجذب ووهج الردع على حد سواء، ولم تعد تحتل بالتالي تلك المكانة المتقدمة التي كانت تحتلها سابقًا في الوجدان العربي وفي سلالم أولويات الدول العربية. كما لم تعد تحتل تلك المكانة التي كانت تحتلها سابقًا بسبب انهيار التضامن العربي، ذلك الانهيار الذي بدأ بغزو العراق للكويت في صيف 1990، ووصل أوجه في الانقسام إلى المحاور الثلاثة المتصارعة مؤخرًا، تلك المحاور التي سبقها وتخللها تفكك بعض دول "الربيع العربي". وإذا أخذنا بعين الاعتبار وهن المحور الذي تنتمي إليه دولة الإمارات من جهة، وقرب دولة الإمارات من إيران وخوفها منها من جهة ثانية، وهواجسها من المحور التركي/ الإخواني من جهة ثالثة، لفهمنا لماذا هرولت للتطبيع العلني والدافئ مع إسرائيل برعاية وبضمانات أميركية، وبتواطؤ أو سكوت "مؤامراتي" من قبل دول المحور المذكور. باختصار شديد، لقد تصرفت دولة الإمارات وكأنها دولة غير عربية حين اختار حكامها التطبيع مع إسرائيل على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني. عن هذا التصرف لحكام دولة الإمارات، في ظل وهن أو ضحالة التضامن العربي ورداءة الزمن الفلسطيني، يصح قول شاعر القطرين: "ما كانت الحسناء ترفع سترها لو أن في هذي الجموع رجالا"!

ما العمل؟

سؤال "ما العمل؟" هو سؤال مركب من ثلاثة أسئلة مترابطة هي التالية: من عليه واجب العمل؟ مع من تعمل؟ وماذا، ولتحقيق أي غرض/هدف، تعمل؟ الإجابة على السؤالين الأول والثاني سهلة نسبيًا. أما الإجابة على السؤال الثالث فمعقدة ومركبة. فالمُطالب بالعمل هو أساسًا القيادات السياسية والنخب الثقافية والاتحادات والروابط المهنية الفلسطينية والحلفاء العرب وغير العرب. أما جمهور الهدف أو الجمهور المُخاطب فهو الحكام والشعوب العربية بعامة، وحكام وشعوب تلك الدول المرشحة للتطبيع، أو المراودة عن نفسها لغرض التطبيع، مع إسرائيل بخاصة (البحرين وغيرها من دول الخليج العربي). أما الأهداف التي يتوجب التركيز على تحقيقها فهي التالية، مرتبة حسب الأولوية:

احتواء التطبيع بين إسرائيل ودولة الإمارات والعمل على إبقائه في الحدود الدنيا. وفي جميع الأحوال، الحرص الشديد على عدم استعداء الشعب الإماراتي.

ردع أي دولة عربية أخرى تسول لها نفسها التطبيع الرسمي مع إسرائيل بما يناقض مبادرة السلام السعودية/ العربية لعام 2002.

ردع أي دولة إسلامية تسول لها نفسها التطبيع الرسمي مع إسرائيل بما يناقض مبادرة السلام المذكورة أعلاه.

ولكي يتسنى للفلسطينيين استعادة قوة الردع، التي تآكلت في العقدين الأخيرين، يتوجب عليهم، أولا وقبل أي شيء آخر، تجاوز واقع الانقسام. كما وعليهم إعادة بناء م. ت. ف. على أسس ديمقراطية وتشاركية بعد فصلها عن السلطة الوطنية، وتصعيد النضال الميداني/ الشعبي ضد الاحتلال، والحرص على عدم الانحياز لأي من المحاور الإقليمية التي تسعى لاقتسام النفوذ في أقطار الوطن العربي. ويتوجب عليهم، تاليًا، عمل ما أمكن وما لزم، وبالمشاركة مع العرب وغير العرب المعنيين الآخرين، لترميم التضامن العربي، ولو بحده الأدنى.

وفي الإجمال، هناك شرطان، كل منهما أساسي لإعلاء شأن القضية الفلسطينية وزيادة، أو لإعادة إنتاج، قوة لجمها وردعها لنزعات/ نزوات التطبيع، هما: القدر المعقول من التضامن العربي والنضال الميداني الفلسطيني الجدي بقيادة متجددة، وكلاهما غير متوفرين بالحد الأدنى هذه الأيام. وبما أن ترميم التضامن العربي بعيد المنال في المستقبل القريب، تكتسب المراهنة على إعادة بناء م. ت. ف. وتصعيد النضال الميداني الفلسطيني أهمية خاصة.

وختامًا، لا يجدي كثيرًا ذلك التعبير عن الغضب الفلسطيني على ما فعلته دولة الإمارات، مهما كان ساطعًا، كما لا يجدي اتهامها بخيانة القضية الوطنية الفلسطينية والخروج عن "صف عربي" لم يعد فاعلا أو حتى قائمًا. فمن دون التضامن العربي المقنع والنضال الفلسطيني الرادع، لا غرابة أن ترفع دولة الإمارات (ولاحقًا غيرها من دول المحور ذاتها) سترها!


* بروفيسور سعيد زيداني، أستاذ الفلسفة - جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا.

التعليقات