03/11/2020 - 17:14

التطبيع فعل أعمى يقود عميانًا

أسمعتَ يومًا أن الإله، ربٌ وَلّى على العرب "أعمى يقودُ عميانًا؟! أو قرأتَ وصفًا أدقَّ من وصفِ المتنبي لملوكِ العرب حين قال: إنما الناسُ بالملوكِ، وما تَفلحُ عربٌ ملوكُها عجمٌ.

التطبيع فعل أعمى يقود عميانًا

عبدالله بن زايد وجابي أشكنازي (أ ب)

أسمعتَ يومًا أن الإله، ربٌ وَلّى على العرب "أعمى يقودُ عميانًا؟! أو قرأتَ وصفًا أدقَّ من وصفِ المتنبي لملوكِ العرب حين قال: إنما الناسُ بالملوكِ، وما تَفلحُ عربٌ ملوكُها عجمٌ.

أمثولةُ العميانِ هذه، هي من صاغت سؤالَ العمى، في اللحظةِ الأولى بعدَ الإصغاءِ لمِا تنطّعَ به رئيسُ حكومة دولة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، وهو يحتفي بسقوطِ ولاةِ السودان في أحضانِ كيانهِ الاستعماري الإحلالي قائلا: "هذه الاتفاقيةُ جيدةٌ ليست للقلبِ فقط ولكن للأمنِ والجيبِ أيضًا"؛ ما يُذكرنا بما قاله إسحاق بيرمي، أولُ رئيسٍ للرابطةِ اليهوديةِ العالميةِ في حفلِ افتتاحهِا في باريس (1860) إن "الرابطةَ التي نعملُ لأجلهِا ليست اتحادًا سويسريًا أو ألمانيًا أو فرنسيًا أو إنجليزيًا، وإنما هي رابطةٌ يهوديةٌ عالميةٌ، ويجبُ أن تستولي الفكرةُ اليهوديةُ على العالم.. وإن الشبكةَ – الخريطة القومية ومعمارها وتوابعها – التي ألقاها بنو إسرائيل لتبتلعَ العالم يومًا بعد يوم".

نحنُ إذن أمامَ مشروعٍ جادٍ معدّ له بشكلٍ جيدٍ منذُ أكثر من قرنٍ ونصفِ القرن؛ وهو مشروعٌ يُرادُ له أن يبتلعَ العالم، وإن انحصرَ هذا العالمُ منذُ بداياتِ القرنِ الماضي في حدودِ الشرق، على اعتبارِ أنّ الغربَ بات جزءًا لا يتجزأ من المشروعِ الفاعلِ منذُ عقدِ مؤتمرِ "كامبل بنرمان" عامَ 1907، ما يؤكدُ أن الهدفَ الأكبرَ ليس فلسطينَ وإنما الشرقَ بأكملهِ انطلاقًا من فلسطين.

بهذا المعنى علينا أن نُعاينَ بدقةٍ صورةَ هذا الشكلُ من الاستعمارِ في ظلِ مشروعِ إقامةِ مملكةِ الشرّ التي تبحثُ عن "العقائد المبتكرة"، بحسبِ تعبيرِ برلمانِ الأديانِ العالمي في مسوّغاتِ جائزةِ جوزيف تمبلتون للتقدمِ في الأديان، وإن اختلفت تفسيراتُ ماهيةِ هذه "العقائد المبتكرة" وعلاقتها بما يتمّ الحديث عنه اليوم تحتَ عنوانِ ما يُسمى بالسلام الإبراهيميّ أو "إبراهام".

علينا معاينةُ هذه الصورة بشكلها العينيّ وأدواتها الثقافية وأهدافها النهائية، خاصةً حينما نحارُ ما بين مفهوميّ العبوديّةِ والحرّيّة، إذ يطلُ برأسهِ سؤالُ الوعي الفردي والجمعي ما بين شعوبِ المنطقةِ وولاة أمرهم؛ وسؤالُ الوعي عادةً ما يرتبطُ ارتباطًا أصيلًا بسؤالِ الثقافة؛ وهذه الأخيرة ما فتئتْ تُسجلُ حضورَها البائسِ حينا، والمجتهدِ أحيانًا في ظلِ شيوعِ ما أصطلحَ على تسميتهِ بـ"ثقافة الهزيمة"، ومصلحةِ النظامِ العربي في شيوعها باتجاهِ محاولةِ التنميط التي راحت تعملُ بجديّةٍ، وكأنها تؤسسُ لربما لما يُمكن أن نطلقَ عليه مجازًا "لاهوت الهزيمة في الوعي العربي".

من التوقيع في واشنطن (أ ب)

واللاهوت الذي أشيرُ إليه هنا يأتي بالمعنى الديناميكي للكلمةِ لا المعنى العقائدي، أي معنى المرءِ الذي يذهب بقصدٍ أو دون قصد، ليكرّسَ كلَّ ما هو تقليديٌ ومنغلقٌ ومسلوبٌ بإيمانٍ يقينيٍ بشرطِ الهزيمة؛ ما يطرح سؤال العمى، حيث يجتهدُ أعمى يقودُ عميانَ الأنظمةِ العربيةِ في محاولةٍ جادةٍ للتشويشِ على العقلِ العربي، ذاكَ الذي بات من كثرةِ الانكساراتِ والخيبات، عقلًا جامدًا ومهزومًا عصيًا على اجتراح مفاهيم الانتصار ومقولاتها؟

وسؤالُ العمى هنا أظنهُ ينفتحُ على عديدِ التساؤلاتِ التي تتكاملُ مرةً، وتتجابهُ مراتٍ أخرى، ليس فقط على مستوى البعدِ الفكري، وإنما أيضًا في البعدِ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي. فإن كان تعريفُ مفردةِ الوعي وفقَ مقاييسِ اللغة، يُشيرُ إلى ضمِ الشيء، فإن مفهومَ الوعي اصطلاحًا يدورُ في فلكِ الحالةِ الإدراكيةِ لهذا الشيء على اختلافِ أصنافه؛ فهل أدركَ النظامُ العربي ماهيةَ هذا الضمّ وإلى أي اتجاهٍ يسوقُ شعوبَ المنطقة؟

هذه الإحالاتُ تأخذُنا مباشرةً إلى حالِ الصراع وأدواتهِ، خاصةً وأن الفلسطيني، الذي يُمثلُ كافةَ شعوبِ المنطقة في هذه الحالة، هو صاحبُ قضيةٍ تلعبُ فيها تعبيراتُ الروايةِ التاريخية للمنطقة العربية بأكملها دورَ البطولة؛ ما يعني أن صراعَ الرواية، هو صراعٌ لا يقلُ أهميةً عن الصراعِ السياسي، إن لم يتفوق عليه من جهةِ كتابةِ السرديةِ العربية وصياغتِها التاريخية السليمة التي يَكمنُ دورُها الأساس في حفظِ الذاكرةِ الوطنية للشرق، وفي القلب منه فلسطين.

تلك التي استهدفها تاريخيًا وبشكلٍ أساسْ الاستعمار الغربي، منذُ الحملاتِ الصليبيةِ وحتى يومنا هذا.

فإذا ما اعتبرنا أن ثقافةَ الهزيمة، هي ثقافةٌ مصطنعةٌ ووافدةٌ كنتيجة طبيعية لموجة الاستشراق التي شهدتها المنطقة منذ بدايات القرن العشرين وما قبله، قد استهدفت مخيالَ الهويةِ في السرديةِ العربيةِ لدى شعوب المنطقة بشكلٍ فرديٍ وجماعي، بغيةَ خلخلةِ المفاهيمِ والانتماءات، وقد نجحت إلى حدٍ ما في الإطارِ النظري ومُنتجهِ النخبوي السياسي؛ فنحن بالضرورةِ في حاجةِ ملحةٍ لمواجهةٍ فكريةٍ باتت مفتوحةً وحتمية.

ولكي ننتجَ مجابهةً واعيةً وفاعلة، ترتكزُ بالأساسِ على بنى التشخيص والنقد، باتجاهِ التفكيكِ والهدم، علينا أن نُميزَ جيدًا ما بين ضروراتِ النقدِ وشعبويتهِ، لأن الأوّلَ حاجةٌ وضرورةٌ تستهدفانِ خصائصَ الحالة، ورصد حركتها التاريخية ومركباتِها الذهنيةِ والفكريةِ لكافةِ المكوناتِ المجتمعية في الشرق، نحو ترسيخِ وعيٍ جمعيٍ فاعلٍ يُمكنه أن يُسهمَ في تأسيسِ مقولةٍ أخرى لثقافةٍ منتصرة، أو مقاومةٍ على أبعدِ تقدير.

أما الثاني وأعني "النقد الشعبوي" لا يُنتجُ إلا خطابًا مأزومًا يُعيدُ بشكلٍ أو بآخر إنتاجَ الثقافة ذاتها في حيزِ التداول، وبالتالي التداعي في شباكهِا، بما يحققُ الانتصارَ علينا مرتين؛ مرةً حين أوفدَت إلينا، ومرةً حين حاولنا منازلتَها باستخفافٍ ورعونةٍ، فتمكنت منا. ليصبحَ فعلُ التطبيع، فعلَ أعمى لم يقرأ التاريخ قبلًا يقودُ شرذمة عميانٍ لم تفهم التاريخَ يومًا.

التعليقات