30/12/2021 - 19:20

بين البرلمان الكولونيالي وحكومة نظام الأبرتهايد

من هنا، فإنّ المقارنات التي يجريها البعض، وعلى رأسهم منصور عباس، بين اعترافه هو بيهودية الدولة وأبديتهان بينما يجلس في الائتلاف الحكومي عن طيب خاطر، وبين اعترافات مشروطة و"مضبوطة" جرت تحت طائلة قوانين الحظر والشطب المسلطة فوق رؤوس أحزاب وحركات

بين البرلمان الكولونيالي وحكومة نظام الأبرتهايد

المشتركة قبل انشقاقها في طريقها للتوصية على غانتس (أ ب)

رغم الانقسام الحاد بين المؤيدين والمعارضين للمشاركة في انتخابات الكنيست، الذي ساد أوساط جماهيرنا وطلائعها السياسية على امتداد عمر الدولة العبرية، وكان سببا في إحداث تصدّعات وانشقاقات عامودية وأفقية داخل الكثير من هذه القوى (الحركة الإسلامية وحركة أبناء البلد)، إلّا أنّ المشاركة في انتخابات الكنيست، ضمن حدود الثوابت المتفق عليها، بقيت داخل الإجماع الوطني لفلسطينيي الداخل، كما أنّ عضوية الكنيست لم تنتقص من مكانة توفيق زياد كشاعر مقاومة، ولا من مكانة عزمي بشارة كمفكر عربي.

لا أسوق ذلك دفاعًا عن نهج المشاركة في الكنيست، الذي حوّل الوسيلة إلى غاية والتكتيك إلى إستراتيجية، ولم يسعَ إلى مراجعة التجربة واستخلاص النتائج حول جدوى العمل البرلماني وأضراره في ضوء التطورات السياسية الأخيرة وأبرزها "قانون القومية"، بل كي لا تضيع الطاسة وتختلط الأوراق و"يذهب الصالح بعزا الطالح".

ومثلما انتقدنا، في السابق، محاولات البعض استعمال توفيق زياد لتبرير نهج الانحراف الذي قاده بالتوصية على جنرال الحرب بيني غانتس، ثم التوصية على لبيد - بينيت التي قادت إلى حكومة الاستيطان الحالية، والمقارنة غير البريئة مع دعم الجبهة والحزب الديمقراطي العربي، في حينه، لحكومة رابين التي مثّلت انعطافة في السياسية الإسرائيلية باعترافها بمنظمة التحرير الفلسطينية وتوقيع اتفاق سلام معها (علمًا أنّ ثغرات هذا الاتفاق ومآلاته تبقى موضوع نقاش آخر).

فقد آن الأوان للاعتراف، قطعًا، بأنّ منصور عباس - وإن سار على درب نهج التوصية على غانتس، الذي مهّده وعبّد طريقه أيمن عودة تحت غبار مقولات "التأثير والتغيير" البغيضة - سقط في المستنقع الصهيوني منذ لحظة دخوله بسبق إصرار وترصّد في الائتلاف الحكومي الذي يرأسه رئيس مجلس المستوطنين السابق، نفتالي بينيت، على الرغم من إدراكه بأن هذا الائتلاف لا يبدي أي تحوّل، ولو طفيف، نحو الاعتراف بحقوق شعبنا وقضيته الوطنية، وأنّه ممعن في سياسة الحرب والاستيطان والاحتلال والأبرتهايد الإسرائيلية التي نلمس تجلّياتها في الضفة وغزة والداخل الفلسطيني والجولان المحتل.

من هنا، فالاستمرار في وضع الجميع (الأحزاب العربية المشاركة في الكنيست) في سلة واحدة تحت مقولة نهج التوصية على غانتس، بات يشكّل صك براءة لجريمة منصور عبّاس المتمثلة بمشاركته في الائتلاف الحكومي ودعم حكومة الحرب والاستيطان والاحتلال والأبرتهايد الصهيونية، أكثر ممّا يشكّله من إدانة للنهج الذي قاده أيمن عودة.

وربّما يكون عباس هو أكثر المعنيين باستمرار هذا الخلط السياسي لمواصلة التلفع بـ"نهج التوصية" لتبرير خطيئته الكبرى المتمثلة، أوّلًا وأخيرًا، بالمشاركة ودعم ائتلاف حكومي صهيوني، بغضّ النظر إن كان يقوده مستوطن من الصهيونية الدينية أو حتى يساري صهيوني.

تعلّمنا التجارب التاريخية أنّ بعض الأحزاب الثورية والوطنية شرّع دخول البرلمان البرجوازي أو الكولونيالي في ظروف تاريخية عينية وضمن شروط معينة، بغية فضح هذا البرلمان من داخله وإعلاء صرخة الطبقة المضطهدة أو الشعب الواقع تحت الاستعمار الاستيطاني وتشكيل ذراع سياسي برلماني للقوى العاملة في الميدان، لإنهاء حالة الظلم الطبقي أو الوطني.

واهتدى بعض القوى العربية الفلسطينية في الداخل بهذه التجارب ودخلت الكنيست، واختلفت معها أخرى فبقيت خارجه، إلّا أنّ التاريخ لم يعرف مشاركة قوى ثورية أو وطنية لائتلاف حكومة "العدو" والتصويت ودعم قرارات لقمع شعبها وجماهيرها، اللهم سوى القوى العميلة للاستعمار الأجنبي أو الخائنة لمصالحها الطبقية.

وفي الحالة الإسرائيلية/الفلسطينية، بدا واضحًا لدى القوى التي بقيت فاعلة بين جماهيرنا، التمييز القاطع بين البرلمان (الكنيست) والحكومة، حتى أنّ هذه القوى فاخرت بأنّها تستغل الحصانة التي تمنحا لها عضوية الكنيست في فضح ممارسات الحكومة وجرائمها العسكرية والسياسية والاقتصادية. ويمكن الإشارة إلى الدور تاريخيا، بظهور النائب توفيق طوبي، في حينه، كمن اخترق الحصار العسكري المفروض على كفر قاسم وكشف عن المجزرة الرهيبة التي ارتكبت بحق أهلها عام 1956، وحديثا بالإشارة إلى الأصداء الإعلامية والسياسية الواسعة التي حظيت بها مشاركة النائبة حنين زعبي في أسطول كسر الحصار عن قطاع غزة.

لم تطمح هذه القوى إلى المشاركة في حكومة الاحتلال، حتى في زمن الانعطافة السلمية، وعندما جاء رابين "هارعا"، كما وصف بعض المراقبين، بعد أن رفضت شاس أن يُسَجّلَ عليها أنّ اتفاق سلام مع الفلسطينيين أُقِرَّ بأصواتها، وطلب ألا يكتفي أعضاء الكنيست من الجبهة والعربي الديمقراطي بالامتناع عن التصويت، كما اتفق، بل أن يصوّتوا إلى جانب حكومته. تردّد توفيق زياد كثيرا رغم أنّ كل ما يسمى بعملية السلام كانت على المحك. ومع ذلك، دعمت هذه القوى حكومة رابين من الخارج وظلّت تنتقد وتهاجم ممارساتها الخارجة على عملية السلام، رغم أنّ تلك الفترة شهدت تحولات جديّة باتجاه "مساواة" العرب في إسرائيل، لم تقتصر على فتات الميزانيات.

وربما إذا ما نظرنا إلى الكنيست في إطار جدلية العلاقة التاريخية بين المستعمِر والمستعمَر، نجد أنّها لم تكن خيارا يمكن قبوله أو رفضه، بل وسيلة للبقاء السياسي شأنها بذلك شأن الهوية الإسرائيلية بالنسبة لجماهيرنا التي صوّتت غالبيتها الساحقة، أيضا، في الانتخابات الأولى وبنسبة 90% لحزب مباي.

وكلنا يعرف أنّ حركة الأرض حاولت في الستينيّات، أيضًا، استعمال الكنيست كوسيلة للبقاء ولم يسعفها ذلك، إذ أصرّت إسرائيل على حظرها استنادا إلى أنظمة الطوارئ العسكرية وقمع قياداتها من خلال سجن بعضهم ونفي آخرين. وبغضّ النظر عن تطلعات حركة الأرض الوطنية، فمجّرد السماح بتأسيس حزب عربي مستقل (الحزب الشيوعي هو حزب يهودي عربي) كانت مسألة فيها نظر من قبل المخابرات الإسرائيلية، وليس صدفة أنّ المسألة احتاجت، بعد حركة الأرض، لـ30 سنة أخرى إلى أن تأسّس الحزب الديمقراطي العربي، الذي سهّل عمليه شرعنته كون مؤسسه، عبد الوهاب دراوشة، انشقّ عن حزب العمل.

من هنا، فإنّ المقارنات التي يجريها البعض، وعلى رأسهم منصور عباس، بين اعترافه هو بيهودية الدولة وأبديتها، بينما يجلس في الائتلاف الحكومي عن طيب خاطر، وبين اعترافات مشروطة و"مضبوطة" جرت تحت طائلة قوانين الحظر والشطب المسلطة فوق رؤوس أحزاب وحركات أخرى، هي مقارنات بائسة، تسعى، مرّة أخرى، إلى خلط الأوراق والادّعاء أنّ "كلنا بالهوى سوى"، وهذا في أفضل تقدير غير صحيح.

وحتى الذين أوصوا على غانتس وصمّموا نهج التأثير الذي أوصل منصور عباس إلى هذه الهاوية، ما زالوا يقفون على الأرضية الوطنية ولم يسقطوا. وقد آن الأوان للتمييز القاطع بين من سقط في مستنقع ائتلاف حكومة الحرب والاحتلال والاستيطان والأبرتهايد، وبين من ما زال يمارس نشاطه البرلماني المشروع بكل ما يشمله من أحابيل وألاعيب سياسية، رغم انتقادنا الشديد له، وقطعا فإنّ الفرز الوطني هو ليس بين من يذهب للكنيست وبين من لا يذهب، بل بين من يقف على الأرضية الوطنية وبين من سقط في هاوية ائتلاف حكومة الحرب والاحتلال والاستيطان والأبرتهايد.

التعليقات