02/01/2021 - 16:17

الوعي التحرري بأبعاده الثلاثة

المهمّة المطروحة على القوى الفلسطينية التقدمية، خاصّة التحررية ذات النزعة الديمقراطية الإنسانية المناهضة لأنظمة القهر والطغيان والاستغلال، هو الدّفع نحو استثمار التحولات في الساحة الأميركيّة والأوروبيّة الشعبيّة وغيرها، والتشبيك مع قواها والسعي إلى استعادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني.

الوعي التحرري بأبعاده الثلاثة

منذ عام 2016، وجد الأميركيّون أنفسهم، وكذلك شعوب العالم، في مواجهة تهديدين خطيرين كبيرين لمّا يختفيا بعد. الأول: تمثّل في وصول رئيس يميني شعبوي عنصري نزق مستهتر بتقاليد السلطة الأميركية الرسمية؛ والثاني: جائحة كورونا التي قتلت حتى الآن مئات الآلاف، ناهيك عن الآثار الاقتصادية والاجتماعية بعيدة المدى.

التهديد الأول زال. ولكن على المستوى الرمزي فقط، إذ أن إرث الترامبية لا يزال حاضرًا وقويًا في نسيج المجتمع الأميركي، ويسدّد الضربات داخل الولايات المتحدة وخارجها. وهذا يدفع المتضررين للبقاء في حالة تأهب واستعداد لمواصلة الحراك والغضب ولمحاصرة آثارها من أجل عالم أقل قسوةً وأكثر رحمةً، ومن أجل مجتمعات صحية وآمنة، ومزدهرة اقتصاديًا وعلميًا وروحيًا.

لقد شلّت جائحة كورونا العالم بأسره، وقلبت حياة الناس رأسًا على عقب، ما فاقم ظروف البؤس التي يعيشها أصلا مئات ملايين البشر في مناطق الحروب الإمبريالية والإقليمية والمحليّة التي تجري بالوكالة أو في مناطق الثورات العادلة، التي يضربها الفقر والقهر والقمع الوحشي.

إن التهديد الأول، المتمثل في الأيديولوجيات والسياسات الشعبوية والعنصرية والرأسمالية المتوحشة، هو من صنع الإنسان.

بينما التهديد الثاني هو من صنع الطبيعة. غير أنّ الفشل المريع في التحضير المسبق لمواجهة وباء خطير توقعه العلماء منذ سنين يتحمله البشر، وتحديدًا من يديرون ويعيدون إنتاج النظام النيوليبرالي العالمي الظالم، الذي تحرّر من كل القيود، ليصبح أكثر ظلمًا وقسوةً وعدوانيةً بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، الذي مثّل، حتى عام 1991، القطب المضاد للمعسكر الرأسمالي. وهو سقوط صدم الكثيرين، خاصة بسبب حجم الأوهام التي كشفها.

ولكن يمكن فهم هذين التهديدين فقط في كونهما نتيجة منطقية لهذا النظام العالمي الذي قادته الإمبراطورية الأميركيّة منفردة، منذ ثلاثة عقود.

إن الادّعاءات الزائفة والمضللة عن انتصار الرأسمالية المتوحشة ونهاية التاريخ التي أطلقها منظّرو النيوليبرالية، فرانسيس فوكوياما، فور تفكّك المعسكر الشيوعي، ورافقتها موجة واسعة جديدة من الحروب الوحشية والمدمرة والصراعات الإقليمية والمحلية والفجوات الاقتصادية الواسعة أقدمت عليها الإمبراطورية المنتصرة وأدواتها، من أنظمةٍ رجعيّةٍ يمينيّةٍ استبدادية في مناطق مختلفة من العالم، بهدف فرض وتكريس ديانة السوق عالميًا، التي تفضل الربح على الإنسان.

في المقابل، قادت شرور هذا النظام إلى انطلاق موجة وعي جديدة على مستوى الشعوب بمصدر الظلم النابع من استبداد السوق وحكم الأوليغاركيّة الغنية المافيوية. فمنذ أكثر من عقدين نشهد نهوضًا ونموًا يتزايد ويتصاعد باستمرار لحركات الاحتجاج والتمرّد والثورة، وعودة مكثفة للنضالات الطبقية والاجتماعية والديمقراطية والعرقية والجندريّة، التي تنحو نحو التقاطعية (تقاطع النضال) ليس في دول الأطراف فقط - في العالم الثالث، بل في دول المركز الرئيسية، وهي الولايات المتحدة الأميركيّة وبريطانيا وفرنسا وغيرها.

لقد جرى الاحتفال بهزيمة دونالد ترامب كرئيس مثّل أكثر تجليات اقتصاد السوق غير المنضبط والشعبوية العنصرية فظاظة وكلبية، ليس فقط من قبل عشرات الملايين من الأميركيّين بل من معظم شعوب العالم (باستثناء المجتمع الاستيطاني الصهيوني) وهذا أمر مفهوم. ولكن القوى التقدمية والأطر الشعبية والنقابيّة ومنظمات المجتمع المدني في أميركا والعالم، بما فيها الفلسطينية والعربية، تدرك تمامًا أن فوز مرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، ليس البديل التقدمي. وترى، خاصّة القوى التقدمية في أميركا، في هذا الفوز خطوةً نحو نشاط شعبي وتنظيمي أكثر جذرية وأكثر جديةً في الطريق نحو إحداث تغيير عميق في مبنى السياسات الأميركيّة خارجيًا وداخليًا. وتنتصب أمامها تحديات ضخمة خاّصة وأنّ الخراب الداخلي الذي فاقمه ترامب كبير وله آثار بعيدة المدى. غير أن الأمر المشجّع هو تحسن مكانة اليسار الأميركي بأطيافه المختلفة، الفكرية والإثنية والعرقية، بما فيها تحولات الرأي داخل اليهود الأميركيين خاصّة بين الأجيال الجديدة، سواء تلك المرتبطة بالحزب الديمقراطي أو التي تنشط مستقلة عنه، والتي لولاها - وباعتراف أوساط واسعة في أوساط الحزب - لما خسر ترامب مقعد الرئاسة.

أين تقف القضية الفلسطينية في هذا المشهد السياسي المتحول دومًا، و كيف سيكون حال النضال الفلسطيني التحرري؟ هل تسمح هزيمة ترامب بتشكّل إدارة تقطع جذريًا عن بنية السياسات الأميركيّة تجاه قضية فلسطين أم أنّ الإدارة الجديدة ستعيد إنتاج نفس الأوهام التقليدية والمدمرة عمّا تسمى "عملية السلام"، وهي من أكبر عمليات التضليل في تاريخ التوسط لحل صراع تحرري؟ وكيف على الفلسطينيين أن يعيدوا قراءة الداخل الأميركي، الرسمي والشعبي، والخروج بتصورات تفيد تحررهم؟

والسؤال ليس موجّهًا إلى المهزومين من أبناء شعبنا - وأقصد القيادات الرسمية - وليس إلى الشعب الذي يختزن الغضب بل إلى القوى والأطر الشعبية والأكاديمية والفكرية والشبابية التي تنشط من أسفل والتي لم تنجح حتى الآن رغم كل جهودها، وما حققته من إنجاز على مستوى الحفاظ على الوعي السليم من الانتظام في تيار ثالث والانضواء تحت مظلة وطنية عريضة واضحة الأهداف والتصورات والخطط العملية.

وفي إطار سعينا لتحقيق هذا الجهد، والذي يستدعي أوّلًا استعادة الوعي أو المعرفة برواية التحرر، من الأهمية بمكان تذكير أنفسنا أن النظام الإمبريالي الرأسمالي القائم هو الذي خلق المأساة الفلسطينية المستمرّة، كما خلق صراعات كثيرة أخرى، وهو الذي احتضن الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر وتبنّى وموّل خطتها في طرد سكان فلسطين وتهويد قُطرٍ عربي. وكان لهذه الخطة هدفان، الأول: التخلص من يهود أوروبا كطريقة لترجمة اللاسامية الأوروبيّة خارج حدود القارة، وهكذا التقت العنصرية الأوروبيّة مع عنصرية الحركة الصهيونية كحركة عنصرية بيضاء؛ الثاني: تحقيق أهداف التوسع والاستعمار والاستغلال الاقتصادي. إن هذا النظام الرأسمالي الاستبدادي والعنصري وعديم الرحمة - رغم التحولات التي طرأت على آليات السيطرة، ورغم نضالات الشعوب العظيمة، والتي نجح منها الكثير وفشل الكثير منها أيضًا - لا يزال قويًا وعدوانيًا، مع أنّه مسكون بأزماته المتكررة.

ولذلك ستكون كارثيةً العودة إلى المراهنة على الإدارة الأميركية والانخراط مجدّدًا في المفاوضات التي ستكون هذه المرة مسنودة بأموال طائلة إضافية، بهدف الحفاظ على يهودية الكيان الإسرائيلي وعرقلة المشروع التحرري الفلسطيني والتنكّر للعدالة والحقوق، وكذلك بهدف المضي في مخطط إتلاف النخب وتعزيز تبعيتها ووكالتها للاحتلال والاستعمار الاستيطاني.

المهمّة المطروحة على القوى الفلسطينية التقدمية، خاصّة التحررية ذات النزعة الديمقراطية الإنسانية المناهضة لأنظمة القهر والطغيان والاستغلال، هو الدّفع نحو استثمار التحولات في الساحة الأميركيّة والأوروبيّة الشعبيّة وغيرها، والتشبيك مع قواها والسعي إلى استعادة حركة التحرر الوطني الفلسطيني كجزء من حركة التحرر العالمية وحركة التحرر العربية، من أجل حرية وحقوق الشعوب في الحياة الحرة الكريمة. على هذا الأساس يجب أن يتأسس وعينا الجمعي؛ الوطني الفلسطيني والقومي العربي والإنساني الأممي العالمي الجديد.

هذه الأبعاد الثلاثة بات توفرها شرط للانتصار.

التعليقات