12/10/2020 - 19:00

حول المشروع القوميّ العربيّ: ما أرى وما لا أرى        

إذا أريد للمشروع القومي العربي أن يقلع وأن يكون واعدًا، يكون ذلك لأنه مشروع ينطوي على تضامن وتعاون وشراكة، وربما نوع من الاتحاد لاحقًا، بين دول ديمقراطية، ومتصلة جغرافيا وذات مصالح مشتركة

حول المشروع القوميّ العربيّ: ما أرى وما لا أرى        

مشاركون في الثورة المصرية (أ ب)

لا أرى، وكنت أود أن أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلًا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو اقتسام النفوذ في أقطار الوطن العربي (خاصة، وإن لم يكن حصرًا، دول المشرق) بين ثلاثة محاور إقليمية، متنافسة ومتصارعة، هي التالية:

1- المحور الإيراني/ الشيعي
2- المحور التركي/ الإخواني (ودولة قطر لاعب فاعل فيه)
3- المحور السعودي/ المصري (ودولة الإمارات لاعب فاعل فيه)

هذا الانقسام إلى المحاور الإقليمية الثلاثة جاء في أعقاب انهيار المشروع القومي العربي الكلاسيكي، الذي امتد زمنيًا من منتصف خمسينيات القرن الماضي إلى أن لفظ أنفاسه في بداية التسعينيات من القرن ذاته.

كما لا أرى، وكنت أود أن أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلًا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو شبح الانقسام أو الانهيار "الدولاتي" الذي ما زال يحلق في سماء بعض الدول العربية. العراق مهدد بالانقسام ومثله اليمن، ومثل اليمن ليبيا، ومثلهما لبنان وسورية. وقد سبق السودان إلى ذلك حين انقسم إلى سودانين، وقد تلحق السعودية بذلك. هذا الانقسام أو الانهيار الدولاتي، كان، جزئيًا على الأقل، من نتائج الوعد الكاذب للربيع العربي، ذلك الربيع الذي سطع فيه نجم الإخوان المسلمين، ذلك النجم الذي سرعان ما خبا.

ولا أرى، ثالثًا، وكان بودي أن أرى، بشائر مشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور. وبدلًا عن ذلك، ما أرى، ولا يعجبني، هو ذلك التركيز المفرط، والحصري أحيانًا، على الدولة الوطنية/ القُطرية: نظام الحكم فيها، أمنها، مصالحها الضيقة، صراعاتها الداخلية، المخاطر التي تتهددها، وتحالفاتها الإقليمية والدولية. أما الحديث عن وحدة عربية أو اتحاد عربي، أو حتى تضامن عربي جدي، فقد أصبح من نصيب الرومانسيين من بين القوميين العرب، القدامى والجدد، خاصة المثقفين منهم.

باختصار، على من يفكر أو يلوح أو يبشر بمشروع قومي عربي جديد في المستقبل المنظور أن يدلنا، نحن العرب الحائرين، كيف يمكن التغلب على الشروط الهازمة (defeating condition)، وهي داخلية وإقليمية وعالمية. داخليًا، هناك الصدام المُزمن بين الفكرة القومية من جهة، وكل من المذهبية الدينية والطائفية والقبلية ونظام حكم الاستبداد من هذا النوع أو ذاك من جهة أخرى. إقليميًا، هناك الصدام بين الفكرة القومية ومصالح أو أطماع دول الإقليم المجاورة: إسرائيل وتركيا وإيران. وهناك، ثالثًا، صدام مع القوى العالمية المؤثرة ذات المصالح الإستراتيجية في المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا وبعض الدول الأوروبية الطامعة. هذا مع الأخذ بالحسبان، بالطبع، تداخل وتفاعل هذه الشروط الهازمة الثلاثة.

وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كانت الفكرة القومية محاصرة ومهددة، كما وصفت، وإذا كان المشروع القومي العربي الجديد تبعًا لذلك غير قادر على الإقلاع في المستقبل المنظور، فما الذي يجب أن تكون عليه أولويات عمل الحريصين على ترقية هكذا مشروع؟ وفي هذا الصدد، لا أرى بديلا مقنعا سوى ذلك الذي يدمج او يزاوج بين التركيز على إعادة بناء الدولة الوطنية/ القُطرية على أسس قويمة من جهة، وبين التأكيد على احترام ورعاية مجموعة من الالتزامات القومية من جهة أخرى. هذه المقاربة تقول: إعادة بناء الدولة الوطنية أولًا؛ وذلك خلافًا لما كان يقوله منظرو وأنصار المشروع القومي الكلاسيكي في خمسينيات وستينات القرن الماضي: الوحدة العربية أولا.

أما إعادة بناء الدولة الوطنية/ القُطرية على أسس قويمة، فيتطلب التأكيد على أمور كالتالية:

- تجاوز نظام حكم الاستبداد، واستبداله بنظام حكم ديمقراطي حقيقي يساوي في الحقوق بين جميع المواطنين، وبصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو الطائفية أو العرقية، وإلخ...

- الفصل بين الدين والدولة، ليس بالضرورة فصلًا صلبا كما في فرنسا وتركيا الكمالية.

- الاعتراف بالحقوق الجماعية للأقلية/ الأقليات غير العربية، ومنحها، إذا طالبت وأصرت، ذلك الشكل من الحكم الذاتي الذي يتلاءم مع خصوصية هويتها.

- سن التشريعات التي تساوي في الحقوق بين المرأة والرجل، وتلك التي تحظر التمييز على أساس اللغة أو العرق أو اللون أو الدين.

- تسوية النزاعات الحدودية بين بعض الدول العربية من جهة، وبينها وبين الدول غير العربية المجاورة من جهة أخرى.

- وهكذا.

وأما على الصعيد القومي العربي، فيتوجب التأكيد على التزامات كالتالية:

- عدم تحالف أي دولة عربية مع أي دولة أخرى، عربية أوغير عربية، ضد أي دولة عربية أخرى. وإضافة، مساندة أي دولة عربية تتعرض للعدوان من قبل دولة أجنبية.

- السعي لتوحيد الفضاء العلمي والأدبي والفني بين الدول العربية، وإقامة ورعاية المؤسسات والهيئات التي تعنى بذلك.

- التعاون بين الدول العربية لأغراض الأمن الغذائي والمائي ولمحاربة الفقر والأمية والتصحر.

- بناء شبكة مواصلات حديثة بين الأقطار العربية، وتشجيع التكامل الاقتصادي.

- وهكذا.

لا أجد حاجة لمزيد من التفصيل هنا حول ما يجب عمله وطنيًا/ قُطريًا، وحول ما يجب الالتزام به قوميًا عربيًا. المهم هو الحرص على الدمج أو المزاوجة بين الوطني/ القُطري والقومي/ العربي، مع الأخذ بعين الاعتبار بصورة جدية خصوصية كل دولة عربية.

وفي الإجمال، من ينادي بمشروع قومي عربي متجدد، أو يبشر به، منظرًا قوميًا كان أو حزبًا سياسيًا أو ملتقى فكريًا، يجب أن يدرك ويذوت التالي: إن إعادة بناء الدولة الوطنية/ القُطرية على أسس ديمقراطية حقة، وذلك إلى جانب التزامها بمحددات قومية (من قضايا وسياسات ومشاريع تعاون) هما حجر الأساس لمثل هذا المشروع. فإذا أريد للمشروع القومي العربي أن يقلع وأن يكون واعدًا، يكون ذلك لأنه مشروع ينطوي على تضامن وتعاون وشراكة، وربما نوع من الاتحاد لاحقًا، بين دول ديمقراطية، ومتصلة جغرافيا وذات مصالح مشتركة؛ مشروع يتغذى على، ويرتوي من، التجانس في الإرث الثقافي. وأخيرًا، إذا كنت لا أرى بشائر مشروع قومي كهذا في المستقبل المنظور، فإن صورة ذلك المشروع، كما حاولت رسم ملامحها العامة، قد تكون جاذبة للكثيرين من الديمقراطيين العرب، الأكثر تفاؤلًا بإمكانية تجاوز الواقع العربي الرديء في المستقبل غير البعيد.


* بروفيسور سعيد زيداني: أستاذ الفلسفة في جامعة القدس وجامعة بير زيت سابقًا.

التعليقات