06/08/2021 - 15:23

"أعلى من معدلها السنوي..."

قد لا نستطيع التخفيف من وطأة الحر القاهر، لكننا نستطيع أن نكشف وطأة السجن ودولة السجان، وفي الإدراك تخفيف من المعاناة، وفي الكثير من الحالات يحوّل نفسية المعاناة إلى غضب وتحدٍّ ومناعة الإرادة.

قد تبدو الجملة أعلاه كلامًا مبتذلًا عابرًا لا أحد يعيره اهتمامًا، لكنها في الحقيقة الأسيرة ليست كذلك، بل هي همٌّ ومعاناة وحالة تعذيب لا تعرف الرحمة. ليس لأن الدنيا كذلك، بل لأن السجن كذلك.

أتابع باهتمام يومي نشرة الأحوال الجوية، وأهتم بالذات بدرجات الحرارة في مناطق خارج حيفا، حيث أقيم. تهمني بالذات منطقة طبرية، إذ لا ذِكر لمنطقة غور بيسان في النشرات، ومنطقة النقب والجنوب، الداخلية والساحلية منها. لا أكترث لحالي في هذا الإصغاء، فسأتدبر أمري ولدي خيارات عديدة في كيفية مواجهتي سطوة الحر الشديد الذي يتضاعف لدى مَن أفكر فيهم.

ما يشغلني فعليًا ليس خريطة الجغرافيا الطبيعية، وإنما خريطة جغرافيا السجون غير الطبيعية. كما أن ما يستحوذ على ذهني هو وجوه الأسرى الذين لا ملاذ لهم إزاء ثقل حالة الطقس سوى ثقل حالة السجن. هؤلاء الذين تحضر وجوههم أمامي، وقد رسم تصبُّب العرق على محياها خريطة من خرائط المعاناة، قد يكون فيها تسليم لحالة الطقس لكن ليس للسجان. مهما كان آب لهّابًا، فليس لدى الأسرى والأسيرات من وسائل للتخفيف من وطأة ما ينتظرهم سوى الانتظار حتى تمر الموجة، لتشغلهم نهايتها المتوقعة أكثر من ويلاتها. كنا في سجن الجلبوع نهتم بحالة الطقس في طبرية ونضيف إليها من خمس إلى عشر درجات، ونضيف إلى نسبة الرطوبة رطوبة وضغطا؛ هكذا نرصد نحن الأسرى الأحوال الجوية، فللأسرى مجسات صراع البقاء التي لا يملكها أي جهاز أو أي اختراع. إذ نحتسب نسبة الرطوبة، ووطأة حرارة غور الأردن الذي يقع السجن على مشارفه، وفي مجمع سجن شطة التاريخي. ولو استعرنا مفردات الرحمة فإن السجون القديمة أرحم من الحديثة، ففي القديمة كانت الغرف واسعة والأسطح عالية والجدران سميكة والنوافذ المغلقة بالشباك كبيرة، وهو ما يعزل بعض أشعة الشمس وحرارتها. بينما السجون "الحديثة" لا تعزل شيئًا باستثناء الأسرى. هندسوها لتكون كذلك.

المراوح الشخصية وأغلبيتها قديمة، قد امتلكتها مصلحة السجون على حساب الأسرى مباشرة أو بشكل غير مباشر على حساب أرباح الـ"كانتينا"، وفي الحالتين على حساب الأسرى. فالمراوح كما كل الحقوق لا تُعتبر حقًا بل منّة وامتيازًا تستطيع التحكم فيها متى أرادت الانتقام تحت مسمى العقاب. حال هذه المراوح هي أنها تبث مساءً وليلًا الهواء الحار الذي اختزنته الجدران والشبك الحديدي الهائل طوال النهار، لتكون الجدران حارة وتنشر سخونتها إلى الأسير الملتصق بها، حيث لا يتعدى عرض السرير الحديدي الستين سنتيمترًا، وهكذا ينال كلٌّ نصيبه القسري من الحرارة المخزونة.

هناك شبه كبير بين اجتهاد الأسرى واجتهاد النمل، وإحدى أهم الميزات هي كيفية إيجاد الفسحات، وتحسُّس نقاط ضعف الجدران، أو الالتفاف عليها، كي يحققوا مبتغاهم. وهذه الميزة تحتاج إلى دهاء مبني على أساس متين من القدرة على الصبر. فهناك مَن لا يبالي بالحرارة القاهرة، وذلك إدراكًا من تجربته أن كل اكتراث لها سيجعله يعاني ويلاتها. إنه يستخدم هدوءه الداخلي النفسي كي يبرّد الجسد. وهناك مَن يضع منشفة مبلولة بالماء أمام المروحة أو وراءها، عملًا بقانون التبريد، إذ تبرد المنشفة لتبث هواء لطيفًا ولو لبعض الوقت، إلى حين تكرار التجربة. وفي حال توفرت قنينة ماء مجمّدة فيكون لها مفعول لطيف مقابل المروحة أيضًا. هناك مَن يسعون جماعيًا إلى إطفاء الضوء باكرًا، فالعتمة أرحم من ضوء السجن الذي لا تشبهه إلا أضواء المصانع أو أقفاص مزارع الدجاج، كي يوهموها بأن الدنيا نهار وهكذا تُكثر من البيض. العتمة نسبية، حيث أضواء المرافق والساحة وكذلك فوانيس السجانين الكبيرة التي يتجولون بها في الساحة طوال الليل ويسلطون ضوءها على الأسرى كي يضمن السجان أمنه لا أمن مَن يزعجهم. حتى في هذه العتمة النسبية هناك بعض الراحة. أما الإكثار من الاستحمام فهو يساعد لدقائق معدودة يزداد بعدها تصبُّب العرق، إذ تكون نسبة الرطوبة والحرارة قد ارتفعت.

في ساعات النهار يلجأ البعض إلى ملء حجرة الأسر وتحويلها إلى ما يشبه بركة سباحة متخيلة، وذلك بعد رفع كل اللوازم ووضعها على الأسرّة العُلوية (الأبراش)، وسد كل طاقات التصريف وأسفل البوابة الحديدية بالمماسح والأقمشة البالية. ثم يباشرون ملء المياه بارتفاع نحو متر، وهو فعل يعاقَب عليه الأسرى في حال تم ضبطهم، إلا إن كل إبداع ترافقه مخارج مبدعة للحيلولة دون ضبطهم ومن دون أي عقاب. وبصورة عامة، فإن الأسرى أكثر ذكاء من السجان، فالأخير يملك الأدوات والسطوة والأجهزة، فيما الأسرى يملكون ذواتهم وحنكتهم، وطبعًا إراداتهم. يسبح الأسرى في البركة ويهنَؤون ويلهون، وبعد ذلك يفتحون البوابة لتندفع المياه إلى الساحة جدولًا غزيرًا. أما الرياضة البدنية في ساحة السجن في ساعات الصباح والعصر، فتكون في مثل هذه الحال من باب "داوني بالتي كانت هي الداء"، وهي من أنجع الطرق التي عرفتها للتخفيف من وطأة الحر الرهيب.

عادةً ما يكون النوم متقطعًا للغاية، ليغفو الأسرى في ساعات الفجر الأولى حين يبدأ مخزون حرارة الجدران بالتراجع، تمضي ساعتان أو ثلاث لتشرق الشمس، بعيدًا عن مجال رؤية الأسرى، وهناك من القدامى الذين لم يشاهدوا شروقها منذ عقود، وتبدأ عملية العدد الصباحي المزعجة، لينهض الأسرى من فراشهم ويقفون على أرجلهم، فينقطع حلم ربما كان جميلًا ومساحته خارج السجن، ليعيدهم السجان إلى سجنه، وتبدأ حرارة اليوم التالي، لتكون "أعلى من معدلها في مثل هذه الفترة من السنة".

قد لا نستطيع التخفيف من وطأة الحر القاهر، لكننا نستطيع أن نكشف وطأة السجن ودولة السجان، وفي الإدراك تخفيف من المعاناة، وفي الكثير من الحالات يحوّل نفسية المعاناة إلى غضب وتحدٍّ ومناعة الإرادة.

التعليقات