09/10/2020 - 14:29

في سؤال التسميات والجوهر: بين هبة القدس والأقصى والانتفاضة الثانية

وفي سياقنا هنا، ما كانت التسمية لتلفت النظر لولا أنّها أتت من العبرية، وهي الترجمة الحرفية لـ"إيروعي أوكتوبر"، وليس من عادتنا في مسيرتنا الكفاحية الطويلة أن نقوم بتعريب تسميات عبرية، خاصة وأنّ الحديث هنا حول المفاهيم والجوهر.

في سؤال التسميات والجوهر: بين هبة القدس والأقصى والانتفاضة الثانية

من تشييع الشهداء في الناصرة (أرشيف "عدالة")

نادرةٌ هي الحالات التي يتزامن فيها حدث شعبي فجائي ومفصلي على جانبي الخط الأخضر. فقد شكلت الانتفاضة الثانية حدثًا فلسطينيًا مفصليًا. في حين أنّ الصورة الأقوى باعتقادي والتي انطلقت الناس في هبتها في الداخل من تفاعلها التلقائي معها، هي صورة سقوط الطفل محمد الدرة في أحضان والده، الذي لم ينجح في حمايته من رصاص قناصة الاحتلال، لتمثّل صورة الفلسطيني الأعزل من كل حماية.

إحدى ميّزات الانتفاضة الثانية (أو بتسميتها انتفاضة الأقصى، نظرًا لكون أحداثها بدأت في الهبة الشعبية الفلسطينية التي صاحبت زيارة أريئيل شارون لباحات المسجد الأقصى) هي شموليتها الفلسطينية بأدوات وأشكال مختلفة، وحدوثها بعد اتفاقيات أوسلو بسبع سنوات وتلاشي الآمال والأوهام على السواء بأن مسار هذه الاتفاقيات سيقود إلى دولة وسيمنح الشعب الفلسطيني فرصة لتقرير مصيره، دون ضمن الحد الأدنى الممكن. وهو المسار الذي جزّأ، بالنسبة لفلسطينيّي الداخل، القضية الفلسطينية أكثر ممّا هي مجزّأة، واعتُبِرَ هذا الجزء من الشعب الفلسطيني خارج حدود القضيّة، وبالذات بعد التوقيع على اتفاقيات باريس التي تتعامل مع كل من يحمل الجنسية الإسرائيلية بصفته شأنًا إسرائيليًا داخليًا، وحظرت على السلطة الفلسطينية التي تحولت إلى مركز الثقل السياسي الفلسطيني على حساب منظمة التحرير الفلسطينيّة، القيام بأي نشاط في مناطق الضفة الغربية المصنّفة ج، ناهيك عن القدس التي تخضع للضم الإسرائيلي. شدّدت إسرائيل في اتفاقيات أوسلو على ضرورة فك الارتباط بين الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل وبين باقي أجزاء الشعب الفلسطيني.

إنّ استحواذ مفردات مثل "أحداث أكتوبر" على مساحات من الخطاب السياسي والشعبي الفلسطيني لتوصيف الهبة في الداخل يثير تساؤلا حول مصدر التسمية، وهي غريبة عن "اللغة الفلسطينية" وعن الحالة الفلسطينية. فالفلسطينيون يستخدمون أسماء الأشهر بالعربية أو بالأحرى السريانية وليس أكتوبر باللاتيني الغريغوري. فإذن لماذا "أحداث أكتوبر"؟

في الخطاب الفلسطيني والمشاعر الفلسطينية لا توجد إشكالية حقيقة في التسميات، فقد تبنتها جماهير شعبنا بعفويتها وباتت "أحداث أكتوبر" و"هبّة أكتوبر" كما "هبّة القدس والأقصى" ملك الناس بأوسع قطاعاتها، ومن هنا مصدر شرعيتها الشعبية. بل المسألة في النوايا الإسرائيلية سواء الرسمية أم الإعلامية. فطوال تاريخ المشروع الصهيوني جرى التعامل مع النضال التحرري الفلسطيني بتسميات استعمارية، فما كان انتفاضة وتمردًا في العشرينيات والثلاثينات أطلقوا عليه "أعمال شغب" أو "أحداث"، ثم "الإرهاب العربي" ثم "الإرهاب الفلسطيني".. إلخ، وكلها مفردات تقلّل من كيانية الشعب الفلسطيني.

وفي سياقنا هنا، ما كانت التسمية لتلفت النظر لولا أنّها أتت من العبرية، وهي الترجمة الحرفية لـ"إيروعي أوكتوبر"، وليس من عادتنا في مسيرتنا الكفاحية الطويلة أن نقوم بتعريب تسميات عبرية، خاصة وأنّ الحديث هنا حول المفاهيم والجوهر، وله بعدًا نظريًا وعمليًا سياسيًا. واستخدام مفردة "أحداث" فيه تقليل من مضمونها. لقد شكّل التزامن المذكور إرباكا للذهنية الإسرائيلية المسيطرة والتي مفادها في هذا الخصوص أن إستراتيجيات الضبط وتنميط السلوك طويلة الأمد تتعرض للخطر إن لم تكن قد انهارت، بما في ذلك فصل واقع ومصير ومشاعر فلسطينيي الـ48 عن القضية الفلسطينية وعن مجمل الشعب الفلسطيني. لكن الدول تملك أدوات سطوتها وأثرها وبالتأكيد أدوات التنشئة الاجتماعية والتذويت.

ثم إنّ تسمية "أحداث أكتوبر" هي حصريا من مفردات ومفاهيم "تيّار العمل" الإسرائيلي الذي يمعن في تعميق الفصل والتمايز بين الفلسطينيين، والذي، بخلاف اليمين، لا يستخدم تسمية فلسطيني، بينما الأخير استخدمها إمعانًا في نزع شرعية دورنا وحتى وجودنا وفي تأكيد "الخطر الوجودي" على إسرائيل. كما أن اليمين غير معني بحل على أساس دولتين في حدود الـ1967 ولا بتعديلها، ولذلك فهو منطقيا غير منشغل بهوية فلسطينيي الداخل، بل إنه مهتم في التأكيد على تماثل فلسطينيي الداخل مع شعبهم لكن ليس من باب حقوق الشعوب، بل وعلى سبيل المثال من باب المشاريع الاستعمارية المتمثلة في مشروع ترامب وضم سكان المثلث إلى السطة الفلسطينية. بينما حزب العمل المشغول في حل قائم على الانفصال بين الإسرائيليين والفلسطينيين والمحكوم بنظرة الاستعلاء والوصائية والمهووس بما يسمى الخطر الديموغرافي معني بفك الارتباط الفلسطيني الفلسطيني.

كما شملت التسمية المذكورة، محاولة إخراج سياق الهبة الفلسطينية في الجليل والمثلث والنقب والساحل من الحالة الفلسطينية العامة ومن الانتفاضة في الشق الآخر المكمل من الوطن. هي مسعى إسرائيلي لإنقاذ عقيدتها السياسية السائدة في هذا المضمار. لكن الدولة بأجهزتها فوق التيارين المذكورين ولمنظوماتها اعتبارات بحد ذاتها. فقد تعاملت الدولة مع المظاهرات بالاجتياحات واستخدام القناصة وإطلاق النار العمد من أجل القتل. لقد تعاملت مع الفلسطيني كفلسطيني سواء في عرابة أم سخنين أم في أُم الفحم والناصرة أم في رام الله ونابلس والقدس وجنين، ولا ضير في ذلك من حيث المبدأ، لكنها أرادت من الفلسطيني أن يجزّئ فلسطينيته، وكانت رسالتها الأخرى هي أن جنسيته الإسرائيلية لا تحميه بل تتعامل معه كعدو.

وإمعانًا في العقيدة الاستعلائية الحاكمة آنذاك، بادرت المؤسسة الحاكمة في حينه وبقيادة حكومة إيهود براك إلى ابتكار ما أطلق عليه "فوروم معاليه هحميشاه" نسبة إلى البلدة اليهودية في جبال القدس، والتي قادها يوسي بيلين أحد أهم أركان اتفاقيات أوسلو. وكان المسعى الإسرائيلي مقابل القيادات السياسية من الداخل هو إغداق الميزانيات والتي هي حق اساس للبلدات العربية وذلك لترسيخ فك الارتباط مع الانتفاضة الفلسطينية. حتى وإنْ فشلت جهود الحكومة الإسرائيلية في التوصل إلى توافق سياسي مع القيادات العربية في الداخل، بل خرجت لجنة المتابعة العليا بوثيقة "إني أتهم" وفيها توجيه لائحة اتهام إلى الدولة ومؤسساتها وإلى الحكومة ورئيسها ووزير الأمن الداخلي ولكل سياسات الإقصاء والعنصرية والقهر والاحتلال.

ما بدا حلمًا فلسطينيًا أو مسيرة نحو الحلم بالدولة وتقرير المصير والرفاهية والكرامة الوطنية، انهار وتلاشى. وفي مواجهة التجزئة واستبعاد مجموعتين من الشعب الفلسطيني وهما اللاجئون وفلسطينيو الـ48، وخطاب الحقوق الجماعية وفي التفتيش عن أدوات نضالية تُضاعِف الأثر، كان أحد تجلياتها العمل الدولي والسعي الجاد لوضع قضايا الجماهير العربية الفلسطينية في الداخل على جدول أعمال المؤسسات والمحافل الدولية والدفع لخلق وعي بأنهم جزء من القضية الفلسطينية وليسوا شأنا إسرائيليا داخليا.

في عودة إلى المشهد العام في الداخل خلال المواجهات، وفي الأيّام الأولى للانتفاضة كان شعور شعبي وبالذات لدى الأجيال الشابة بزوال مفهوم الخط الأخضر الفاصل عمليا فقط بين الفلسطينيين، ورؤية التكامل في تقاسم الهم الفلسطيني المشترك، وهي رؤية موجودة منذ 1948، لكن طابعها المنتفض كان فيه من الجديد، كما أن هذه الأجيال ولدت ونشأت في واقع سيطرة إسرائيلية مطبقة على كل فلسطين ولا تعير هذه الدولة أي اهتمام بالخط الأخضر القائم قانونيا والوهمي واقعيا ما دام الاحتلال. ليبقى هذا الجيل الذي احتل الشوارع ومداخل البلدات ومفارق الطرق، هو المشهد الأقوى للانتفاضة في الداخل أو هبّة القدس والأقصى. لم يردعه اجتياح البلدات العربية من قبل الشرطة الإسرائيلية وقوات الأمن ولا قناصتها، بل أن سقوط الشهداء زاده إصرارا على المواجهة والانتصار لإرادته في مواجهة العدوان الدموي المدجج على الشعب الأعزل.

وإذ شكّل نموذج الانتفاضة الثانية في أيّامها الأولى وهبة القدس والأقصى في الداخل، الحدث المفصلي الفلسطيني التكاملي وحصريا بالنسبة إلى الأجيال الناشئة في حينه، وشكّلت تحوّلًا في الفعل السياسي والشعبي، فإن ذلك كان ضمن المسيرة الكفاحية الطويلة والمتواصلة لجماهير شعبنا وأحداثها المفصلية وتحولاتها وتراكماتها. إنّها مسيرة مندفعة بقوة ذاتها انطلقت من واقع النكبة من ناحية، وفي المقابل، في "القيام من تحت الردم". يفيدنا دائما أن ننظر إلى هذه المسيرة كسياق وصيرورة نشهد تحولاتها باستمرار، حتى ولو أن الهبّة - كما الانتفاضة - كلّها جاءت ضمن سلوك ووعي ما بعد أوسلو وفي مسعى لمواجهة إسقاطات التجزئة التي عمّقها المسار.

هنالك هيئتان يجدر الالتفات لدورهما وذلك ليس انتقاصا من أية هيئة أو مبادرة أخرى تستحق الثناء، وإنّما من باب ماذا كان سيحصل لو لم تكونا قائمتين. والمقصود أولا لجنة المتابعة العليا للجماهير العربية والتي تمنح عملنا الجماعي بعدا كيانيا في كافة المجالات، والتي - رغم سوء الحال العام - تقود بجدارة هذا الموقع من الشعب الفلسطيني وفي سياق المقال تحيي سنويا ذكرى الانتفاضة والشهداء مكمّلة الوزن الأخلاقي للجنة أهالي الشهداء. إن تعزيز مكانة لجنة المتابعة بين جماهير شعبنا بات موضوعا مصيريا في حماية وجود ودور هذا الجزء من الشعب الفلسطيني كجزء من مجمل قوة شعبنا.

والهيئة الأخرى هي مركز "عدالة" ودور هذه المؤسسة في المرافعة القضائية والخطاب الحقوقي وفي إدارة الأمور مقابل "لجنة أور" (لجنة التحقيق) ومتابعة كل تطور بصددها حتى اليوم. وكشف كل ما سعت الدولة وأجهزتها إلى إخفائه والتستّر عليه بما فيه فضح طبيعة غلاف الأخلاقيات التي يسعى الجهاز القضائي الإسرائيلي إلى التبجّح به.

إن احتمال انفجار انتفاضة وهبّات شعبية متزامنة على كافة أنحاء الوطن ومن جانبي "الخط الأخضر"، سيبقى ناقوس خطر إستراتيجي من وجهة النظر الإسرائيلية، ناهيك عن نظرتها إلى احتمال إنشاء مشروع تكامل سياسي فلسطيني لتشمل منظمة التحرير مثلا فلسطينيي الـ48 كمركّب ضمن بنيتها. في المقابل، لا بدّ أن تسعى المؤسسة الصهيونية الحاكمة إلى خلق معادلة قائمة على الردع من ناحية وعلى توفير هامش مصلحة قد يخسرها الفلسطينيون، ولا يمكن التقليل من أثر الإستراتيجيات الإسرائيلية التفتيتية للشعب الفلسطيني وقضيته بما فيه جماهير الشعب الفلسطيني في الداخل. إنها في المجمل تدخل تحت مسمى "إستراتيجيات القوة الناعمة" وهي الأكثر نفوذا. كما أنه من الجدير بالشعب الفلسطيني ومؤسساته القيادية الالتفات إلى مواطن القوة الإستراتيجية التي يملكها والاستفادة منها في الظروف المناسبة.

المنحى العام يشير إلى تغييرات في السياسات الإسرائيلية تجاه الجماهير العربية الفلسطينية، وهي تغييرات لم تخرج من دائرة عقيدة الضبط والهيمنة، وإنّما الحديث عن تعزيز المساعي للاحتواء وتطوير بنية سياسية اقتصادية وتشغيلية واجتماعية طويلة الأمد تكون أساسا لتبنّي إنماط سلوك سياسي واقتصادي واجتماعي لصالح قواعد اللعبة الإسرائيلية غير المنشغلة بشعور الانتماء الوطني للفلسطينيين بل بسلوكهم وبمدى تطويعه لهندستها السياسية الاستعمارية. وهو مؤسَّس على إحداث تغييرات في بنية المجتمع.

إن هذا التحدي كبير ويزداد تعقيدًا مع مرحلة الضعف والتشتت الفلسطيني العام ومع انهراق أنظمة عربية نحو التطبيع مع إسرائيل وأثر ذلك علينا، ومساعي إسرائيل لاستخدام نخب علمية واقتصادية ورأسمال عربي فلسطيني من بين جماهير شعبنا، والتوّاقة للتواصل مع شعوبنا العربية، كذراع لسياساتها وإساءة استخدام توقها بتجييره في خدمة مصلح إسرائيل الاستعمارية في الوطن العربي.

التعليقات