15/04/2022 - 10:17

في أثر الهزيمة... بحثا عن الخروج من الأزمة

وحد الاستعمار الاستيطاني الشعب الفلسطيني بين النهر والبحر بما فيها غزة، حيث يعيش كل الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية واقع الدولة الاستعمارية الاستيطانية ونظام الأبرتهايد والتطهير العرقي

في أثر الهزيمة... بحثا عن الخروج من الأزمة

هزت الانتفاضة الأولى العالم والمجتمع الاستعماري الاستيطاني الإسرائيلي، ودفّعته الثمن غاليًا حتى أُجبر على المفاوضات مع منظمة التحرير الفلسطينية. وقدّم الشعب الفلسطيني كل ما عنده بهدف إقامة دولة وعاصمتها القدس. في المقابل، كانت قيادة المنفى تبحث عن حل يتيح لها موطئ قدم وفسحة عيش بعد حرب التصفية في بيروت وحصارها وتجويعها عربيًا. فتمخضت المفاوضات عن اتفاقيات أوسلو التي اجهضت الانتفاضة الأولى ومكاسبها، وما زالت كارثتها تتفاعل إلى يومنا هذا. رغم ذلك، خطت المقاومة الفلسطينية معادلة كتبتها بالتضحيات، مفادها لا تحرر من دون دفع الاستعمار والاحتلال الثمن من خلال استهداف عمقه الإستراتيجي النفسي، وإفقاده الإحساس بالأمن والأمان أفرادًا وجماعة.

في السياق نفسه وبهدف إسقاط اتفاقيات أوسلو إسرائيليًا، اغتال اليمين الذي يقود إسرائيل اليوم، رئيس الحكومة الإسرائيلية حينها، يتسحاق رابين، أواخر عام 1995 وبعدها بشهرين اغتالت إسرائيل الشهيد المهندس يحيى عياش، لتثبيت مكتسبات أوسلو.

اغتيال عياش فتح جهنم العمليات الاستشهادية ومعها انقلب المزاج الجماهيري الإسرائيلي ضد عملية السلام واتفاقيات أوسلو، على الرغم من إجحافها بحق الشعب الفلسطيني، ما مهد الطريق لفوز بنيامين نتنياهو في انتخابات 1996، مستغلاً امتناع العرب عن التصويت لشمعون بيرس نتيجة سياسته الإجرامية، ومنها مجزرة قانا خلال عمليات "عناقيد الغضب" الإسرائيلية في جنوبي لبنان.

مع فوز نتنياهو، ورغما عنه، استمرت العمليات حيث نفذت المقاومة الفلسطينية حتى عام 1999 (أي نهاية حكمه)، أكثر من 23 عملية استشهادية، قُتل فيها عشرات الإسرائيليين ومئات الجرحى، وانعدم معها مجددًا الشعور بالأمن والأمان الفردي والجماعي. وكما في الانتفاضة الأولى، ولكن بشكل أشد عنفًا وإيلامًا، دفع هذا الرعب وشبح الموت في كل شارع بقطاعات كبيرة من الإسرائيليين للبحث عن مخرج أو حل.

حل وجده العديد في "خطة السلام" لمرشح رئاسة الحكومة، إيهود باراك، والتي شملت المواجهة مع الفلسطينيين، وكذلك سحب القوات الاسرائيلية من جنوبي لبنان والسعي لاتفاقية سلام مع سورية.

فاز باراك في الانتخابات لرئاسة الحكومة، عام 1999، بنسبة 56٪؜ وبدعم 90٪؜ من المصوتين العرب. كما وعد بسحب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان من دون التوصل لاتفاقية مع سورية. لكنه لم يأتِ للإسرائيليين بحل في مفاوضات كامب ديفيد مع ياسر عرفات. وأخطر من ذلك، سد باراك باب السلام مع الفلسطينيين بتصريحه الجازم بأن عرفات ليس شريكًا للسلام، وانعدام شريك أو طرف فلسطيني غيره للمفاوضات معه. وهذا موقف أصبح حجر الزاوية في الدبلوماسية الإسرائيلية بعد ذلك وحتى يومنا هذا.

في هذه الأجواء، دخل شارون الأقصى بحماية قوى الأمن الإسرائيلية، وانفجرت الانتفاضة الثانية أواخر أيلول/سبتمبر عام 2000، بضوء أخضر من عرفات نفسه، بعد استخلاصه الدروس والعبر من قمة كامب ديفيد وتصريح باراك بعدها بانعدام شريك فلسطيني للسلام. هذا الموقف يعكس فهم عرفات لمصيدة أوسلو وأهمية الرد الثوري بكل الأساليب الشعبية المتاحة، ومنها الكفاح المسلح لإجبار إسرائيل على الحل. هنا تلاحم نضال الشعب الفلسطيني بين النهر والبحر بمشاركة فلسطينيي مناطق 1948، في ما أطلق عليه "هبة أكتوبر 2000" أو، واستشهد خلالها 13 شابًا في الداخل.

مرشح الليكود حينها، أريئيل شارون، تعهد بسحق "الإرهاب" الفلسطيني بالقوة. بهذا خاطب المزاج الجماهيري الإسرائيلي خصوصًا بعدما سد باراك باب المفاوضات والسلام. وحقق شارون في الانتخابات فوزًا ساحقًا، حيث حصل على 62٪؜ من أصوات رئاسة الحكومة و38 مقعدًا في الكنيست لحزب الليكود. تكمن أهمية هذه الانتخابات وفوز شارون في اعتبارها محطة فارقة في تاريخ تطرف الوعي المجتمعي الاستعماري الصهيوني باتجاه اليمين الفاشي، ومعه قيادة الدولة حتى يومنا هذا.

مع هذا المتغير، ازدادت الانتفاضة اشتعالا وتكثفت العمليات المسلحة حتى وصلت عام 2002 إلى 59 عملية استشهادية بالإضافة إلى العمليات الأخرى. شهد ذاك العام وحده 451 قتيلاً من الإسرائيليين، وعشرات الجرحى وحالة من الهلع والخوف وفقدان الشعور بالأمن والأمان.

في هذه الأجواء وفي أعقابها، شن شارون حرب "السور الواقي" على المدن الفلسطينية بهدف القضاء على الانتفاضة وقياداتها. هجوم استهدف البنية التنظيمية لفصائل المقاومة وقياداتها وقلاع تواجدها، وأهمها مخيم جنين، معضلة إسرائيل اليوم، الذي كبد الجيش الاسرائيلي خلال اجتياحه للمخيم 23 قتيلاً، منهم 13 قتيلا في يوم واحد.

من نتائج هذه الحرب، تصفية ياسر عرفات ومعه العديد من القيادات الميدانية، وزج الآخرين في السجون. وفي العام 2005 تولى قيادة السلطة الفلسطينية محمود عباس (أبو مازن) وبطانته الداعمة لموقف "التنسيق الأمني مقدس"، والرافض للكفاح المسلح كما صرح أبو مازن نفسه.

من يومها، باتت المقاومة الوطنية بين فكي كماشة إسرائيل من جهة، ومن الأخرى قوات التنسيق الأمني الفلسطينية. بكلام أوضح، كان محمود عباس ضد إستراتيجية عرفات لخلق معادلة الرعب المتبادل لفرض الحل.

انسجامًا مع ذلك، كُثّف التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وجيش الاحتلال حتى تراجع العمل المقاوم والعمليات الاستشهادية إلى واحدة في عام 2007 وانتهت في عام 2009، عام رجوع نتنياهو لرئاسة الحكومة ومعه قناعته وقناعة المجتمع الإسرائيلي، بأن ما لم يمكن تحقيقه مع الفلسطينيين بالقوة، سيكون بقوة أكبر. وعليه، عمق نهج تسويف الحل وإدارة الصراع خصوصًا على جبهة المقاومة في غزة، التي رفدتها في حينه انتفاضة السكاكين الفردية أواخر عام 2015، والتي استمرت عامًا ونصف العام.

كل ذلك قاد لاحتقان ازداد تراكمًا بعد سن "قانون القومية" في الكنيست عام 2018. بنود هذا القانون "التوراتي"، وخصوصًا أول ثلاثة منها، حددت حدود الدولة اليهودية الجغرافية بين النهر والبحر، وحق تقرير المصير حصرًا للشعب اليهودي وفقًا للمفهوم التوراتي. سبقه قانون المواطنة والعودة عام 1951، الذي حدد طبيعة يهودية الدولة ونظامها.

بكلمات أخرى، من حيث لا يقصد وحد "قانون القومية" الشعب الفلسطيني جيوسياسيًا بين النهر والبحر، متخطيًا بذلك اتفاقيات أوسلو التي استثنت فلسطينيي 48. وأبعد من ذلك، أسقط هذا القانون وهم حل الدولتين نهائيًا، ومعه نفي قاطع لحق تقرير المصير والعودة للشعب الفلسطيني، بعد أن قيّدت المستوطنات يد الواقع في الضفة الغربية كما خطط لها مبدع إستراتيجيتها، موشيه ديان، بعد سنوات قليلة من نكسة 1967.

سن هذا القانون عزز البنية القانونية لنظام "اليودقراطية" وديمقراطية الشعب السيد، ومعه توضّح أكثر أن المواطنة الوظيفية لفلسطينيي 48، تركتهم "ديفكتو" و"ديورا" من دون دولة، وكذلك بدون جنسية أو مواطنة متساوية أسوة باليهود، لأن قانون المواطنة وربطه بالعودة (لليهود حصرًا) جعل من الجنسية أو المواطنة القومية اليهودية جمهورانية، مزجت عضويًا ما بين الشعب والدولة كجماعة عرقية صافية متفوقة. وعليه، تبقى امتيازات المواطنة الوظيفية تحت رحمة الدولة متى شاءت أعطتها أو ألغتها مع ضمان المشاركة باللعبة الديمقراطية دون الفوز بها قوميًا أو مدنيًا. لذلك، بإمكانها منح لم شمل الأسر الفلسطينية أو منعه أو سن أي قانون يدعم يهودية الدولة. والأخطر هو أن بإمكانها التهجير الفردي والجماعي دون وجود أي قانون يمنع ذلك. ولعل الجنرال المتقاعد، عوزي ديان، قصد ذلك حينما صرح قبل أسابيع بأن على العرب الأخذ بعين الاعتبار إمكانية أن تكون "نكبة أصغر".

يستنتج من هذا أن الذي يجمع قانونيا بين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة عام 1948 و1967، هو كونهم بلا دولة (stateless)، مع اختلاف الحقوق التي تمنحها المواطنة الوظيفية للعرب في إسرائيل ويمنعها الحكم والاحتلال العسكري المباشر عن عرب الضفة الغربية.

هذه الحقائق تراكمت في ظل ممارسة استعمار اقتلاعي في الداخل والقدس والضفة الغربية، ومعها تراكم الوعي الفلسطيني الجماعي مجددًا بحقيقة وحدة الوطن، المصير والنضال المشترك في فلسطين التاريخية. وفي عام 2020 عادت بوادر المقاومة وإن لم تكن بزخم مراحل سبقتها.

فقد أدرك جيل الشباب والشابات هذه التداعيات قبل القيادات الرسمية. واستمر ذلك مع روح التحدي وجاهزية المقاومة كما عبرت عن نفسها في تلاحم هبة الكرامة في أيار/ مايو 2021 إبان الحرب الأخيرة على غزة؛ وعاد مجددًا في هبة النقب، وفي الشيخ جراح باب العامود وغيرها.

ملخص القول؛ لقد وحد الاستعمار الاستيطاني الشعب الفلسطيني بين النهر والبحر بما فيها غزة، حيث يعيش كل الشعب الفلسطيني في فلسطين التاريخية واقع الدولة الاستعمارية الاستيطانية ونظام الأبرتهايد والتطهير العرقي حسب تعريف منظمات دولية عديدة. ومع هذا الواقع الجديد سقط خيار حل الدولتين، ولم يبق متاحًا إلا خيار الدولة الديمقراطية الواحدة التي تضمن الحقوق الفردية والجماعية مع حق العودة والعدل التصحيحي وتقرير المصير للفلسطينيين؛ وأيضًا ضمان حقوق يهود البلاد الفردية والجماعية، على أن يكون النضال عربيا يهوديا مشتركا يرفض معادلة تعايش الفرس والفارس، ويصر على التفكيك القانوني لطبيعة نظام "اليودقراطية" ومركباته القانونية العنصرية وقلبها قانون الجنسية والعودة والقومية، وكذلك ديمقراطية الشعب السيد وصهيونية الاستعمار الاستيطاني الاقتلاعي.

هنا تتوحد وتختلف أدوات النضال الشعبي الفلسطيني وفقًا لخصوصيات المواقع. عمومًا، تتوحد في المقاومة المدنية غير العنيفة المنظمة والجامعة لكل الشعب الفلسطيني بين النهر والبحر، ونشدد على أن هذا الخيار هو السائد والأفضل لفلسطينيي 48 في هذه المرحلة. في المقابل، تختلف أدوات النضال في واقع الضفة الغربية وطبيعة الاحتلال والحكم العسكري، حيث يتيح القانون الدولي شرعية المقاومة بكل الوسائل المتاحة والتي يقررها الشعب الواقع تحت الاحتلال والاستعمار، وفقًا لفهمه مرحلة النضال. بطبيعة الحال، غزة لا تُفهم خارج هذا المشهد، فهكذا تعمل المقاومة على تدفيع الاستعمار ثمنا باهظا يجبره على العقلنة والبحث عن حل جذري من خلال التفاوض، وليس إدارة الصراع أو "تقليصه". في هذا السياق تُفهم عودة كتائب الأقصى ("فتح") وسرايا القدس - كتيبة جنين للفعل المقاوم لتغيير المشهد السياسي الذي تحكمت به سلطة أوسلو على مدار عمر ردتها وانقلابها على المشروع الوطني الفلسطيني.

وحتى نكون في الداخل شركاء في النضال، يجب تنظيم الحركة الجماهيرية مع التركيز على مجموعة الهدف الـ 56% من مقاطعي الانتخابات. وهذا يعني البحث عن تنظيم مجموعة الهدف هذه وغيرها بهدف ضبط وتوجيه عمل الأحزاب في الكنيست، بما يخدم تنفيذ برامج تمكين الحركة الجماهيرية في الداخل، وفقًا للأهداف العامة لتنظيم الشعب الفلسطيني كله من أجل تفكيك بنية الاستعمار وإقامة الدولة الديمقراطية الواحدة بين النهر والبحر، وهذا لا يتعارض مع فرض حل الدولتين في الطريق إليها.

التعليقات