01/04/2021 - 13:24

"المجتمع المحافظ" وصعود النساء ودور التجمع

إن الخطر الداهم هو الجريمة والمجرمين من الفئات العمرية الشابة الذين باتوا بلا مستقبل وبلا مؤهلات تمكنهم من التطور والتقدم في مسار الحياة. كل ذلك حصل تحت حكم نتنياهو منذ 2009، وقبلها خلال توليه وزارة المالية في العقد الأول من

ليست الأسرلة التي تحدث عنها التجمع طيلة سنواته محصورة في ترشح عربي في حزب صهيوني، أو التصويت لحزب صهيوني، أو الخدمة في الشرطة أو الجيش، أو التنكر للهوية الفلسطينية؛ بل الأسرلة بمفهومها الحقيقي ظهرت في "النهج الجديد" الذي طرحه د. منصور عباس في الانتخابات الأخيرة. إنها تقول كالتالي: أنا عربي مسلم محافظ، متمسك بهويتي الاجتماعية، ومتعصب لها، الحريات الفردية هي تقليعة غربية وتغريبية؛ في المقابل لا مشكلة في دعم أو التصويت لقائمة على استعداد لدعم حكومة نتنياهو، أو على الأقل لا تعلن رفضها الانضمام لحكومة نتنياهو بمشاركة نفتالي بينيت وجماعة كهانا. متمسك بهويتي الاجتماعية و"العادات والتقاليد" العربية، لكن أريد أن ألعب اللعبة الإسرائيلية – ليس البرلمانية فقط – على أصولها وحتى النهاية. وهذا المزاج العام خلقته القائمة المشتركة بخطاب النائب أيمن عودة، وتمويل حملات من خلف البحار لتشجيع التصويت من خلال جمعيات حقيقية أو مصطنعة، ورفعت سقف توقعات المواطن العربي لجهة التأثير وأوحت كأنه يؤثر في الإجماع الصهيوني، لينهار هذا السقف على رؤوس قادة المشتركة في الانتخابات الأخيرة. وقبل هذا الانهيار، هدفت هذه الحملات من خلف البحار، من جهات صهيونية أميركية، إلى إفراغ كل نشاطنا السياسي والأهلي من بعده الوطني، وتحويله إلى خطاب الانخراط و"التأثير" في الإجماع الصهيوني، بدلًا من تحديه.

هذا النوع من الأسرلة والتعصب للهوية الاجتماعية المتخيلة الذي طرحه عباس، سيكون مقبولا على المؤسسة الإسرائيلية أكثر من طرح المشتركة، بل هناك من باشر بالصحافة والأكاديميا الإسرائيلية في الحديث عن "حكم ذاتي ثقافي" للعرب مقابل تنازلهم عن التدخل في هوية الدولة اليهودية. هذا يعني أن كونوا إسرائيليين ولكن في إطار الغيتو العربي الذي أقامته لكم الدولة اليهودية. كونوا عربًا يفتخرون بهويتهم الاجتماعية، ولكن تقرون بدونيتكم في دولة اليهود وستحافظون على مستوى معيشي متقدم مقارنة بإخوتكم في الدول العربية. هذا ليس ابتكارًا إسرائيليًا، إنه شبيه إلى حد كبير بما فعلته الأنظمة العربية مع شعوبها. كلوا واشربوا وتعبدوا وتعصبوا لقبيلتكم أو ناحيتكم أو قريتكم، ولا تتدخلوا في شؤون الدولة. إنه هدر للإنسان. لو كانت أوضاع العالم العربي مختلفة وأفضل، لكانت هذه المعادلة أكثر صعوبة للتنفيذ وللقبول.

لكن كيف استطاعت الموحدة أن تستثمر شعار "المجتمع المحافظ" انتخابيًا ولماذا وجدت أرضية خصبة له؟

الأسباب متعددة وتتفاوت، ولكن ما مر به المجتمع الفلسطيني في إسرائيل في العقدين الأخيرين، من عملية تحديث قسري وخارجي يعتمد على الخطط الاقتصادية (غير التنموية) أساسًا، وارتفاع مستوى المعيشة، لم توازيه عملية تمدين وعصرنة عربية أصيلة. اعتمدت الخطط الاقتصادية الحكومية (غير التنموية) في العقد الأخير على الأقل على "تمكين المرأة العربية" بالإضافة للحريدية لتحسين النمو الاقتصادي الإسرائيلي، في موازاة ارتفاع نسب تعليم النساء وتفوقها على نظيرتها لدى الرجال أو الشباب، وتصدر المرأة المشهد في مجالات مختلفة، وأصبحت تنافس الرجل/ الزوج/ الأب/ الأخ في مجالات عديدة، سواءً في التحصيل العلمي والمستوى الوظيفي ومعدلات الدخل ومستوى المعيشة، بالإضافة إلى تحولات اجتماعية عامة مع انتشار شبكات التواصل، وتحول العالم إلى قرية صغيرة في كف اليد.

ومن المتوقع أن تحصل ردة فعل على هذا الصعود في قوة النساء مجتمعيًا وفي معظم المجالات، التي تراها شريحة واسعة، تحديدًا من الرجال وليس فقط، ومن مختلف الأجيال والمناطق، على أنها تُعرض "قيم" المجتمع و"هويته" إلى تشويه، أو إلى تغريب، أو حتى تفكيكًا للأسرة العربية. وردات الفعل هذه ليست محصورة على مجتمعنا، بل حصلت في مجتمعات غربية وما زالت تحصل، سواءً كردة فعل على صعود قوة النساء أو "خطر الأجانب" أو "خطر المسلمين"، حتى في ديمقراطية عريقة مثل الولايات المتحدة (جمهور ترامب مثلا). كما حصلت ردات فعل شبيهة في أوساط اليهود الشرقيين في إسرائيل، الذين اعتبر أرباب الأسر في صفوفهم في الستينيات والسبعينيات أن حكم "مباي" والأشكناز فكك الأسرة الشرقية التقليدية وقاموا بتغريبها (لبرلتها)، وذلك نتيجة تراجع سيطرة "الأبوية" سواء على صعيد الأسرة أو التجمعات الشرقية في إسرائيل، بالإضافة إلى سلبهم هويتهم وثقافتهم العربية الشرقية، وهو ما انعكس باتخاذ مواقف يمينية سياسيًا واجتماعيًا.

هل حقًا يشكل "الشواذ" خطرًا على هوية المجتمع؟ هل هم خطر داهم فعلا؟

إن الخطر الداهم هو الجريمة والمجرمون من الفئات العمرية الشابة الذين باتوا بلا مستقبل وبلا مؤهلات تمكنهم من التطور والتقدم في مسار الحياة رغم كل الخطط الاقتصادية الحكومية. كل ذلك حصل تحت حكم نتنياهو منذ 2009، وقبلها خلال توليه وزارة المالية في العقد الأول من الألفية الجارية.

هذه في الحقيقة نتيجة عملية تحديث قسرية ومشوهة، خلقت واقعًا غرائبيًا؛ فمن جهة صعود في قوة النساء ومستوى التعليم عمومًا وارتفاع مستوى المعيشة ونشوء طبقة وسطى عريضة نسبيًا؛ ومن جهة أخرى استمرار الفقر الذي تصل نسبه إلى ما فوق الخمسين في المئة بين الأسر العربية، وتزايد العنف، وهيمنة الإجرام المنظم على البلدات وعلى مجالات عديدة في المجتمع وصولا للحكم المحلي والاقتصاد والتجارة وإلخ... إضافة إلى تراجع مستوى التعليم والثقافة لدى شرائح عديدة، خصوصًا الشباب في الفئات العمرية دون العشرين عامًا وما فوق العشرين عامًا؛ وكثافة سكانية عالية؛ والأهم ارتفاع عدد جرائم قتل النساء ومستوى العنف ضدهن.

إن هذا الواقع المركب والمعقد والمشوه، حوّل أي مظهر للتقدم أو التمدن أو التحديث في نظر شرائح واسعة إلى "تغريب" و"إلحاد" و"مثلية" (ولا بد من الإشارة إلى الهجوم على جمعيات نسوية على شبكات التواصل قبل الانتخابات)، لدرجة معاداة قيم التعددية والحريات الفردية وحتى الديمقراطية، واختزلته بأنه تهديد على هوية المجتمع و"العادات والتقاليد". ليس رفض المثلية بحاجة لعادات وتقاليد، بل بالإمكان الاستناد إلى الموقف الديني الشرعي، ولكن ما فعلته الموحدة هو أن وجهت كل هذا الغضب المضمر وربما اللاواعي من التحولات الجارية وصعود مكانة المرأة حتى على مستوى الأسرة، إلى "مشروع" سياسي واجتماعي واختزلته بـ"الشواذ" و"عايدة توما"، وحولتهما إلى هدف للتفريغ أو الكاترزيس أو الانتقام، باعتبار أنهما يمثلان الحداثة والتمدن والليبرالية والتقدم والعلمانية والتعددية والحرية وغيرها. لقد اعتبروا أن "الشواذ" و"عايدة توما" خطرًا يهدد الأسرة العربية التقليدية، فيما التهديد الحقيقي والفوري هو العنف والجريمة والفقر الذي ازداد وتفاقم تحت حكم نتنياهو.

"المجتمع المحافظ" بهذا السياق الانتخابي وخلفياته، يعني الحفاظ ليس على أبوية الأسرة والمجتمع فحسب، بل معاداة قيم إنسانية وكونية مثل الحرية والمساواة وكرامة الإنسان والتعددية والديمقراطية.

إزاء هذا الواقع، علينا أن نتساءل، ونجيب بالطبع، ما دور التجمع في إنقاذ مجتمعنا؟ وهل لديه القدرة لفعل ذلك؟ الأكيد أن خطابه السياسي وفكره الوطني الديمقراطي بمقدوره أن يجيب على كل هذه التحديات، إذا ما تطور تنظيمه ليتمكن من الانفتاح على الناس وتوسيع صفوفه، ليعود حزبًا عصريًا متنورًا وتنويرًا.

هذه إحدى أولويات التجمع، ولا بد أن تكون أرضية ينطلق منها لوضع إستراتيجيته للمرحلة المقبلة؛ وإذا أراد أن يظل "سياج هويتنا"، فلا بد من تجديد وتقوية أوتاده.

التعليقات