02/07/2021 - 16:27

عواقب تأييد الطغاة: اليساري المصري ممدوح حمزة مثالًا

ولكن لا بأس إن استرّد الكثيرون وعيهم ومبادئهم، فهذا خيرٌ من مواصلة العناد وانعدام الحساسية تجاه كرامة الإنسان، كما يفعل الكثيرون في دول عربية أخرى تحكمها أنظمة عربية متوحشة ومستبدّة.

عواقب تأييد الطغاة: اليساري المصري ممدوح حمزة مثالًا

(تويتر)

أجرى محرر موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، ديفيد هيرست، مقابلة مرئية مطوّلة مع أحد أبرز المؤيدين السابقين لرئيس الانقلاب المصري، عبد الفتاح السيسي، وهو الناشط اليساري والمهندس ممدوح حمزة (73 عامًا)، والذي بات مطلوبًا لمحاكم الطاغية بتهمة الإرهاب! هو الآن يعيش في المنفى، بعد أن حكمت عليه محكمة أمن الدولة المصرية بالسجن مدة 6 أشهر، عام 2019، وغرامة مالية بمبلغ 20 ألف جنيه مصري. وأسوة بالكثير من الشخصيات السياسية والمثقفين، انقلب الدكتور حمزة على السيسي، بعد أن اكتشف، على ما يبدو، خطأه الكارثي في تأييد الانقلاب على رئيس منتخب، لأول مرة في تاريخ مصر.

ممدوح حمزة، ناشط سياسي منذ بواكير الشباب، ترأس اتحاد الطلبة الجامعيين، عام 1968، ودرس الهندسة المدنية في جامعات بريطانية، وبرع فيها، ثم فتح مكتب للاستشارة الهندسية في القاهرة، وأشرف على هندسة مكتبة الإسكندرية، ونال جوائز دولية عديدة. أيّد ثورة 25 يناير 2011، تواجد في ميدان التحرير، وفتح مكتبه لثوار مصر، وساندهم في نضالهم من أجل إسقاط حكم حسني مبارك. في المقابلة المذكورة، نفى حمزة تأييده للانقلاب العسكري، وقال إنه كان ضد تصرف حركة الإخوان المسلمين، الذين، حسب قوله، تحالفوا مع العسكر، وخطفوا الثورة من الشباب، الذين كانوا المفجّر لثورة يناير، وإنّه ضد الدكتاتورية الدينية وضد الدكتاتورية العسكرية.

من خلال المقابلة، ومن خلال متابعة تصريحاته وقصته مع السيسي، يتّضح أن صدامهما بدأ يظهر عام 2015، عندما تصدى لمشروع شق قناة موازية لقناة السويس، واعتبره مشروعًا بلا جدوى وفاشلًا اقتصاديا. وواصل، منذ حينه، انتقاده لمعظم المشاريع التي أطلقها السيسي، مدعّمًا انتقاده من خلال دراسات علمية قدّمها لحكومة الطاغية، مثل بناء شبكة طرق كبديل عن تطوير وتوسيع خطوط سكك الحديد، وكذلك انتقاده للاتفاق الذي وقعه السيسي مع أثيوبيا عام 2015، الذي اعتبره منذ حينه اتفاقًا خطيرًا يأتي على حساب مصر.

وفي ضوء الفشل الذريع لمشاريع السيسي، وإنهاك مصر بديون خيالية، يرى د. حمزة أن ثورة شعبية قادمة في غضون سنة أو سنتين، "ستهزّ عرش الطاغية، وأن الثورة القادمة سيكون هدفها الحياة، وليس من أجل حياةٍ أفضل" بحسبه.

ويستند في رؤيته هذه إلى تعميق الفقر والعوز في أوساط الشعب المصري، والقضاء على خصومه، حتى الذين كانوا مقربين له، إما بالسجن، أو النفي، أو تشويه السمعة. ناهيك عن الإعدامات التي لم تشهد مصر مثيلًا لها في تاريخها. ويقدّر عدد معتقلي الرأي بستين ألفًا.

وعندما نفّذ السيسي انقلابه الدموي، وبعدها نفذ مذبحة رابعة العدوية، وغيرها، وهي مذبحة لا تزال مستمرة بأشكال مختلفة، انقسم صانعو الثورة داخل مصر إلى معسكرات وفرق، كما حصل في ثورات العالم العربي الأخرى، وكذلك عندنا في فلسطين. وأذكر نقاشاتي الصعبة (التلفونية) إثر الانقلاب مع أصدقاء مصريين كنت التقيتهم في زياراتي لمصر، من ناصريين وقوميين وماركسيين، انقسموا بين مؤيد ومعارض لانقلاب السيسي (لم تكن لي معرفة بأحد من "حزب النور السلفي" الإسلامي الكبير، خصم الإخوان المسلمين، الذي دعم ويدعم اليوم الطاغية حتى اليوم). وكذلك نقاشاتي مع أصدقاء ورفاق في فلسطين، أيدوا الطاغية واعتبروه قوميًا ومناضلًا شبيها بعبد الناصر، دون إظهار حساسية لآفة الاستبداد، وانتهاك مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت أهم أهداف الثورة المصرية والثورات العربية. وقلت في حينه وكررتُ ذلك، بلغة قاسية، إنّه رغم المآخذ الكبيرة على حكم جمال عبد الناصر، إلا أنّ السيسي لا يصل إلى كعب ناصر. على كلٍ، فغالبية هؤلاء الذين أعرفهم تراجعوا عن تأييدهم للسيسي، خاصة بعد أن واصَلَ حرب الإبادة ضد خصومه التي انتقلت من الإخوان إلى كل ألوان الطيف السياسي والأيديولوجي، ولكنهم لا زالوا يؤيدون مستبدين دمويين آخرين. وهذا السيسي، الذي يشعر باستقرار نظامه الدموي، بعد حربه الاستئصالية للمعارضة، دون أن ينجح في حل أيٍ من المشاكل الكبرى التي تواجهه مصر، يسعى إلى الانفتاح على من اعتبرهم أعداءً حتى الأمس، مثل تركيا وقطر، وغيرهما. ويلعب دور الوسيط بين حركتي "فتح" و"حماس"، في حين يرفض الانفتاح على الداخل، على شعبه والقوى الوطنية والديمقراطية المعارضة. هكذا حال أنظمة الاستبداد العربية الجمهورية (القومية) والملكية، وخاصة الأكثر دموية منها، تكون عقلانية مع الخارج في حين تكون متوحشةً مع شعبها. هي تستبدل الشرعية الداخلية بشرعية خارجية، وفي حالة نظام السيسي، فإن شرعيته مستمدة من إسرائيل وأميركا.

والذي نريد قوله من كل ذلك، هو أن افتقار الكثير من القوميين واليساريين، بل حتى بعض الليبراليين، لمفاهيم الحرية والديمقراطية، وغياب الحساسية والوعي بكون هذه القيم أساسية لضمان انتصار الثورة ونهضة المجتمع، وتحقيق التنمية الاقتصادية المستقلة، وضمان كرامة الإنسان، هو من أهم أسباب استمرار الطغيان في مصر العربية، وفي دول عربية أخرى. نعم لقد كانت مطالبة المتظاهرين المصريين وحشودهم الكبيرة، والحاشدة بتغيير حكم الإخوان، الذين ارتكبوا أخطاء خطيرة، محقّة، ولكن التغيير يأتي عن طريق صندوق الاقتراع وليس عن طريق الانقلاب على رئيس منتخب بصورة ديمقراطية اتسمت بالشفافية، وارتكاب المذابح المروعة بحقهم. إن الذي حرّك اليساريين والقوميين، وكذلك الإسلاميين السلفيين من "حزب النور"، في تأييدهم للانقلاب هو عداؤهم المرضيّ للإخوان، كحركة سياسية مدنية. لقد كشف تأييد أوساط من القوميين واليساريين والليبراليين (طبعا ليس جميعهم) وحتى شخصيات ليبرالية مهمة، مثل محمد البرادعي، للانقلاب، عن ازدواجية أخلاقهم، لأنّ الديمقراطي الحقيقي واليساري الديمقراطي الحقيقي، لا يتخلى عن تمسكه بالديمقراطية عندما يتعرض خصمه السياسي لقمع وبطشٍ من نظام مستبد دموي. والأمر الأكثر استهجانًا هو مواصلة هؤلاء تأييد السيسي لعدّة سنوات، في الوقت الذي تحول الطاغية إلى ركيزة إستراتيجية للعدو الإسرائيلي، إذ كان قادة الكيان الصهيوني يصرحون علنًا بأنه "هدية من السماء" ودون أن يأبهوا لذلك. وهذا يدلُّ كيف أن عداءهم وتعصبهم المرضي ضد الإخوان المسلمين أعمى بصيرتهم، لدرجة أنهم لم يعودوا يرون العدو الإسرائيلي، وخطورته على مصر والقضية الفلسطينية، ومشاركة الطرفين، إسرائيل والنظام المصري، في تشديد الحصار الإجرامي لقطاع غزة.

من المفروض أن تتوفّر في الديمقراطي الحقيقي، والثوري الحقيقي، والمسلم الوسطي المتنور، صفات أساسية مثل مناهضة الاستبداد، والتمسك بحكم ديمقراطي تعددي، يوفر العدالة الاجتماعية للمواطنين، بديلًا عن الأنظمة الدكتاتورية، الدينية أو العلمانية، أو العسكرية.

ولكن لا بأس إن استرّد الكثيرون وعيهم ومبادئهم، فهذا خيرٌ من مواصلة العناد وانعدام الحساسية تجاه كرامة الإنسان، كما يفعل الكثيرون في دول عربية أخرى تحكمها أنظمة عربية متوحشة ومستبدّة.

لعلّ هذا التغيّر يكون بداية صحوة حقيقية تُلهم الضالّين في أقطار عربية أخرى، وتساهم في مراكمة معارك النهضة والتغيير نحو الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني.

التعليقات