07/01/2022 - 16:07

شهداء قلّة المسؤولية

نعزِّي أنفسنا إذ نقول إنهم شهداء لقمة العيش، ولكنهم في كثير من الأحيان شهداء الاستهتار وقلة الوعي والمسؤولية.

شهداء قلّة المسؤولية

الضحايا (مواقع التواصل الاجتماعي)

صحيح أن الفِتية الثمانية الذين لاقوا حتفهم في حادث طرق في منطقة أريحا هم شهداء لقمة العيش. أولئك الفتية، الذين لم يبلغ أكبرهم الثامنة عشرة بعد. وصحيح أنهم كانوا في طريقهم إلى العمل أو عائدين منه، وصحيح أننا نؤمن بالقضاء والقدر و"إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون"، وفي هذا بعض العزاء، وندعو الله أن يصبّر ذويهم، وذوي غيرهم من ضحايا حوادث الطرق والعنف وحوادث عمل، إلا أنّهم في نهاية الأمر، شهداء عدم القيادة الصحيحة للسيارة، وعدم الالتزام بقوانين السّير.

وعدم قدرة سائق المَركبة على تقدير خطورة الشّارع، الذي يتطلّب يقظة وحذرًا وانتباهًا متواصلا، خصوصًا عندما يكون في السَّيارة عدد كبير من الأرواح.

عدد ضحايا الشّوارع كبير من اليهود والعرب، ولكن من الواضح أن أعداد الضحايا العرب أكبر بكثير نسبيًا، كما هو الحال مع ضحايا العنف وحوادث العمل.

السيارة أداة نقل وعمل وتتحوّل إلى سلاح فتّاك مثلها مثل القنبلة وأكثر، عندما يجلس وراء مقودها سائق غير مؤهّل أو متهوِّر يتصرَّف بدون مسؤولية.

هناك حالات يتمتُّع فيها السائق بثقة زائدة بنفسِه، ويتصرّف كأنه معصوم من الحوادث، فيظن أن مرور سنوات طويلة له على الشارع دون حوادث هو ضمانة لعدم التورّط في حادث، وكثير من السائقين يعتمدون على نباهة السائقين الآخرين متخلّين بهذا عن مسؤوليتهم عن أنفسهم وعن غيرهم، فيقودون بصورة مغامرة.

قبل أيام قليلة، رافقت صديقًا لم يتورّط في حوادث من قبل، رغم قيادته للسيّارات منذ خمسة وثلاثين عامًا.

فجأة مدّ يده وجسدَه باتجاه الفتحة أمام المقعد الذي إلى جانب السائق لأجل إخراج عُلبة ملبّس. في تلك اللحظة، كنت في المقعد الخلفي منشغلا بهاتفي، وإذ بالسّيارة تترنح بقوة كأنّما عملاقًا رفسها يمينًا وشمالاً أكثر من مرّتين، وانطلقت صفارات التحذير من ورائنا من أكثر من مصدر، فقد انحرف عن خط سيره، وكاد يرتطم بسيارة كانت على وشك تجاوزه، وحقيقة أنه كان بيننا وبين حادث كان يمكن أن ينتهي بحياتنا أقل من ثانية، قلت له - كدت تقتلنا لأجل حبّة ملبّس! كان ممكن لمن يجلس إلى جانبك القيام بالمهمة.

فحاول إخفاء ذهوله وقال مبتسمًا: لا، لا تخف. أنا أقود سيارة منذ أربعة عقود.

- ولكن كدنا ننقلب ونصدم سيارة، وتصرُّفك هذا لا يشير إلى خبرة سائق منذ أربعة عقود على الشارع، هذه قلة مسؤولية، وتصرُّف مراهق.

- لا، لا تبالغ، إنها تحت السيطرة...

هكذا تقع الحوادث القاتلة. يلهو السّائق خلال أقل من ثانية بغير الشارع، نظرة واحدة إلى هاتفه، أو للبحث عن شيء ما تحت قدميه أو إلى جانبه، ناهيك عن أولئك الذين يكتبون الرسائل في هواتفهم أو يكتبون موقع وجهتهم على الـ"ويز" أثناء القيادة.

مسؤولية السّلطة في موضوع حوادث الطرق غير مباشرة وليست مباشرة مثل قضية العُنف، صحيح أن بعض الحوادث يتعلق بالبنى التحتية والفقر الذي ينعكس على صيانة السّيارات في الوقت المناسب. إضافة إلى أن للعرب الحصة الأكبر في قطع مسافات طويلة للوصول إلى العمل والعودة منه، وفي سيارات مليئة بالعمال، ما يؤدي إلى توتُّرات وضغط أكبر على السائقين الذين يريدون الوصول إلى العمل أو إلى بيوتهم بأسرع وقت ممكن، فيضعف التركيز وحتى الشعور بالحذر والانتباه. إلا أن معظم أسباب حوادث الطرق تتعلق بالسائقين وليس بالبنى التحتية ولا بظروف المعيشة، السّائق يتحمّل المسؤولية الأولى والأساسية عن كل حادث طرق، حتى ولو لم يكن هذا بسبب خطَئه، فمسؤوليته أيضا أن يحذر من السائقين المتهوِّرين أو الأغبياء على الشارع، ومن مفاجآت غير متوقعة.

قيادة السيارة ثقافة ونهج حياة ومسؤولية، وهي جزء من شخصية الإنسان، والتهوّر في القيادة عمل صبياني، يدفع ثمنه الضحايا أوّلا، وآلاف العائلات التي تفقد أحباءها، وتتحوّل في لحظات من أسر سعيدة أو على الأقل تعيش بروتين يومي عادي، إلى عائلات تعيسة يحتل بيوتها وقلوبها الحزن والألم على أبنائها الذين رحلوا "ضحكة بلعبة" وبدون أي ثمن، هكذا بصورة مجانية، بسبب لحظة عدم انتباه وقيادة غير مسؤولة.

نعزِّي أنفسنا إذ نقول إنهم شهداء لقمة العيش، ولكنهم في كثير من الأحيان شهداء الاستهتار وقلة الوعي والمسؤولية.

التعليقات