07/03/2021 - 18:51

ما هكذا تُورد الإبل يا د. ناصر القدوة!

من الواضح أن هناك عدم وضوح لدى الدكتور القدوة عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية على أرض فلسطين التاريخية، ما ساهم في عملية التشويش العدائية لكل من يدعو لهذا الحل التحرري.

ما هكذا تُورد الإبل يا د. ناصر القدوة!

ناصر القدوة (وفا)

كل هذا الإصرار العنيد على تجنب رؤية الفيل في الغرفة، أي المأساة التي أوصلتنا إليها اتفاقيات أوسلو بقتل أيّ إمكانية لإقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وقيام نظام "أبرتهايد" واحد تتحكم به منظومة الاستعمار الاستيطاني، مؤشر على عدم جديّة ما يطالب به الدكتور ناصر القدوة من تغيير للنظام السياسي الفلسطيني. لكن تكمن المفارقة في كونه أحد مهندسي هذا النظام بما يمثله، وما نستطيع أن نطلق عليه "أيديولوجيا حلّ الدولتين".

والحقيقة أنه لا يفوّت فرصة للهجوم على الحل الديمقراطي الوحيد الذي يكفل الحد الأدنى من حقوق الشعب الفلسطيني، بكل مكوناته في مناطق 1948 و1967 والشتات، ففي آخر تصريحاته خلال لقاء جمَعه مع إعلاميين فلسطينيين عبر منصة "زووم" للترويج لبرنامجه الجديد/ القديم، تطرّق إلى حل الدولة الديمقراطية الواحدة، قائلا إن "داعمي مصطلح ’الدولة الواحدة’ شعبنا يرفضهم وهم أقلية".

وبغضّ النظر عن عدم علمية ودقة هذا التصريح، إلا إنه يدعو للتساؤل إن كان شعبنا، الذي تم تصغيره لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة فقط، قد رفض القائمة الطويلة التي تبدأ بإدوارد سعيد ولا تنتهي بمريد البرغوثي!

وكان الدكتور القدوة قد دعا سابقًا لاستبعاد "الكلام الرومانسي الضارّ" حول ما يسمى بحل "الدولة الواحدة"، مع إصرار على أن الحل يكمن في دولتين، دولة فلسطين على 22% من فلسطين، ودولة إسرائيل على 78% من الأرض، على الرغم من أن حل الدولتين بجوهره عنصري ولا يعبر عن حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ولا يحتوي على آليات تطبيق قرار الأمم المتحدة 194 المتعلق بعودة اللاجئين، ولا الحق بالمساواة الكاملة لـ1.6 مليون مواطن فلسطيني من سكان دولة إسرائيل.

ولكن ماذا لو رفض الفلسطينيون حل الدولتين العنصري، حتى لو تم الادعاء بوجود تأييد أممي له؟ وما هي البدائل لذلك؟

أصبح من المعلوم للقاصي والداني أن اعتراف منظمة التحرير بإسرائيل، دون اعتراف الثانية بحقوق الشعب الفلسطيني الأساسية ولا حتى حقه بتقرير المصير، يرتبط بتبرير براغماتي يقوم على أساس تجنب توجيه اللوم للطرف الفلسطيني من قبل الولايات المتحدة، وبالتالي ما يعقب ذلك من نتائج وخيمة. والحقيقة أن عدم التزام دولة الاحتلال بتجميد الاستيطان، الذي لم يتوقف منذ توقيع اتفاقيات أوسلو، وتخليها عن التزامها الشكليّ بحلّ الدولتين العنصري، وبالتالي توجيهها رصاصة الرحمة لهذا الحل الذي يقوم على الفصل بين السكان الأصليين على أساس هويتهم الدينية، مسلمة ومسيحية، ومجتمع الاستعمار الاستيطاني بهويته الإثنية -الدينية (اليهودية - الأشكنازية).

ولنحاول في هذا السياق الرجوع لتعريف الأبرتهايد حتى نستوعب محاولات إعادة تعليب أوسلو وحل الدولتين العنصري؛ وهذا بالضبط ما رفضه شعبنا، أو بالأحرى سكان الضفة الغربية وقطاع غزة في انتخابات عام 2006 التي جاءت نتيجتها لا لتعكس تأييدًا للتيار الإسلاموي، بقدر ما كانت رفضًا لأيديولوجيا حل الدولتين على الرغم من الأموال والميزانيات الضخمة التي تم ضخها للترويج له.

في حدود علمي، فإن من أفضل العقول الفلسطينية هي تلك التي نادت بحل الدولة الديمقراطية الواحدة التي تضمن حقوق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى القرى والمدن التي طُهرِّوا منها عرقيًا، والحقوق القومية والثقافية لسكان الأرض الأصليين، وهم من غير "الرومانسيين" أو "الطوباويين" الذين "رفضهم شعبنا"! مثل إدوارد سعيد، ونصير عاروري، وغسان كنفاني، ونور مصالحة، وغادة الكرمي، وعوض عبد الفتاح، وسماح سبعاوي، وسوزان أبو الهوى، وجوزيف مسعد، ونديم روحانا، وعمر البرغوثي وغيرهم/ن؛ إلا إذا كان المقصود هو رومانسية الثوار الذين يتحدّون الأمر الواقع الاضطهادي الذي تخلقه قوى استعمارية.

نعم كان مانديلا "رومانسيًا" عندما قامت قوات النظام العنصري باعتقاله عام 1964 يحلم بجنوب أفريقيا غير عنصرية، يعيش فيها كل السكان السود والبيض متساوين في الحقوق والواجبات. كذلك مارتن لوثر كينج الذي دفع ثمن "رومانسيته" وحلمه بأميركا تحكمها المساواة. ولكن لأن المساواة لم تكن في يوم من الأيام جزءًا من الخطاب السياسي الفلسطيني، فتم تصغير مفهوم التحرير، أي الحرية والعودة والمساواة التي يضمنها حل الدولة الديمقراطية، إلى استقلال الضفة الغربية وقطاع غزة وتسميتهما "فلسطين"، من خلال الادعاء بواقعية هكذا حل. وهذا نتاج تراكمات عملت على جعل "الاستقلال الوطني" على جزء صغير من الوطن الهدف الأسمى، وتحول النضال ضد استعمار استيطاني إحلالي إلى كفاح وطني ضد احتلال أجنبي لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة.

هل إعادة خلق العجلة، عجلة أوسلو القائمة على حل الدولتين العنصري وترويجه في برنامج انتخابي يتمّ الادعاء بأنه "جديد"، تشكّل بديلا للواقع السياسي الذي يريد الدكتور القدوة تحدّيه؟

هل المطالبة بالحرية والعدالة والمساواة ضربٌ من الخيال؟ هل حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني يتعارض مع الواقع الدولي؟ وهل حق تقرير المصير يقتصر على إقامة دولة فلسطينية مستقلة لسكان الضفة الغربية وقطاع غزة؟

هل كان الحل الجنوب أفريقي بإنهاء نظام الأبرتهايد بالكامل مرفوضًا من الشعب الأفريقي الأصلاني؟ أم كان يتحتم عليه أن يكون أكثر "واقعية" ويقبل بالبانتوستانات العرقية المسخ، التي "سمح" نظام الأبرتهايد بقيامها! وما هي الرؤية السياسية التي يمكن تقديمها لتطبيق قرار الأمم المتحدة 194 الذي بالضرورة يتناقض مع حل الدولتين؟ ناهيك عن غياب أي مرجعية لفلسطينيي 48 الذين في أحسن الأحوال سيتم التعامل معهم "كأقلية" تناضل من أجل حقوق ليس للشعب الفلسطيني (الذي ينتمي له فقط سكان مناطق 67!) أي علاقة بها، قد تكون في أحسن أحوالها ذات طابع تضامنيي.

من الواضح أن هناك عدم وضوح لدى الدكتور القدوة عن حل الدولة الديمقراطية العلمانية على أرض فلسطين التاريخية، ما ساهم في عملية التشويش العدائية لكل من يدعو لهذا الحل التحرري. فحل الدولة الديمقراطية الواحدة يدعو لتفكيك منظومة الأبرتهايد والاستعمار الاستيطاني وعودة اللاجئين إلى القرى والمدن التي طُهروا منها عرقيًا عام 1948، وقيام دولة حديثة على أنقاض النظام الاستعماري، دولة لكل سكانها بغض النظر عن الدين واللون والجنس بعد سحب كل الامتيازات التي يتمتع بها السكان اليهود.

عندما جرى اعتقال مانديلا عام 1964 وتقديمه للمحاكمة، ظهرت قلة من الأصوات الأفريقية التي اتهمته بـ"الرومانسية" و"عدم الواقعية" لمطالبته – ومن بعده ستيف بيكو الذي تم تعذيبه حتى الموت عام 1976 - بحقوق كباقي أبناء البشر ورفضه القبول بعد ذلك بنظام "الأوطان المستقلة"، أي المعازل العرقية للسكان الأصلانيين.

التعليقات