12/01/2022 - 17:07

صحراء بئر السبع ورؤية "الرجل الحديديّ"

تخوَّف أوسيشكين من الـ"غيتو" اليهودي، فصنع أتباعه "غيتوهات" عربيّة، وأسّس نظريّته الاستيطانيّة القاضية بـ"اختراق الأرض والاستيلاء عليها حيثما أمكن ذلك"، وهذا ما نشهدُ اليوم أنه مستمرّ، ولم يتوقّف ولو لمرّة

صحراء بئر السبع ورؤية

(خاصّة بـ"عرب 48" - محمد وتد)

كتب الرئيس الرابع لـ"كيرن كييمت ليسرائيل" (الصندوق الدائم لإسرائيل – "كاكال")، ميناحيم أوسيشكين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1939، مقالًا تحت عنوان: "فداء الأرض بأيام الحرب"، وقال مُحفّزًا ومُجيِّشًا مشاعر الخوف ليهود أوروبا وهم على أعتاب الحرب العالمية الثانية، إن ثلاثةَ أمور يمكنها إخراج الحرفيْن "א - י (حرفان باللغة العبريّة؛ الأوّل تُبتدأ فيه كلمة ’أرض’ بالعبرية، والثاني تُبتدأ فيه كلمة ’يسرائيل’)" من بين الاقتباس لتصبح "إيرِتس يِسْرَائِيل" ("أرض إسرائيل") حقيقة مرئية، هي؛ العمل السياسي، والهجرة "هَعَلِيَا (بالعبرية)"، والأرض.

وبما أنّه شغل منصب رئيس "كيرن كييمت ليسرائيل" لمدة 20 عامًا، فمهمّته كانت، الاختصاص بالأرض وكل ما يلزم من أجل الاستيلاء عليها، بدءًا من شرائها وصولًا إلى السيطرة عليها بكل الطرق الأخرى، ثمّ تُصبح مهمة التوطين تحت مسؤولية جهات صهيونية أخرى. كان المُهندس المولود في روسيا، يخوض سؤال الأفضلية لِمَن، القرية أم المدينة؟ من حيث الأهميّة لبناء "الأمّة" والحفاظ على ديمومتها، وكانت في تلك الفترة تل أبيب قد أصبحت نموذجًا لمدينة يهوديّة، ولم يتجاوز عدد سكّانها اليهود مئتي ألف حينها، وأبدى تحفظاته من المدينة والتّمدُّن اليهودي في فلسطين، إذ اعتبر تل أبيب التي بدأت كحيٍّ ثم أصبحَت مدينة، أنها "غيتو" لتوطين اليهود، وهو ما لا يصبّ في مصلحة اليهود، بل وعبّر عن ذلك مفسّرًا أنه لو سكن اليهود المُدُن بنسبة 75% ، في حين سكن 25% منهم القُرى الزراعيّة؛ فهذا خطرٌ على فكرة الدولة اليهودية.

"الدولة تعود ملكيّتها لأبناء القُرى، وهم الذين يتركون بصماتهم على ملكية الدولة. وإذا كان لدينا عدد كبير من الأراضي الزراعية، فإن فرص تحررنا واستقلالنا ستزداد في كل الأحوال"، هكذا قال أوسيشكين الذي اشتُهر بلقب "الرّجل الحديديّ"، قبل النكبة الفلسطينية بـ8 سنوات، ومرّ 81 عامًا مُنذ أن عبّر عن رؤيته في ضرورة السيطرة على الأراضي الزراعية من جهة، وبناء المستوطنات من جهة أخرى، وما زال "الصندوق الدائم" على درب المؤسسين بدءًا بتهجير القرى الفلسطينية ومحو آثارها وتشجيرها بالصّنوبر الغازي، ومرورًا ببناء المستوطنات ووصولًا إلى تحريش أراضي صحراء بئر السّبع الفلسطينية، للبدء بعمليّة "تشجيرٍ تهجيريّ".

حتى بعد أن قامت لإسرائيل قائمة، وأصبحت دولة بعد أن طردت سُكان الأرض الأصليين، وسلبت أملاكهم ومدنهم وقراهم ومزارعهم، ما يزال هوس السيطرة والاستيلاء على الجزء الصغير الباقي المُتبقي بملكيّة الفلسطينيين البدو في صحراء بئر السبع، يلاحق الدولة وصندوقها المؤسّس الفعلي لهذه الدولة.

ممّا تخوّف أوسيشكين؟

أسلفت وذكرت أن تركيز اليهود في المُدن أو في منطقة واحدة، كان أحد تخوّفاته وأنه أعطى لعملية توطين اليهود في المدن، اسم "غيتو"، فطرح سؤالَ "كيفية إدارة العملية الاستيطانية؟"، وعليه أجاب بأنه "من منطلَق الحاجة إلى إنشاء وطن قومي لشعب إسرائيل، فإن الجواب لا يمكن أن يكون إلا التشتت (بمعنى الامتداد على الأرض بطولها وعرضها)، ويجب علينا اختراق الأرض والاستيلاء عليها حيثما أمكن ذلك. سلكنا هذا الطريق في السنوات الأخيرة، والطريق ذاته يجب أن نستمر به في المستقبل".

يتداول السياسيون والإعلاميون الإسرائيليون مصطلَح "هَبزُورا هَبِدْوِيت (التجمعات البدوية المتفرقة)"، الذين يسكنون في صحراء بئر السبع الفلسطينية، وهذه الفئة من الفلسطينيين، هم أصحاب قرى بدويّة كانت قبل إسرائيل، ولم تنتظر اعتراف أحد قبل أن تأتي عليهم الحركة الصهيونيّة غازيّة محتلَّة، فصادرت إسرائيل نحو 98% من أراضي صحراء بئر السبع إثر النكبة، وعلى ما تبقى منها، صنعت إسرائيل "غيتوهات" على أشكال مُدن عزلت عن سُكّانها أطباعهم الثقافيّة إلى حدٍ ما. وبالعودة للقرى "غير المعترف بها"، أو "مسلوبة الاعتراف" إسرائيليا، فهذه القرى يعيش فيها عشرات الآلاف من الفلسطينيين البدو، بلا أي مكون من مكوّنات التجمّعات السكّانية المعهودة في عام 2022.

إذن، تخوَّف أوسيشكين من الـ"غيتو" اليهودي، فصنع أتباعه "غيتوهات" عربيّة، وأسّس نظريّته الاستيطانيّة القاضية بـ"اختراق الأرض والاستيلاء عليها حيثما أمكن ذلك"، وهذا ما نشهدُ اليوم أنه مستمرّ، ولم يتوقّف ولو لمرّة. وأراد أوسيشكين ترسيخ "هَهِتْبَزْرُوتْ هَيِهُوديتْ" (الامتداد اليهودي على الأرض بطولها وعرضها)، وعلى هذه العقيدة يسير "الصندوق الدائم" بصفته المؤسسة الرسميّة، من جهة، والمستوطنون المتطرفون الذين يستولون على الأراضي بالضفة الغربية المحتلة بالحديد والنّار بصفة رسميّة وغير رسميّة، من جهة أخرى.

ولأن التجمعات البدوية المتفرقة، تعزّز ادعاء أوسيشكين بأن "الدولة تعود ملكيّتها لأبناء القُرى" وهم المزارعون ورعاة المواشي وأصحاب الحظائر، فهُم حجر عثرة أمام هويّة الدولة اليهوديّة، وما تزال مضارب البدو سواء في الأغوار في الضفة الغربية المحتلة، أو في صحراء بئر السبع، مستهدَفة من قِبل المستوطنين والمؤسسات الداعمة لهم، وبطبيعة الحال، إنّ الدولة كجسم يحمل هذه التطلعات والمطامع التوسعيّة.

"كاكال" صاحبة السُلطة

يُمارِس "كاكال" إرثه وطبيعته، فأما سُلطته وشرعيته فهي مُستمدة من دوره التاريخي في بناء الوطن القومي للمستوطنين اليهود في فلسطين، ويُجمِع السياسيون الإسرائيليون الفُرقاء، على ضرورة تركيز الفلسطينيين في كل مكان بـ"غيتوهات". وفي المقابل، الاستمرار بالتوسّع الاستيطاني اليهودي على خُطى أوسيشكين وأسلافه وأتباعه لاحقًا.

وهو ما "يغفله" عرب حكومة الأبارتهايد الإسرائيلي -بقَصد أو بغير قصد- إذ يقايضون الحقّ بالاعتراف بهذه القُرى مُقابل تركيز أكثر فلسطينيين بدو على أقلّ مساحة، ليتمّ استغلال ذلك كـ"إنجاز" سياسيٍّ، لكنّ أصحاب هذه القُرى ولجنة المتابعة العليا والأكاديميين وجمعيّات المجتمع المدني، لم يغفلوا عن مكائد المخططات الحكومية وقراراتها التي تسعى للاستيلاء على ما تبقى من صحراء بئر السبع.

كانت تصريحات مدير عام حركة "ريغافيم" الاستيطانية، مئير دويتش، إثر القرار الحكومي المزعوم بالاعتراف "بثلاث قرى بالنقب"، حقيقيّة وصريحة حينما رحّب بالقرار الذي مرّ بالشروط الاستيطانية اليهوديّة، وفيه وصَفَ القرار بدقّة، بالقول إنّ "قرار الحكومة يشكل فرصة لتغيير وجه النقب، وإعادة الأراضي (أراضي بدو صحراء بئر السبع) إلى دولة إسرائيل، وبدء تجميع البدو في المناطق المفتوحة (أي القرى مسلوبة الاعتراف) داخل بلدات قانونية"، وهو ما كان قد سوّقه سياسيو القائمة العربية الموحدة وقيادات في الحركة الإسلاميّة الشريكة في الحكومة الإسرائيلية على أنه إنجازٌ يعود لصالح حنكة "المُجدِّد" وجهبذته السياسيّة.

يتذرّع سياسيو "عبيد المنزل" بأنهم قادرون على التأثير على السياسات الإسرائيلية أو حتى تغييرها، بحُجّة أنهم ملّوا من الشعارات منذ 73 عامًا. لكن، حتّى من هذا الباب، نكرّر مثلنا الشعبيّ القائل: "لَو بِدها تشتِي غيّمت".

الخطيئة التاريخية هي الاعتقاد بأن ممارسات إسرائيل هي نابعة عن سياسات فحسب، ولربما المرونة أو "الانبطاح" بتعبير أدقّ، ستفيد بتغيير هذه السياسات، ويا ليتهم يعلمون أن تجريف الأراضي وتحريشها وتهجير سكّانها غير خاضع لـ"هيبَة وكرش" المُختار العربي الذي نفختُه إسرائيل، بل هي "غيؤُلاتْ هَأَدَمَاه" (فداء الأرض) التي تتلقى إجماعا صهيونيا يتخطّى السُلطة المركزية في ممارساته الميدانية.

القصد أن أوسيشكين بالإضافة إلى زملائه من المستعمرين المؤسِّسين، أدركوا قيمة رأس المال، لاقتناء الأراضي، ولاحقًا أدركوا قيمة التهجير ومصادرة الأراضي فهي (أقل كلفة)، وهكذا هي الأيام دُول، تُعطيك إسرائيل مالًا، لكنّ الأرض تصادرها وتشجّرها وتهوّدها، أما أنت فتبقى يتيمًا عاريًا، تنتظِر كسرةً متبقيّة من على مائدة "الخواجا".

التعليقات