31/01/2021 - 17:34

إسرائيل وتجريم التواصل بين الشعب الفلسطيني: نظرة قانونية

فماذا يبقى لمن اتهم بـ"التواصل مع عميل أجنبي"، لإثبات "براءته" في المحاكم الإسرائيلية، تقريبا لا شيء.

إسرائيل وتجريم التواصل بين الشعب الفلسطيني: نظرة قانونية

العميل الأجنبي هو أبناء العائلة والأصدقاء

عملت دولة إسرائيل على تهجير أبناء الشعب الفلسطيني وتشتيته في أرجاء البلاد، وأغلقت الحدود، وسنّت القوانين لضمان قطع أي تواصل بين أبناء الشعب الواحد. وجاء قانون أملاك الغائبين، المعروف بقانون "الحاضرين الغائبين"، ليحدد من هو مواطن ومقيم ومن هو خارج هذا التعريف - الغائب، ووضعت "الوصي" العام على أملاك من سمتهم "الغائبين" والأصح كان تسمية المصطلح "الغائبين قسرا"، وحدّدت وصايته بوضع اليد على الأملاك وبضمان عدم عودة الأملاك لأصحابها ، ثم منعت عودة المهجرين حتى المهجرين في الداخل الفلسطيني.

ويعمل القانون بشكل دائم على تثبيت وضمان "يهودية الدولة" وضمان عدم عودة التواصل بين أبناء الشعب الواحد وعدم إعطاء أيّة إمكانية لعودتهم لداخل حدودها التي رسمتها بنفسها ("قانون القوميّة" على سبيل المثال). عمل القانون الإسرائيلي ويعمل بشكل دائم على تقطيع أوصال الفلسطينين الذين بقوا في الوطن، وتحوّلوا إلى مواطنين فيها عن أبناء شعبهم والشعب العربي ككل وتجريم تواصلهم.

وبينما قامت الدولة على أساس "تجميع المشتّتين" من اليهود في العالم، وأعطت لكل يهودي - أيًّا كان - وفي أي مكان ووقت "حق العودة" وتعتبر كل يهودي لكونه يهوديا صاحب أحقية فيها ويحق له الحصول على المواطنة، فإنها تواصل تجريم أبناء الشعب الواحد والذين شتّتهم بنفسها. وتكمل القوانين بعضها لترسّخ مبدأ يهودية الدولة وتجريم أيّة علاقة بين أبناء الشعب الواحد.

جاءت شبكات التواصل الاجتماعي لتكثّف وتتيح إمكانيات أكبر للتواصل. ورأينا الأخوة الذين قطّعت أوصالهم النكبة، يلتقون على شاشات الـ"سكايب" والـ"فيسبوك" والـ"زوم" ويتحادثون ويضحكون ويبكون، ورأينا الجدّات التي خطت السنين خطوطها على أجسادهن، وهنّ يشاهدن بلداتهن اللاتي تركنها طفلات ليعدن فيشاهدنها من عبر الشاشات. وتشكلت مجموعات تواصل بين أبناء البلد الواحد والعائلة الواحدة، مثال "ترشيحا حكاية وطن"، لقاءات تحمل وجعا وألمًا وفرحًا وحنينًا.

جاء القانون الإسرائيلي، مرّة أخرى، ليُجرّم التواصل ويسميه بمسميات "أمنية". كما استهدفت إسرائيل وتستهدف كل تواصل من خلال تسمية أبناء الشعب الموجودين في الشتات وفي بلاد اللجوء العربية والمخيمات بـ"العميل الأجنبي".

كيف يعمل القانون الإسرائيلي لتجريم التواصل بين أبناء الشعب الواحد

من هو هذا العميل الأجنبي وكيف يعرّفه القانون الإسرائيلي؟ ومن هو العدو؟

يشمل قانون العقوبات الإسرائيلي (1977) تعريف العدو وتعريف العميل الأجنبي. فالعدو (بند 91) هو " طرف محارب أو في حالة حرب ضد إسرائيل أو يعلن عن نفسه أنّه كذلك، سواء كانت هناك حالة حرب ام لم تكن، وسواء كانت هناك "عمليات عدائية عسكرية"، وأيضا تنطيم إرهابي. يخصص قانون العقوبات فصلا كاملا عنوانه - التجسس ( بنود 112-116). فيعرّف التهمة والعقاب لكل منها.

جريمة التسبب بالموت إهمالا في الجنايات تضاهي إيصال المعلومة للعدو بالإهمال

تهمة "إيصال معلومات" وإذا ما قارناها بعقوبات لمخالفات جنائية أخرى من داخل القانون نفسه تعتبر هذه العقوبات عقوبات عالية، تشمل عامل الردع والترهيب الجماعي إضافة للفردي. فعلى سبيل المثال يعتبر جريمة إيصال معلومة للعدو أو لصالح العدو عن طريقة الإهمال أي من تسبب بإهماله وصول معلومة للعدو (بند 111) وعقوبتها السجن الفعلي 3 سنوات، بينما نرى أن من تسبب بسبب إهماله بموت شخص (بند 304 من قانون العقوبات) أيضا تصل عقوبته لـ3 سنوات.

فيتساوى، هنا، عند القضاء فعل الإماتة/التسبب بالوفاة بفعل إيصال المعلومة، كانت هذه المعلومة أيًّا كانت.

ما هي تهمة "إيصال المعلومات" وما هي مركباتها وعقوبتها؟ ومن هو هذا العميل الأجنبي؟!

الاكتفاء بالنية للتجريم وعدم اشتراط حدوث الفعل نفسه

يشمل فصل التجسس في قانون العقوبات عدة بنود فرعيّة في داخله. يتركز بند 114 في تهمة "التواصل مع عميل أجنبي".

تشمل التهمة عدة مركبات لتكتمل: المعرفة المسبقة ("من قام بشكل واعٍ")؛ والفعل ("بتوصيل المعلومة")؛ والطرف الآخر ("للعدو أو من أجله")، يضاف عامل النوايا بحصول نتيجة معينة للمس بأمن الدولة.

بمعنى لا يشترط القانون حصول النتيجة أو إحداث الضرر، بل يكتفي بالنيّة نفسها لتجريم العمل. وعمليا تتحول التهمة هنا لـ"النيّة بـإيصال المعلومة".

ورغم أن بند 114 هـ يتحدّث عن محاججات الدفاع، فيؤكد أنّه من الممكن أن تُشكّل حماية جيّدة إذا نجح المتهم في إثبات حسن نواياه في ما يتعلق بالمعلومات - بمعنى "من قام بجمع معلومة، تحضيرها، تسجيلها، الاحتفاظ بها عن نية حسنة ولهدف معقول" - إلّا أنّه لا يحدد ولا يعرّف معنى "معقول"، وهذا أمر إشكالي آخر، فهو معيار شخصي بمعنى المعقول بالنسبة لك ليس معقول بالنسبة لشخص آخر، ويعطي المجال لاعتبارات القضاة.

إشكالية – إلقاء مسؤولية إثبات البراءة على عاتق المتهم، وليس كما تقول القاعدة: المتهم بريء حتى تثبت إدانته!

يحدّد بند 114 أ "من قام بالتواصل مع عميل أجنبي بشكل واعٍ، وليس لديه أي تفسير لذلك- عقوبته 15 سنة سجن".

الإشكالية الكبرى هنا أنّ القانون يضع المسؤولية على الشخص المتهم بإثبات وإعطاء التفسير ليثبت براءته وعدم وجود النية لديه بإحداث الضرر والمس بأمن الدولة، وهذا أمر إشكالي بحدّ ذاته لسببين. أوّلًا، كونك من الممكن أن تتواصل مع شخص ولا تعرف أنّه "عميل أجنبي"، خاصّة هذه الأيام حيث وسائل التواصل الاجتماعي مفتوحة أمام الجميع والجميع يتواصل مع الجميع؛ وثانيا، الدولة ممكن أن تدّعي أنّه كانت لديك نيّة المس بأمن الدولة وعليك أنت أن تثبت العكس.

في المخالفات الأخرى من قانون العقوبات، حتّى في حالات القتل، ممكن أن يجلس المتهم في قفص الاتهام ولا ينطق بأية كلمة ولا يضطر أن يثبت أي شيء ليؤكد براءته ويكون على النيابة الاجتهاد لإحضار الأدلة والبينات التي تؤكد قيامه بعملية القتل، وإن لم تنجح تبطل لائحة الاتّهام ويطلق سراح المتهم. أمّا هنا، فالعكس هو ما يحدث وتتضاعف الإشكالية خاصّة حيث تقوم النيابة بتقديم أدلة سرية تقبلها المحاكم الإسرائيلية بالغالب، وتمنع من طاقم الدفاع معرفة مضمون ومصدر هذه "المعلومات" فيصبح محامي الدفاع وكأنه يضرب الكرة إلى الحائط لتعود إليه كما ضربها. لا يكون لمحامي الدفاع القدرة الحقيقية للدفاع عن موكله لأنه لا يملك المحاججات ولا المعلومات السرية التي تملكها النيابة والمحكمة، فتصبح النيابة والمحكمة وحدة واحدة والمتهم ومحاموه الطرف الآخر. وكونه هو المطالب بإثبات براءته لا العكس، فتقريبا تكون المحاججة مقيَّدة، واحتمال نجاح الدفاع منخفضًا جدًا. فالتهمة مفصّلة وموجودة مسبقا والمحكمة تقبلها وتقبل الأدلة السرية وتمنع عن الدفاع عمليا الأداة الوحيدة للدفاع. وحتى لو حاول إثبات "براءته" وإثبات عدم وجود نيّة لديه، هذا لا يعفيه بالضرورة من الحكم.

تكتفي النيابة بطرح تهمة "التواصل مع عميل أجنبي" ويكون على الـ"المتهم إثبات براءته" والسؤال المبدئي براءته من ماذا؟ ومجدّدًا يطرح السؤال من هو العميل الأجنبي، وما هي المعلومات المهمة؟ فهل على سبيل المثال إرسال صور لبلدة المهجر التي اضطر أهله لتركها عام 48 بحاراتها وبيوتها من قبل أقاربه هنا يعتبر تهمة؟ هل إذا أرسلت من خلال تطبيق تحديد المكان "لوكيشين" وأنا أتمشّى على شاطى البحر جريمة؟ وإذا صدف وكان هناك أي مبنى عسكري أو أمني قريب، هل يعتبر ذلك بالنسبة للدولة "نية للمس بأمنها"؟ في هذه الحالة، مثلًا، لو قُدّمت لائحة اتهام ضدي يكون علي كمتهمة أن أثبت براءتي وعدم وجود نيّة لدي بايصال معلومة، وهو أمر غير منطقي ولا يتماشى مع مبادئ ومفاهيم القانون الجنائي ولا قانون العقوبات العام.

إشكالية تعريف مصطلح "العميل الأجنبي".. مصطلح مطّاط إشكالي. لماذا؟

يعرف بند 114 ج مصطلح "عميل أجنبي" بأنه من يوجد أساس معقول للشك بأنه عمل، أو تم إرساله للعمل، من قبل دولة أو تنظيم إرهاب أو لأجلهم، بتجميع معلومات سرية أو أعمال أخرى التي ممكن أن تُلحق الضرر بأمن دولة إسرائيل، وكذلك من يوجد أساس معقول للشك بأنّه عضو في تنظيم إرهابي أو له أية صلة بهم أو عمل نيابة عنهم"، بمعنى أنّ القانون يُحمّلك مسؤولية معرفة ما يدور بذهن الشخص الذي أمامك ولا يكتفي بما تفكر أنت وما تعرف عن الشخص الآخر. ويحدد العقوبة في بند 116 بالسجن الفعلي 7 سنوات أو أكثر، أي أنّه يحدّد الحد الأدنى بـ7 سنوات، وبإمكان المحكمة فقط زيادة الحكم. وهي عقوبات عالية جدا إذا ما قورنت بعقوبات أخرى في القانون ذاته.

يشمل بند القانون استثناءً لحماية المتهم، إذ "لا تتمّ إدانة شخص حسب هذا البند إذا أثبتَ للمحكمة أنّه لم يقم ولم يقصد أن يقوم بشيء يؤدي إلى المسّ بأمن الدولة"، لكنّه يضع مجددا على "المتهم" عبء إثبات "براءته" وليس العكس. وهي عملية شبه مستحيلة عليه أن يواجه تقارير استخباراتية سريّة لا يحق له معرفه كنهها ولها وزنها القانوني، بالنسبة للمحكمة بشكل لا يقل عن الأدلة والبيّنات الملموسة.

بناء على بند 34 ك ب من قانون العقوبات، لا يتم تحميل المسؤولية الجنائية لمخالفة ارتكبها شخص إلا إذا تم إثباتها بما لا يدع مجالا للشك. أما في بند التواصل مع عميل أجنبي فتكفي "محاولة" التواصل ولا يُشترَط اكتمال الفعل (التواصل) للإدانة. أي أنّ التهمة هنا هي المحاولة وليس شرط حصول التواصل الفعلي.

إشكالية إضافية في هذا القانون أنّه يساوي بين العقوبة تجاه "محاولة القيام بمخالفة" وبين ارتكابها فعليا.

يحدد بند 27 من قانون العقوبات عقوبة خاصة للمحاولة، ويؤكّد أنه في الحالات التي حدد فيها القانون عقوبة إلزامية أو حدّا أدنى للعقوبة لا يطبق نفس الحكم على محاولة القيام بالمخالفة/الجناية نفسها. على سبيل المثال، في حالات القتل عمدا يُطبق حكم بالسجن المؤبد كما ينص بند 300 أ. لكن لا يتم تطبيق الحكم نفسه على من قام بمحاولة القتل. فحكم من قام بالقتل هو عشرون سنة سجن (بند 305).

أما في ما يتعلق بالعلاقة مع عميل أجنبي وأمن الدولة، فإنّ عقوبة المحاولة مساوية لعقوبة الفعل نفسه. فيؤكد بند 92 منه أن "عقوبة من يحاول أن يقوم بمخالفة، بناء على هذا الفصل (القصد الفصل ز وعنوانه - أمن الدولة) هي عقوبة موازية للمخالفة نفسها".

****

فماذا يبقى لمن اتهم بـ"التواصل مع عميل أجنبي"، لإثبات "براءته" في المحاكم الإسرائيلية، تقريبا لا شيء.


* محامية وناشطة حقوقيّة

التعليقات