02/08/2021 - 19:50

الاحتجاج على سلوك أم على دور السلطة؟

إن التعويل على دور خارجي في تغيير دور السلطة الوظيفي مجرد وهم، والتعويل عليه لفرض قيود على ممارسات السلطة الداخلية تجاه الكتلة الاجتماعية المعنية بها أيضا أمر مستحيل، لأن فساد السلطة وتسلطها واستبداديتها مجرد تفصيل ثانوي لا يعني الخارج بشيء

الاحتجاج على سلوك أم على دور السلطة؟

صورة من مظاهرة في رام الله (أ ب أ)

تشهد مناطق الضفة الغربية العديد من الحركات الاحتجاجية ذات المطالب المتنوعة دوريا، ولبعضها مطالب اجتماعية واقتصادية وخدماتية محددة، ولأخرى بعض المطالب ذات الطابع السياسي العام؛ وقد تكثفت الحركة الاحتجاجية في الأسابيع القليلة الماضية على خلفية ارتكاب عناصر من الأجهزة الأمنية جريمة قتل الناشط نزار تحت التعذيب، ما أثار مشاعر الغضب والسخط على سلوك الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وساهم في إعلاء الأصوات المطالبة بمحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة. بل يمكن القول إن المطالبة بمحاسبة الجناة ورفض الجريمة قد طال غالبية الشرائح الاجتماعية والسياسية، وبضمنهم مؤيدو حركة فتح، وجزءا من العاملين في السلطة، وإن صَعُب على بعضهم المجاهرة بحقيقة مواقفه من الجريمة، الأمر الذي يتطلب بعض التمعن في الحركة الاحتجاجية عموما والحالية خصوصا، لا سيما في ظل حالة الاستعصاء التي تعاني منها، والتي تسببت في تراجع المشاركة الشعبية في الاحتجاجات وفي تخبُّط شعارات الاحتجاج، فكما نعلم جميعا شهدت الحركة الاحتجاجية على اغتيال نزار بنات في الأيام الأولى المطالبة برحيل رأس السلطة الفلسطينية، محمود عباس، بصورة تحاكي شعارات الحركات الاحتجاجية والثورية في المنطقة العربية، لكن لم تلبث الحركة الاحتجاجية حتى تراجعت عن هذا الشعار نتيجة تناقص زخم المشاركة الشعبية وتباين المواقف من هذا المطلب تحديدا، لتراجع الحركة الاحتجاجية خطابها ومطالبها، ولتحصر مطلبها في تشكيل لجنة تحقيق مستقلة (البعض يطالب بلجنة دولية) ومحاسبة المسؤولين عن هذه الجريمة، وهو المطلب الذي تتمسك به حتى اللحظة، دون أن يساهم هذا التعديل في استعادة الحركة الاحتجاجية لزخمها الاحتجاجي الأول، وإن حظيت بعض الاحتجاجات بزخم جماهيري بفعل تزامنها مع مناسبة محددة. إذ يعود ذلك إلى جملة من العوامل الذاتية التي تعاني منها مجمل الحركات الاحتجاجية الفلسطينية ولا سيما السياسية منها، وأهمها تخبط خطابها وأهدافها السياسية، الناتجة عن تناقض صارخ بين تحليل واقع السلطة ودورها الوظيفي من ناحية، والدعوة إلى تغيير ذلك من داخل الجسم السلطوي من ناحية ثانية، فتغيير دور السلطة الوظيفيّ لن يتمّ عبر دمقرطة مؤسساتها ومن خلال عملية انتخابية قد تفرز نجاح أشخاص من خارج المنظومة السلطوية، لأنها، أي السلطة، خاضعة إلى جملة من الشروط التي تتحكم بها الدولة الصهيونية والمجتمع الدولي، ولا سيما في بنيتها الأمنية والاقتصادية، وهو ما شهدناه بعد فوز حماس الانتخابي في عام 2006، إذ كانت الانتخابات مجرد إجراء روتيني لم يؤثر لاحقا على خطاب وتوجه ودور وبنية السلطة، لا من قريب ولا من بعيد.

إذ يبدو أن الشعب الفلسطيني بغالبية مكوناته الاجتماعية يدرك هذه الحقيقة أو على الأقل يضعها في حساباته، على عكس العديد من الحركات الاحتجاجية الفاعلة داخل الضفة، التي تعوّل على مظاهر ديمقراطية وعملية انتخابية شكلية من أجل صناعة التغيير، وهو ما لمسناه بعد قرار السلطة تأجيل الانتخابات، وفي الأيام الأولى التي أعقبت الكشف عن جريمة القتل تحت التعذيب في سجون السلطة. بل ذهبت بعض الحركات الاحتجاجية إلى التعويل على دور أوروبي في فرض التغيير، من دعوة الاتحاد الأوروبي إلى وقف تمويل السلطة (كان قد طالب نزار بنات بذلك بعد تأجيل الانتخابات) وصولا إلى المطالبة بتحقيق دولي في جريمة القتل تحت التعذيب، حيث يعبّر كلا المطلبين عن حجم الوهم الكامن لدى متبنيهما، وكأن الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي معني بمنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية أو الوطنية، متناسين دور الاتحاد الأوروبي والمجتمع الدولي في هيكلة السلطة بهذه الطريقة التي تخدم مصلحة الدولة الصهيونية، ودوره في تمكين الصهيونية من احتلال كامل فلسطين منذ النكبة وحتى اللحظة الراهنة.

وعليه، فإن التعويل على دور خارجي في تغيير دور السلطة الوظيفي مجرد وهم، والتعويل عليه لفرض قيود على ممارسات السلطة الداخلية تجاه الكتلة الاجتماعية المعنية بها أيضا أمر مستحيل، لأن فساد السلطة وتسلطها واستبداديتها مجرد تفصيل ثانوي لا يعني الخارج بشيء. في المقابل، إن ثمن تغيير السلطة شكليا أي دون المساس بدورها الوظيفي، باهظ ومكلف جدا على الكتلة الاجتماعية المساهمة بذلك، كما أوضحته الحركة الاحتجاجية في الشهرين الماضيين، فالتغيير الشكلي قد يكبح استبداد السلطة المباشر قليلا لكنه لن يحمي الكتلة الاجتماعية وناشطيها الوطنيين من اعتداءات الاحتلال أو من تعديات المجموعات المسلحة من خارج المؤسسة الأمنية على سبيل الذكر لا الحصر. لذا، وفي ظل هذا الوضع لا بد من جعل تكلفة الاحتجاجات تقارب ثمن التغيير المطلوب، بمعنى أنه لا بد من أن تسلط الحركات الاحتجاجية ذات الطابع السياسي (بل ومجمل الحركات الاحتجاجية) جلّ نشاطها على تغيير دور السلطة الوظيفي، بمعنى تفكيك بنية السلطة الوظيفية وتحويلها إلى هيكلية تنظيمية إدارية تشبه الإدرات المحلية والمجالس البلدية، المترافقة مع إجبار الاحتلال على تحمل مسؤولياته القانونية والاجتماعية والاقتصادية والخدماتية كاملة، فمناطق السلطة بجيمع أنواعها "أ وب وج"، مناطق خاضعة للاحتلال الصهيوني، الذي يتجوّل فيها وقتما شاء وكيفما شاء دون أي اعتبار للسلطة ولأجهزتها الأمنية المختلفة.

في هذه الحالة، أي في حالة العمل على تحشيد الكتلة الاجتماعية الوطنية خلف برنامج عمل تحرري واضح يجابه الاحتلال ويقوض نتائج اتفاق أوسلو دون أي مواربة، قد ننجح في استقطاب شرائح اجتماعية جديدة بل وجذرية تنطلق من أولوية برنامج تحرير أرض فلسطين الكاملة، وهو ما يتقاطع مع المسار الوطني الذي خطته انتفاضة كل فلسطين في حي الشيخ جراح وحي سلوان، وفي الأراضي المحتلة عام 1948، وكذلك في بعض مدن الضفة الغربية مثل بلدة بيتا، بل ويتقاطع أيضا مع تطلعات اللاجئين الفلسطينيين حول العالم أجمع، الذين باتوا مغيبين قسريا عن الفعل الفلسطيني بسبب ظروفهم وظروف الدول المستضيفة المأساوية من ناحية، وبفعل استبعادهم قسريا من قِبل الجسم السياسي الفلسطيني الفصائلي والرسمي.

قد يحاجج البعض قائلا كيف لنا النجاح في مهمة تغيير دور السلطة الوظيفي إن لم ننجح في مهمة إجبارها على تشكيل لجنة تحقيق مستقلة في أعقاب قتل نزار تحت التعذيب، أو حتى في إقامة الانتخابات البرلمانية والرئاسية، ولهؤلاء أقول إن صعوبة المهمة الأولى؛ تغيير دور السلطة الوظيفي؛ لا تزيد عن صعوبة كلٍّ من المهمتين الثانية والثالثة، لأنها معارك في مواجهة منظومة السلطة العميقة ذاتها بشقّيها الأمني والسياسي. وعليه أجد أن مهمة تغيير دور السلطة الوظيفي لها تأييد شعبي أوسع وأكثر جذرية وثورية داخل وخارج مناطق السلطة، كما أن نتائجها أكبر وأضخم، بل يمكن القول إن تأثيره جذري وثوري على مجمل المشهد الفلسطيني وعلى مسار تحرير فلسطين كل فلسطين، وهو ما يجب أن يحدث عاجلا أم أجلا.

التعليقات