27/05/2021 - 19:09

كي لا نخسر مجددًا التضامن مع فلسطين

النوافذ التي تفتحها حالة الاشتباك الفلسطيني مع الاحتلال، أكثر بكثير من الكوة الصغيرة المفتوحة على خيار سُبات الاستجداء المستمر للمستعمر الصهيوني أو "التعايش " معه؛ الصورة غير مكلفة لبقائه والتي حاول طباعتها بنسخ رديئة طيلة عقود تسقط ألوانها يومًا بعد

كي لا نخسر مجددًا التضامن مع فلسطين

تظاهرة داعمة لفلسطين في شيكاغو (أ. ب.)

النوافذ التي تفتحها حالة الاشتباك الفلسطيني مع الاحتلال، أكثر بكثير من الكوة الصغيرة المفتوحة على خيار سُبات الاستجداء المستمر للمستعمر الصهيوني أو "التعايش " معه؛ الصورة غير مكلفة لبقائه والتي حاول طباعتها بنسخ رديئة طيلة عقود تسقط ألوانها يومًا بعد يوم. فمنذ توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، شهدت القضية الفلسطينية العديد من المؤامرات والملابسات، والعديد من والوقائع المتصلة بها، والأحداث السياسية والميدانية الأخيرة في القدس ومدن الداخل الفلسطيني والعدوان على غزة، واندماج كل الشعب الفلسطيني في مواجهة خطط وعدوان المؤسسة الصهيونية، تُركز على مصير واحد يجمع الكل الفلسطيني.

الآمال الجديدة التي فتحها الشعب الفلسطيني في معركته ضد الاقتلاع والاستيطان، يُطل منها على العالم من جديد بشخصية فلسطينية متميزة بمواجهة استعمار كولونيالي استيطاني، في وقت ثَبُت فيه أن دعاة الحق والسلم الحقيقي المستحق عن جدارة هم ضحايا هذا الاستعمار. بهذه الإطلالة أصبح الفلسطينيون يرتبطون أكثر بأسلوب نضالي أعاد لهم مكانة أبرز من ذي قبل، بعد فقدانها لفترة طويلة، وبات النظر لكفاحهم في إطاره الصحيح في ضوء الوعي المُستعاد لفلسطين، "شعبيًا وسياسيًا" في أرجاء المعمورة، كـقضية تحرر وطني ضد سياسات الفصل العنصري الإسرائيلي. إن القيمة الإيجابية لحالة الاشتباك المستمر والمتواصل لأصحاب الأرض مع المؤسسة الصهيونية، تكمن في نضوج التجربة الأخيرة لجهة وحدة المواجهة بين المجتمع الفلسطيني في الداخل المحتل عام 1948 وبين الضفة والقطاع.

الإسهام في الاشتباك يفرض ظروف ملائمة للتغيير، لكن تبقى الانتكاسات والهزائم التي تأتي نتيجة لتحقيق ما يبدو غير ممكن التحقيق في واقع الشعب الفلسطيني، من خلال الاستجابة السريعة للسلطة الفلسطينية مع جملة وعود أميركية تنحصر في منح المساعدات العينية والمادية بعد العدوان والجرائم، مقابل الاستعداد للعودة لطاولة المفاوضات وعدم فتح ملف جرائم الاحتلال أمام المحكمة الجنائية الدولية، والحديث مجددًا عن سبل إنجاز "حل الدولتين"، من دون الحديث عن ملف الاحتلال والجرائم المنسوبة له في المواجهة الأخيرة، في الوقت الذي تتجه فيه أنظار كثيرة نحو فضح جرائم الحرب التي ارتكبتها حكومة نتنياهو، ورفع اليافطات وخروج عشرات الآلاف في مدن وشوارع العالم المنددة بالسياسة الاستعمارية للحكومة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني. وهذه أهداف للاستثمار إذا لم تتحقق الآن لن تتحقق أبدًا، ونقاط القوة المستعادة للشارع الفلسطيني تصبح بلا معنى، إذا ما تم استثمارها على طريقة تجريب الفشل والارتجالية السياسية بالتعاطي مع قضية التحرر الوطني.

تلاءم أسلوب القيادة السياسية الفلسطينية مع الوضع السائد قبل هبة الشارع الفلسطيني في القدس ومدن الداخل الفلسطيني وصد العدوان على غزة، ضمن تصور الإيمان بمفاوضات لا نهاية لها، وميل يقيني للرضوخ والاستسلام لشروط الوضع السابق، أفضى إلى الحفاظ على وتيرة متصاعدة للاستيطان والعدوان والتهويد والحصار، وهي شروط ستبقى ملازمة للحفاظ على ميزان قوى يميل لصالح توسيع وترسيخ العدوان، ومن خلال الحفاظ على بنيان التنسيق الأمني، البند الباقي والحي في كل اتفاق أوسلو. أما الطريقة "الجدلية والثورية الشعار" التي اعتمدت عليها عقلية النظر للأمور بأسلوب يقف عند حدود الرهان على ما يأتي من وعود، والتي تجاوزتها حالة الاشتباك الفلسطيني مع المحتل، والتي تكشف دومًا جوانب الحقيقة القائمة على أن تفكيك بنيته الاستعمارية هي الواجب الارتكاز عليها.

احتواء التغيير الجذري الحاصل هو ما تنصب عليه كل الجهود السياسية والأمنية، وتحرك إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، نحو القضية الفلسطينية عبر عنها وزير خارجيته، أنتوني بلينكن، بقوله إن حضوره الى إسرائيل هو التزام بأمنها ولنزع فتيل الأزمة في القدس وإعادة إعمار غزة. وهذا يترافق مع بعض المواقف الغربية الرسمية والعربية، التي تتحدث عن تثبيت وقف إطلاق النار أو تهدئة الوضع بعد وقف العدوان على غزة، وهو يهدف إلى عودة الجانب الفلسطيني (السلطة في رام الله) للمفاوضات، وهي منزوعة السلاح الذي مدها به الشارع الفلسطيني والعربي والدولي. وفكرة التعايش مع الوضع السابق الذي استسهلته السلطة الفلسطينية، والحالة العربية المغروسة في نظام من المصالح الراسخة من الاستبداد للتصهين، والتي تتعارض بطبيعتها مع التحرر وترفض منطق المواجهة بالأساس مع المؤسسة الصهيونية، هي التي تحدد بالأساس الطريقة التي اتبعها وسيتبعها هؤلاء مع القضية الفلسطينية، والتي ستتبعها السلطة القائمة في رام الله.

في هذه الظروف تبقى التناقضات الأساسية مخفية، وقائمة على وضع القمع الذاتي وتدمير منجزات حالة الاشتباك لإعادة "السيطرة" على الأوضاع، كما أفصحت عنها الدوائر الأمنية والسياسية الإسرائيلية بما يخص المجتمع الفلسطيني المحتل 1948.

أخيرًا، لا يكفي الابتهاج باختراق مئات الآلاف لشوارع مدن عربية وعالمية للهتاف بعدالة القضية الفلسطينية وفضح المشروع الاستعماري الصهيوني، ولا الفرح من اتصال بايدن برئيس السلطة؛ فباب القوة الصهيوني وباب الخداع العربي والدولي يبقى مُشرعا على "العصا والجزرة"، وتستعد أطراف عربية وفلسطينية للدخول إليه لإغلاق نوافذ فتحت بقوة ودمرت الواجهة الزائفة للسلام مع المستعمِر. فبعد أن فهم العالم كله في شهر واحد من المواجهة حجم الجرائم وحقائق العدوان المستمر، أكثر مما فهم في عقود انتظار واستجداء الأوهام؛ ولا يمكن توقع أن تفهم العقلية السياسية الرسمية، الفلسطينية والعربية، مكاسب هذا الإنجاز والتضامن والتعاطف من أجل الحرية والتحرر الذي ينسف شرعية سياساتها المتبعة، ولا يقودها إلى مراجعة المواقف والسياسات التي "أكسبتها" خسارة تنضاف لها خسارة التضامن مع فلسطين، لا ينجز إلا في حالة الصدام مع المستعمر الصهيوني، ودون ذلك فإن الخسارة محققة.

التعليقات