22/03/2021 - 22:20

نظام "اليودقراطية" وعبثيّة خطاب المساواة في إسرائيل

لعل أكبر تجلٍّ لهذه الهزيمة الذاتية هي انتخابات سلطة أوسلو المقبلة كوكيلة سيطرة وإدارة ذاتيه للاستعمار والانقسام. كذلك خطاب "الوطنية العاقلة" للقائمة المشتركة بتوصيتها بكل مركباتها في حينه على مجرم الحرب غانتس

نظام

(أ ب)

"في إسرائيل لا تنتهي الانتخابات بتغيير الحكومة فقط بل بتغيّر الحكم والمجتمع أيضا. لا يطول التغيير هنا بعض جوانب الحياة بل يكون انقلابًا في نظام الحياة؛ التعليم وروح العصر"؛ هكذا يصيب شلومو بن عامي قلب النظام السياسيّ الإسرائيليّ.

نعم على مدار ثلاثة وعشرين دورة انتخابات للكنيست، تابعت إسرائيل خطوة بخطوة إقامة الدولة اليهودية الاستعمارية الاستيطانية ومجتمعها من خلال ترسيخ نظام "اليودقراطية" (من Juden بالألمانية) ومقوماته؛ يهودية الجنسية، ويهودية الأرض والدولة، وديمقراطية الشعب السيّد، والأبرتهايد "القانونيّ" الإقصائيّ للعرب، والتطهير العرقي الديمغراقيّ لهم.

وكلّ هذا ليس لأن اليهود أكثرية إثنية بل لأنهم عرق اليهود وجنسيتهم جمهورانية سيادية تمازجت مع الدولة على حدّ تعبير بن غوريون. والسيادة هنا "حق ربانيّ" تاريخيّ لمجموعة عرقية دينية استعمارية استيطانية حتى فوق مبدأ حق تقرير المصير المنسجِم مع تعريف القومية والديمقراطية المعاصرة، وميثاق الأمم المتحدة لعام 1945.

يتّسم نظام "اليودقراطية" هذا بنوعين من العلاقة وفقا للقاعدة النظرية؛ Ethno Racial State System، إذ إن العرق هنا مجموعة بشر تعرّف نفسها أو يعرفّها الآخر على أنها تختلف عن غيرها بمواصفات وراثية طبيعية، وغيرها دينية اجتماعية. بمعنى يُعرف العرق اجتماعيا على أساس الفيزيولوجيا الوراثية، والخصوصية الدينية الاجتماعية المتوارَثة عبر العصور.

وخير دليل على ذلك، النشيد الصهيوني لإسرائيل؛ الأمل (هتكفاه): "طالما تكمن في القلب نفس يهودية... لم يضِع بعد حلم ألفي عام على أرضنا، أرض صهيون وأورشليم"، هذا في حين تُعرّف المجموعة الإثنية على أساس اجتماعيّ ثقافيّ فقط.

في حالتنا فإن اليهود كعرق، بتعدديته الإثنية الداخلية، هم الدولة وهي هم، وتربطهم علاقة ديمقراطية تنافسية عمودية (Competitive Type)، بمعنى أن الصراع هنا طبقي اقتصادي ثقافي بدون قيود قانونية ومؤسساتية تحدّ من الحراك والتمكين المجتمعيّ والسياسيّ للفرد والمجموعات، بما يكفل لهم التأثير والتمثيل حتى الوصول لرأس الهرم في دولتهم اليهودية الديمقراطية مع ضمان ساحة مواطنة مشتركة مبلورة لهوية جماعية، وإن اختلفوا بين متديّن وغيره.

النوع الثاني من العلاقة يخصّ العرب وهو فوقيّ أبويّ (Paternalistic Type)، وأساسه قوانين أبارتهايد إقصائية استئصالية تثبت العلاقة العرقية النافية من حيّز الجنسية الجمهورانية والدولة وتنافسها العمودي. العرق المهيمن اليهود الحاكم هنا، يحاول عقلَنة سيطرته من خلال قوانين لا تمسّ جوهر الدولة وتنحصر في المطلب المعاشي الذي يضمن له أدوات الدمج والعزل الانتقائي والسيطرة البنيوية خارج حدود تعريف الدولة وجنسيتها، دون أن تكون للعربي أو يكون منها.

العلاقة هنا أفقية فردية تفتيتيه لا تدخل دائرة الحراك العمودي للتأثير والتمثيل السياسي في مؤسسات الدولة كما هو الحال في العلاقة التنافسية لليهود، وعليه هي ليست جزءا شريكا في ساحة المواطنة اليهودية ولا المدنية المشتركة التي حصّنت نفسها بجدار الحديد القانونيّ للحفاظ على نقاوة العرق وضمان إقصاء العرب منها بل تفكيك مبناهم الاجتماعي.

بكلمات أوضح، إنّ العلاقة هنا في سياقها التاريخي والقانوني بين المُستعمِر اليهودي، والمُستعمَر العربيّ، تمثّل وحدة صراع نفي متبادَل تستمر السيطرة فيها كلّما خضع العربي، وقبِل هذه الشروط النافية لوجوده، وفي هذا الصدد، أوضح أليعزر بيري -في حينه- الأمر، بقوله: "العرب الذين شاركوا في الانتخابات الأولى وصوتوا لمن صوتوا لا يمنحهم قانون الجنسية مواطنة أسوةً باليهود. إن ما هو مطروح للعرب كمواطنة يعطي المؤسسة الحاكمة كل الإمكانيات لأخذ هذا الحق متى قررت ذلك. الأمر يتعلق بمدى رحمة أو عدم رحمة المؤسسة؛ باستطاعتها تسجيل العربي وبمقدورها أن لا تفعل ذلك، بمقدورها أن تثبت أنه تواجد في البلاد وتستطيع إثبات العكس". حقيقة انعكست في استمرار تسجيل العرب حتى سنوات الثمانين من القرن السابق وبقي آلاف من عرب النقب دون اعتراف وتسجيل حتى يومنا هذا. وفي نفس التوجه صبّت التعديلات المختلفة للقانون وآخرها منع منح هوية للزوج أو الزوجة إذا ارتبطوا مع عرب من الـ48 وكانوا من أصول عربية، وبخاصة من الضفة والقطاع.

يختلف نظام "اليودقراطية" عن بعض الديمقراطيات الغربية التي تأقلمت مع التعددية الاجتماعية بتطوير مواطنة جمهورانية جديدة (Neorepublican Citizenship)، تسمح للمجموعات الإثنية والعرقية التعايش في دولتهم الواحدة في الوقت التي تكون دولة الفرد الواحد أيضا، مع إمكانية خلق ساحة مدنية وهوية مشتركة للجميع.

لسدّ الباب أمام إمكانية كهذه في إسرائيل استبدلت لجنة "هراري" مطلب قرار هيئة الأمم المتحدة 181 بسنّ دستور أساسه قانون مواطنة متساو ودولة كل مواطنيها، استبدلتها بمنظومة قوانين أساس تتيح للحكومة المنتخبة صياغة منظومة الدولة السياسية، والقانونية، والاجتماعية، بما يتّفق وبرنامجها وتحديات المرحلة التاريخية التي تمر بها بعد كل انتخابات.

بكلمات أخرى؛ تتحكم السلطة التنفيذية بالتشريعية، وفي أغلب الأحيان بالقضائية، من خلال سن قوانين تعكس قناعاتها دون أن تنحرف عن ثوابت الانطلاقة، الأمر الذي يفسّر هجوم اليمين على باقي معاقل السلطة القضائية اليوم والتغيرات العميقة التي اجتاحت المجتمع الإسرائيليّ والدولة، وتتويجها الانتخابات الحالية بين اليمين ويمينه.

من هنا يصيب شلومو ساند في تشخصيه لعبثية مطلب ونضال المساواة بقوله: "وضعية العربي في إسرائيل تختلف عن وضعية الأسود في أميركا عن وضعية ’السكوتي’ في بريطانيا واليهودي في فرنسا. الدولة التي وُلد وعاش فيها العربي تابعة للآخرين اليهود. أميركا لا تعرّف نفسها على أنها دولة البيض بالضبط كما لا تعرف نفسها بريطانيا دولة البريطانيين أو فرنسا دولة الكاثوليك. الديمقراطية اليهودية في إسرائيل توزع للعرب أوراق اللعبة ولكنها خططت وتخطط أن لا يفوزوا بها أبدا".

وحتى تتضح الصورة ولا تنحصر على موقف اليمين الإسرائيلي، يعرّي يهودا شنهاف في هذا السياق، اليسار الصهيوني بقوله: "يدعم اليسار حقوق الفلسطينيين في الدولة طالما بقيت الدولة يهودية واستمر المُسَمون ’عرب إسرائيل’ في وضعية حاضر غائب".

إن ما ذُكِر يمثّل حقائقَ تدحض كل أساس لتحليل يعتمد قاعدة "الأثنوقراطية" كمبنى هرمي لثلاثة مجموعات إثنية؛ المجموعة المؤسسة والمميزة، المهاجرين اليهود اللاجئين، ومجموعات السكان الأصليين الفلسطينيين، وكأن ثلاثتهم في حالة تفوق وتفاوت في الحقوق والامتيازات في دولتهم ومواطنتهم الواحدة التي دمجت بين سيادة الدولة واستقلالها بعد نهاية الاستعمار البريطاني، وبين مبدأ حق تقرير المصير، معتبرا الصهيونية حركة تحرر "وتطبيق هذا المبدأ (حق تقرير المصير) ما زال يشكل السبب الرئيس للنزاع بين اليهود والفلسطينيين" على حد تعبير أورن يفتاحيل في كتابه "الإثنوقراطية".

في هذا السياق يقترح يفتاحيل ومن معه محوَِرة النضال حول المساواة في واقع دولتين لشعبين ووطن واحد مع ضمان حق العودة للدولة الفلسطينية كما يعبر عنها يفتاحيل وغيره في وقت تخطّت فيه الأحداث التاريخية خيار الدولتين هذا.

في السياق ذاته، إن تعريف "بتسيلم" الأخير، نظام الدولة الإسرائيلية بين النهر والبحر كنظام أبرتهايد لا يتعدى فهم إدارة الصراع بنفس أدوات النضال. هنا يصيب وليد سالم في قوله إن الحركة الصهيونية أتت على ظهر دبابة الاستعمار البريطاني ليست كحركة تحرر ليطالب من يطالب لها بحق تقرير المصير بل كأداة استعمار استيطاني إحلالي مكنتها بريطانيا من إقامة دولتها الاستعمارية الاستيطانية في فلسطين.

ويضيف وليد "أن خطاب الأبرتهايد يعالج العَرَض ويُبقي المرض الاستعمار والاستيطان. كما أنه يخفض سقف النضال باتجاه العمل لإصلاح النظام الاستعماري الاستيطاني والعمل القانوني لتحقيق درجات أعلى من المساواة في إطاره. تبدو كلمة أبرتهايد والعمل للمساواة براقة، ولكننا كشعب فلسطيني نريد حق تقرير المصير والعودة وتفكيك الصهيونية والاستيطان الاستعماري، ومعالجة قضايا النكبة وكل ما ترتب عليها قبل أن نطرح خطاب المساواة. طرح هذا الخطاب في ظلّ النكبة المستمرة كل يوم على الأرض هو دعوة للهزيمة الذاتية. وهي دعوة لا رصيد لها ولا موازين قوى تدعمها اليوم بدون تراكم كفاحيّ نحتاجه أولا لتغيير هذه الموازين قبل أي طرح للمساواة".

ولعل أكبر تجلٍّ لهذه الهزيمة الذاتية هي انتخابات سلطة أوسلو المقبلة كوكيلة سيطرة وإدارة ذاتيه للاستعمار والانقسام. كذلك خطاب "الوطنية العاقلة" للقائمة المشتركة بتوصيتها بكل مركباتها في حينه على مجرم الحرب غانتس سعيا منها للاندماج والتأثير بعد ما تبين لها في ظل السقوط العربي والفلسطيني، أن نظام "اليودقراطية" بجداره الحديدي القانوني اليهودي وتخطيط الحيز التهويدي لم يبقِ لهم غير التجارة السياسية الرخيصة.

منطق أخذه منصور عباس "كموحدة" للوقوف بنفس المسافة بين نتنياهو ويائير لبيد. ووقف أيمن عودة "كمشتركة" ضده بنيّة التوصية على يائير لبيد ورفض نتنياهو، الأمر الذي قاد للانشقاق ورجوع الأحزاب الصهيونية للشارع العربي بكل قوة وجرأة عبّر عنها نتنياهو نفسه ولأول مرة في مقابلة قناة "هلا" العربية.

مخاطبة نتنياهو للعرب هنا أفضل تعريف لحقيقة نظام "اليودقراطية" وتهميشه البنيوي والمنهجي للأحزاب العربية وتأثيرها. بصراحة لم يسبقه لها أحد، وبكلام في صميم أداء الأحزاب العربية توجه نتنياهو للعرب وقال: "ماذا فعلت لكم الأحزاب العربية؟ كل ما فعلوه ’كلام فاضي’. هم عاجزون عن تقديم أي مساعدة لكم. ليس لهم أي دور غير الوساطة بين الحكومة وبينكم. وأنا الحكومة التي تقرر أن تعطي أو لا تعطي. والأمر هكذا لماذا تحتاجون هذه الوساطة وهي لا تجدي بشيء. مرة ثانية أشدد؛ هم يقترحون الوساطة مع الحكم وأنا أقترح عليكم الحكم نفسه بدون وساطتهم. تعالوا معي وكونوا جزءا من العمل. يكفي شرذمة. حان الوقت للدمج. انضموا لليكود وصوتوا لي وأعدكم بوزير عربي في حكومتي القادمة. نعم ما حاجتكم بوسطاء غير قادرين على مساعدتكم في هذه الدولة؟".

هكذا كشف "أبو يائير", كما يحلو له أن يناديه العرب، عبثية خطاب المساواة من خلال المشاركة في الانتخابات ونضال الكنيست. ومعه ضرورة النضال الموحد للشعب الفلسطيني برمته في واقع دولة نظام "اليودقراطية" الاستعماري الاستيطاني الأبارتهايدي بين "المية والمية".

التعليقات