08/10/2021 - 16:45

في البديل لفوضى قيادة فلسطينيي الداخل

إذا تواصل غياب المركز الموحد والقوي، وغياب الرؤية الوطنية والإستراتيجية - البنائية، فإن المزيد من أوساط الطبقة الوسطى الآخذة في التوسع، ستنضم إلى هذا النهج بوهم الحصول المساواة أو مزيد من الحقوق، دون أن تكلف نفسها عناء النضال السياسي الموجه

في البديل لفوضى قيادة فلسطينيي الداخل

لا جدال في أن مركز القرار لدى فلسطينيي الداخل بات مهلهلًا، إذ تغيب عنه المركزية، على علاتها، التي كانت قائمة حتى نهاية العام 2015، أي بعد أشهر قليلة من تشكيل القائمة المشتركة، وإجراء انتخاب داخلي لرئاسة لجنة المتابعة العليا. ونقصد بالمركز لجنة المتابعة، وهي الهيئة الفلسطينية العليا داخل الخط الأخضر.

ويعكس المشهد الحالي المثل الذي يقول "كل يغني على ليلاه". فما يجري داخل أروقة الكنيست من صراع داخلي بين العرب، وآخرها إسقاط قانون اجتماعي بأصوات قائمة عربية (الموحدة) وهو قانون قدمه نائب عربي من قائمة أخرى (المشتركة)، يقدم مثالًا آخر لحالة سريالية متشكلة نافرة، ربما غير مسبوقة في تاريخ العلاقة بين الأحزاب العربية في الداخل.

أما الجدل الجاري وعدم الاتفاق على موقف موحد من قضية إدخال جهاز الأمن العام ("شاباك") إلى البلدات العربية تحت ذريعة محاربة الجريمة، بل الدعوة الصريحة لإدخاله من قبل قوى سياسية عربية، فهو أحد أكثر أوجه التيه السياسي قتامة، وأسوأ أشكال التشتت والتبعثر؛ إذ بات حضور أجهزة المراقبة والضبط القمعية مطلبًا لقوى سياسية ولممثلي جمهور، دون اكتراث بمآلات هذا المطلب بالنسبة لأمن وحرية المواطن الفلسطيني، وقدرته على الحراك السياسي.

وتُعزى هذه الحالة الرثة، إلى عاملين رئيسيين؛ الأول، إستراتيجية التفتيت الصهيونية كأداة تخريب وسيطرة، التي يجري تحديثها وتطويرها لتلائم التحولات داخل المجتمع العربي الفلسطيني، وداخل طبقته القيادية؛ والثاني، تدهور مستوى وأداء النخبة السياسية والبلدية والاجتماعية التي تتولى مهمة التمثيل، واكتسابها ملامح من تلك التي ميزت القيادات التقليدية زمن الحكم العسكري في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي.

فكيف يُمكن اعتماد توجهات إستراتيجية، وليست تكتيكية، من قبل شخص في حزب، أو من خلال حركة سياسية ممثلة في لجنة المتابعة، دون طرح هذه التوجهات التي تمس مصالح جميع فلسطينيي الداخل على طاولة هذه اللجنة، كما كان متبعًا منذ تأسيسها؟ بل أن هذا الشخص وتلك الحركة يواصلان نهجهما المختلف عليه، من دون أدنى اعتبار للعمل الجماعي واحترام الآخرين. فأية ديمقراطية هذه التي يدعيها هؤلاء في قضايا أخرى.

لقد جرى تحدي المركز القيادي وضرب التوافق الذي كان قائمًا داخل المتابعة حتى العام 2015 و2016 بعرض الحائط، عندما بدأ رئيس القائمة المشتركة، أيمن عودة، يُغرد خارج السرب (خارج سرب المتابعة تحديدًا)، مثل الدعوة لقطب إسرائيلي ديمقراطي مع اليسار الصهيوني وتيارات ليبرالية صيهوينية أخرى، والتي توجت لاحقًا بالتوصية على بيني غانتس رئيسا للحكومة، مع ما يعكسه ذلك من انسلاخ عن إرث سياسي وطني راكمه وتوافق عليه الفلسطينيون منذ انتفاضة يوم الأرض المجيدة عام 1976.

أما منصور عباس وحركته، فقد سبقوا أيمن عودة ومن يؤيده في نهجه، وذهبوا إلى أبعد مما يمكن تخيله في أسوأ الكوابيس. والحقيقة، أن نهج الحركة الإسلامية الجنوبية ليس جديدًا كليًا، بل كنا نلمس بذور هذا النهج البعيد عن البراغماتية المنضبطة منذ عرفناها وعملنا معها؛ ولكن ملاحقة حزب التجمع وإضعافه، وحظر الحركة الإسلامية الشمالية، ونهج أيمن عودة، شجع قيادات الإسلامية الجنوبية في ولوج منزلق الانخراط في حكومة الأبرتهايد الاستيطاني. لقد شكلت قوة الحركة الوطنية في السابق رادعًا ضد هذا الانحراف الوطني الجارف.

لن يغطي ادعاء البعض أنه يوجد مركز قرار واحد وموحد على حقيقة المشهد. وأهمية الاعتراف بوجود تفكك في مركز القرار والتخلص من حالة الإنكار، هو أنه يسهل في عملية علاج الازمة. وكل يوم يمر بلا الاعتراف بذلك ومن ثم استخلاص النتائج الصحيحة، يسمح للواقع الرث بالانزياح نحو المزيد من التدهور، ويساهم في إدامة ومأسسة حالة التشرذم والانحلال. لا نقصد أن هناك غيابا مطلقا للمركز، ولكن ضعفه وترهله هو السمة الطاغية، وهناك نزوع نحو تعمق الحالة البائسة، وربما وصولها إلى نقطة اللاعودة، على الأقل حتى المدى المتوسط. وهذا يعني استمرار العجز عن مواجهة المخاطر الوجودية التي تهدد مجتمعنا، خصوصًا العنف الذي حوله نظام الأبرتهايد إلى صدور شبابنا، بدل أن يتحول إلى غضب شعبي منظم ضد هذا النظام المجرم.

الاعتراف بتفكك مركز القرار وعواقبه الوخيمة، يجب أن يأتي من رئيس لجنة المتابعة، محمد بركة. فدستوريًا هو المسؤول الأول عن أعلى هيئة قيادية التي من المفترض أن توجه السياسات العليا وتحافظ على وحدة الهيئة. لقد سمح التهاون مع نهج قيادة المشتركة، من خلال عدم إجراء محاسبة، وقصوره في إصلاح لجنة المتابعة بتهميش اللجنة، وكذلك السماح لرؤساء السلطات المحلية بأن يصبحوا أكثر قوة في التأثير من خلال علاقتهم المباشرة مع الحكومة للحصول على الميزانيات دون اعتبار للسياسة. صحيح أن بركة حافظ على الخطاب الوطني بحده الأدنى المتفق عليه داخل الهيئة، وانتقد وينتقد بشدة وبجرأة نهجي التعويل على اليسار الصهيوني ونهج الانخراط في حكومة اليمين الاستيطاني، وينسق بين مختلف الأطر المهنية المستقلة، وهذا أمر هام بحد ذاته، غير أن كل ذلك لن يجدي في حل مشكلة استعادة المركز الموحد.

وللتوضيح، ليس المطلوب عودة واقع لجنة المتابعة إلى فترة ما قبل حصول هذه الانحرافات، فالبنية القديمة للجنة المتابعة التي تقادم عليها الزمن هي التي مهدت للتأخر، والبقاء على هامش الحَراكات الشعبية والشبابية، والتطورات الثقافية والفكرية في السنوات الأخيرة في الداخل، وحالة التلاحم الفعلي مع حَراكات الشعب الفلسطيني عمومًا. وكان مفروضًا أن تمتلك قيادة المتابعة بعد انتخابها رؤية بناء إستراتيجي، وأن تضطلع عبر الاستعانة بالخبرات السياسية والمهنية الكثيرة، بإطلاق عملية إعادة بناء جذرية وحقيقية. غير أن هذا للأسف لم يحصل.

في ظل كل ما سبق من قصور وانحرافات، وجدت مؤسسة الأبرتهايد الأبواب مشرعة وممهدة لتصعيد سياساتها ذات الوجهين، القمعي والاحتوائي - الترويضي؛ أي سياسات التمكين الاقتصادي النسبي غير المستند إلى مشروع تنمية إنتاجي من جهة، وحملة قوانين عنصرية ومخططات تهويدية وممارسات ردعية عنيفة من جهة أخرى. وأخطر نتائج هذه السياسات علينا هو سلخ قوى سياسية عن القائمة المشتركة، والتحول إلى جزء من نظام الأبرتهايد، ودفعها إلى ارتكاب خطيئتين؛ الأولى، وهي التخلي عن الحقوق الجماعية لفلسطينيي الداخل ومجابهة جوهر نظام الدولة اليهودية، الذي شكل قانون القومية أحدث تجلياته البشعة؛ والثانية، اعتبار قضية فلسطين قضية خارجية لا علاقة لفلسطينيي الداخل والظلم اللاحق بهم، بها.

تدرك إسرائيل حالة الانحلال التي تعيشها بنية القيادات العربية، ولذلك تعمل بلا كلل، لترسيخ هذه الحالة اللاسياسية أو الثقافة السياسية المتردية، وإدامة الانقلاب الأيديولوجي الذي يتشكل في أوساط النخب، عبر سياسات العصا والجزرة والقمع والاحتواء، ضد قوى الجيل الجديد الذي يسعى للاضطلاع بمهمة مواجهة نظام الأبرتهايد بنهج جديد، وبلغة ومعرفة تحررية وأدوات جديدة.

إذا تواصل غياب المركز الموحد والقوي، وغياب الرؤية الوطنية والإستراتيجية - البنائية، فإن المزيد من أوساط الطبقة الوسطى الآخذة في التوسع، ستنضم إلى هذا النهج بوهم الحصول المساواة أو مزيد من الحقوق، دون أن تكلف نفسها عناء النضال السياسي الموجه ببوصلة وطنية.

وقد تكون الخطوة الأولى المطلوبة لاستعادة أجواء الحوار، وإعادة بعض التوازن للساحة السياسية العربية كشرط لإطلاق نهج جديد، هو أن تمتلك الحركة الإسلامية الجنوبية الجرأة الأخلاقية وتُقدم على الانسحاب من حكومة الاستيطان الفاشية، ليطلق حوار فلسطيني داخلي شامل (في إطار ما يشبه مؤتمر وطني عام)، يعيد تحديد مكانتنا ومنظومة الأخلاق التي تحكمنا، ويحدد كيفية تحصيل حقوقنا اليومية والجماعية داخل اسرائيل في المرحلة الراهنة، ويحدد علاقتنا مع قضية شعبنا الفلسطيني وكجزء من مشروع تحرري شامل، ولسنا جزءًا من مشروع مساواة وتحرر منفصل.

وسواء تحقق هذا الأمر أو لا، ونتمنى أن يجد آذانا صاغية، فإن مبادرة أخرى إضافية باتت ملحة، وهي إعادة صياغة وثائق التصور المستقبلي وتطويرها لتتسع لرؤية تحررية واضحة وشاملة للكل الفلسطيني، دون القفز عن خصوصية واقع فلسطينيي الداخل وما يترتب على ذلك من خطط تعزز هويتهم ووجودهم، وثقافتهم الديمقراطية والتحررية، وقدرتهم على إدارة الصراع مع نظام الأبرتهايد الكولونيالي بخطاب حديث وناجع.

اقرأ/ي أيضًا | يمكن إحياء السياسة

التعليقات