11/05/2021 - 17:54

النضال الشعبيّ واحتمالات العسكَرة

قد تتمكن البطولات التي يسطرها الشارع اليوم، من إصلاح جميع الأخطاء التي نعاني من نتائجها راهنا، لكن ذلك منوط باستمرار زخم النضال الشعبي حتى يتمكن أولا من تثبيت واقع جديد لطبيعة الصراع ينطلق من كلّ فلسطين وكلّ الشعب

النضال الشعبيّ واحتمالات العسكَرة

جنود إسرائيليون يدخلون إلى ملجأ في عسقلان (أ ب)

تتسارع الأحداث والفعاليات النضالية الفلسطينية في الأيام الأخيرة، ولا سيّما الساعات الـ24 الأخيرة منها، إذ توسّعت الساحات التي تشهد نضالا شعبيا ممتدا على مجمل أرض فلسطين التاريخية بشقيها المحتلين، في الأراضي المحتلة في 1948 و1967؛ كما دخلت فصائل العمل العسكري على خط المواجهة من خلال إطلاق الصواريخ من داخل قطاع غزة، والتي وصل بعضها إلى محيط مدينة القدس ومحيط تل أبيب، وهو تطور نوعي في قدرة وإمكانيات فصائل العمل المسلح، الأمر الذي أثار جدلا سياسيا عريضا بين مؤيدي التدخل العسكري ومعارضيه، تناسى في غالبيته أهم النقاط الواجب المرور والتأكيد عليها، كما سوف نوضح هنا.

في البداية ومن حيث المبدأ، لا بد من التأكيد على شرعية جميع أشكال النضال لدى الشعوب المحتلة والمتعرضة لجرائم تطهير عرقي دورية إن لم نقل يومية، ومظاهر فصل عنصري شاملة تطال المجالات الصحية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية بل والثقافية والدينية. ومنه ننطلق من شرعية النضال الشعبي والعسكري على حد سواء، بغض النظر عن قراءتنا السياسية لجدوى هذا الشكل النضالي من عدمها في المرحلة الراهنة، وبغض النظر كذلك عن هوية الطرف أو الجهة التي تمارسه، ودون أي اعتبار إلى الأسباب الخفية الكامنة خلف التصعيد أو التهدئة العسكرية. فاليوم، وفي ظلّ التصعيد الصهيوني المتواصل، نحن مطالبون بالتمسُّك بخطاب حقوقي متماسك وموحد، يحاكم الأمور وفق رؤية ثابتة بغض النظر عن تخوفاتنا من هذا الطرف أو ذاك؛ لذا أعتقد أن الموقف من شرعية النضال العسكري أمر لا جدال فيه، في حين يحقّ لكل منا قراءة جدوى هذا السلوك والممارسة؛ اليوم، وغدا، وبعد غد.

كما حان الوقت كي نُقرّ بتنوع قراءات وأدوات القوى الفاعلة في سياق حركات التحرر عموما، وحركة التحرر الفلسطينية خصوصا، فمن غير المنطق ولا الواقعي إلزام جميع القوى بممارسة شكل نضالي وحيد وواحد بغض النظر عن قراءتها السياسية واللوجستية، حتى لو كانت قراءتها مجرد غطاء تحجب به أهدافها الضيقة بما فيها السلطوية والاستبدادية، مع الحفاظ على حقنا بفضحها أمام الجمهور إن لم تفضح بعد. بل على العكس، يساهم هذا التنوع في تعزيز الثقافة السياسية ويعمّمها، ويرسخ الفروقات بين القوى الفاعلة في الأمور الجوهرية والثانوية، أي من حيث المبادئ الوطنية الجامعة القائمة على وحدة الأرض والشعب والقضية، مع تلك اللاهثة خلف وهم حل الدولتين بأشكاله المتنوعة، إلى شكل الدولة بعد التحرير والموقف من التنوع الاجتماعي/ بل وحتى القراءة الاقتصادية والتحالفات الإقليمية والدولية. أي أنه وبالمختصر؛ لا يصحّ فرض رؤية عقلانية أو تدعي العقلانية على مجمل مكونات شعب فلسطين وكأنها خط أحمر يؤدي تجاوزه إلى تخوين الآخر، وذلك بالرغم من اتفاقي مع التوجه المطالِب بعدم عسكرة النضال في هذه المرحلة من زاوية تكتيكية وذاتية فقط، فهي في البداية والنهاية أسلوب نضالي شرعي لجميع الشعوب المحتلة والمعرضة لجرائم تطهير عرقي وفصل عنصري.

ومن ذلك ننطلق إلى نقطة أخرى مهمة، تتمثل في تحويل التكتيكيّ إلى إستراتيجي والإستراتيجي إلى تكتيكي، فالقضايا الإستراتيجية هي الأهداف بعيدة المدى المستمدة من جوهر القضية، لذا أعتقد أن الخلاف في المرحلة الراهنة مع القوى والفصائل السياسية الفلسطينية التاريخية بشقيها داخل وخارج منظمة التحرير (ربما باستثناء حركة "الجهاد الإسلامي") هو خلاف إستراتيجي حول البرنامج السياسي والرؤية السياسية والأهداف الوطنية، أي بين النضال من أجل دولة على حدود الـ67 من ناحية، وبين النضال من أجل تحرير كامل فلسطين وتشييد دولة فلسطين الكاملة والموحدة. أما الخلاف حول جدوى النضال العسكري فهو خلاف تكتيكي كون النضال العسكري في حالتنا حق مشروع لا خلاف حوله في جميع الشرائع والقوانيين الدولية والإنسانية، إذ يجب أن ينطلق الخلاف من جدواه في هذه المرحلة، ومن أولوية المضي في مسار فضح جرائم التطهير العرقي والفصل العنصري التي تمارسها الدولة الصهيونية، وكذلك من ضعف العامل الذاتي الفلسطيني اليوم، لا سيما بعد اتفاقيات أوسلو والسيطرة على غزة اللذيْن سهّلا على الصهيونية تقسيم الجغرافيا الفلسطينية إلى كانتونات معزولة عن بعضها البعض، فضلا عن أدوارهم (القوى المسيطرة) في تقسيم المجتمع الفلسطيني سياسيا وجغرافيا؛ فالعامل العسكري لا يقاس فقط بمدى تطور المعدات العسكرية ووفرتها على أهميته، بقدر ما يقاس بإمكانية إدارة المعارك والتحكم فيها، وهو أيضا غائب عنا اليوم بفعل الانقسام السياسي والمجتمعي والجغرافي. لكن وبغض النظر الآن عن الإحاطة بجميع تفاصيل هذه الجزئية، أعتقد أن الفكرة الرئيسية حاليا تكمن في التعامل مع هذه الوسيلة النضالية كنقطة خلاف تكتيكية إن لم تكن مستندة كذلك إلى خلاف إستراتيجي. وطبعا في حالتنا الفلسطينية تسهل ملاحظة أنها امتداد لخلاف إستراتيجي أعمق يجب التركيز عليه أولا، نتيجة انحراف مجمل أو غالبية القوى والفصائل الفلسطينية عن برنامج تحرير فلسطين؛ كلّ فلسطين.

من كل ما سبق ذكره نعود للنقطة الأهم الدائرة حول تأثير شكل النضال العسكري على مجمل أشكال النضال الأخرى، وعلى رأسها النضال الشعبي؛ إذ يتمثل دورنا اليوم، أو بالأصح دور جميع المقتنعين بضرورة حماية النضال الشعبي وتطويره حاليا في حماية هذا الشكل النضالي وإسناده ومدّه بجميع عوامل القوة والصمود، ولو إعلاميا وسياسيا، ومنها المطالبة بعدم إخلاء الساحات حيث أمكن حتى لو تصاعد العمل العسكري هنا أو هناك؛ فمن أخطاء تجربة النضال التحرري الفلسطيني منذ انطلاقه الاستكانة لشكل نضالي وحيد وإهمال سائر الأشكال النضالية الأخرى، وهو ما أصبح تحديًا علينا مواجهته، إذ لا يصح التحجج بعسكرة الصراع من أجل الكف عن دعم صمود الأبطال في ساحات المواجهة الشعبية المتعددة، بل على العكس تماما، علينا العمل بصورة أكبر من أجل الحؤول دون هيمنة النضال العسكري على النضال الشعبي، وإلا فنحن أمام فشل نخبوي جديد. نعم فشل نخبوي لا شعبي، فتوقف النضال الشعبي نتيجة تصاعد شكل الصراع العسكري بعد بضعة أسابيع أو أشهر، يعني نجاح القوى المهيمنة ذات القدرات العسكرية في فرض منطقها الذي يعزز سيطرتها على القضية وفي إدامة رؤيتها السياسية القاصرة عن مجمل حقوقنا الوطنية المنبثقة من شعار وحدة الأرض والقضية والشعب.

في الختام، قد تتمكن البطولات التي يسطرها الشارع اليوم، من إصلاح جميع الأخطاء التي نعاني من نتائجها راهنا، لكن ذلك منوط باستمرار زخم النضال الشعبي حتى يتمكن أولا من تثبيت واقع جديد لطبيعة الصراع ينطلق من كلّ فلسطين وكلّ الشعب؛ وثانيا، عبر نجاحه في اختيار قيادة ميدانية وسياسية جديدة تمثله وتمثل تطلعاته التحررية من رحم الساحات النضالية الشعبيةح وثالثا وأخيرا، من خلال فرض برنامج تحرري وتقدمي يعمل على تحرير فلسطين، كلّ فلسطين، ويبني دولة حديثة ومتطورة أجدها متمثلة في دولة فلسطين الديمقراطية العلمانية الواحدة.

التعليقات