27/08/2022 - 17:08

عن الكتابة والقراءة

في فترات مختلفة صدرت عن كُتّاب ومثقفين مشهورين أصوات يائسة من جدوى الكتابة وتأثيرها. وعادة ترتفع هذه الأصوات بعد حصول منعطفات تاريخية دموية، أو هزائم مدوية لأمة، يكون أصحابها قد كتبوا بغزارة عن مقدماتها، وحذّروا منها، دون أن تلقى آذانًا مصغية،

عن الكتابة والقراءة

صورة توضيحية (Gettyimages)

في فترات مختلفة صدرت عن كُتّاب ومثقفين مشهورين أصوات يائسة من جدوى الكتابة وتأثيرها. وعادة ترتفع هذه الأصوات بعد حصول منعطفات تاريخية دموية، أو هزائم مدوية لأمة، يكون أصحابها قد كتبوا بغزارة عن مقدماتها، وحذّروا منها، دون أن تلقى آذانًا مصغية، لا من الحكام أو الطبقة المسيطرة وأبواقها، ولا من عامة الناس.

مثلًا، أعلن شاعر إنجليزي مشهور، هو ويستان هوف أودين (1907 - 1973) أن كل ما كتبه عن هتلر وحذّر منه، لم يمنع قتل إنسان واحد. وكتب المفكر السعودي، عبد الله القصيمي، مقالا في مجلة الآداب اللبنانية عام 1957 مقالا عنوانه؛ "الكاتب لا يغير المجتمع". والقصيمي كان مفكرًا مثيرًا للجدل، إذ انتقل من الدفاع الشرس عن الوهّابية باعتبارها ثورة روحية ضد الخرافات، إلى ناقد شديد للموروث الديني أثناء دراسته وإقامته في مصر، التي كانت تشهد آنذاك ازدهارًا ثقافيWا.

وعبّر عن هذا الانتقال في كتابه "هذه هي الأغلال"، عام 1946، الذي دعا فيه إلى مراجعة الفكر العربي والإسلامي والتحرر من أغلال الماضي، والأخذ بالتقدم العلمي الحديث الذي أنجزته البشرية. ويقال إنه توقّع هزيمة عام 1948، وأيضا هزيمة عام 1967. ووجهت للقصيمي بسبب هذه الأفكار الناقدة للتخلف العربي اتهامات بالخيانة، وكذلك بالإلحاد، وتعرض لمحاولات اغتيال. غير أنه لم يتراجع عن مواقفه قِيْد أُنْمُلَة. وهذه العدوانية المتطرفة تجاه كتاباته وحرية التفكير، كانت الدافع وراء يأسه. وهو ليس المفكر العربي والإسلامي الوحيد الذي واجه ويواجه هذه العدوانية، من الحكومات والأفراد على حد سواء.

وربما العديد منا، المهتمون بالقراءة والمطالعة، وتحديدًا المهجوسين برؤية تغيير حقيقي في عالمنا العربي، بما فيه مجتمعنا العربي الفلسطيني، تساءلوا خاصة في ظروف الهزائم، كيف بدأ العرب نهضتهم قبل أكثر من 200 عاما، مع بداية حكم محمد علي باشا، ومع ذلك ما زالوا على هامش التاريخ والتقدم الحضاري، في حين نجح بلدٌ شرقي آسيوي، وهو اليابان، في تحقيق نهضة عظيمة بدأها متأخرا بخمسين عاما من بداية النهضة العربية، كما يشرح الباحث اللبناني مسعود ظاهر، في دراسته المعنونة "النهضة العربية والنهضة اليابانية، تشابه المقدمات واختلاف النتائج"، والذي أمضى عشر سنوات في ذلك البلد من أجل إنجاز هذه الدراسة.

ويمضي التساؤل والاستهجان تجاه عدم قدرة الكتابات النهضوية الهامة التي أنتجها نهضويون عرب ومسلمون في القرن التاسع عشر عن أسباب التأخر العربي، عن إحداث تغيير ثقافي ومجتمعي شامل يؤدي إلى ثورة حضارية، وكيف أن المساهمات الفكرية والثقافية التي تجددت وصدرت تباعًا وبغزارة منذ أكثر من خمسين عاما، والتي تناولت مبنى الثقافة العربية، وتكوين العقل العربي، ودور الاستعمار في تغذية التأخر، لم يتولد عنها نخبة سياسية مثقفة مؤهلة لقيادة مشروع تحرري شامل، بمفهومه الثقافي والاجتماعي والديني، وبناء أمة المواطنة، ناهضة صناعيًا وتكنولوجيًا. و كيف أن هذا الحراك الثوري الجبار الذي اجتاح أقطار الوطن العربي، منذ عام 2011، وجد نفسه من دون رأس أو كتلة متماسكة تحمل منظومة فكرية ورؤية تحررية، تقود هذا الحراك إلى مقصده النهائي.

نعم إن الكتاب لا يغير العالم، مع أن هناك كتبًا، دينية أو غير دينية غيرت العالم. وقد تراجع دور الكتاب وتأثيره المجتمعي بصورة كبيرة. إن الكتاب يُغير الأفراد، والأفراد هم الذين يغيرون المجتمع عبر عملية تراكمية ممتدة، تنخرط فيها الفاعلية الإنسانية الواعية والظروف الاجتماعية الموضوعية المتحولة.

ليس كل ما ذكر مدعاة لليأس من الكتابة والقراءة والتعلم، لأن لولا الكتابة والقراءة، لكان العالم اسوأ بكثير، ولم ليكن لأمم كثيرة أن تحقق نهضتها دون ذلك. بل هو دعوة لمزيد من التعلم، وللتفكر والتأمل فيما يمكن تحسينه، والعمل على اكتشاف ما يغيب عن وعينا في مسيرة تشكيل وعينا، ومقاربتنا لعملية التغيير.

نحن نعيش في زمن التغيرات العالمية الساحقة، في عالم الإنترنت، وتكنولوجيا المعلومات المذهلة، وفي عالم رأسمالي يتحول فيه كل شيء تقريبا إلى سلعة. يتراجع فيه تأثير الكتاب، والكاتب، وينتشر الكسل الثقافي، لصالح ما بات يعرف بالمؤثرين، الذين باتوا نجوما يتابعهم الملايين.

ويرى البعض أن هذا الواقع هو رديفٌ أيضا لواقعنا الفلسطيني. فيقول هؤلاء بطريقة استنكارية، كم من الدراسات والمقالات تكتب في مجال نقد الحالة الفلسطينية ونخبها، سواءً في الأرض المحتلة عام 1967، أو داخل المنطقة المحتلة عام 1948. فمن يمسك بالسلطة الفلسطينية، لا يُظهر أي اكتراث بما يكتب، وهو ماض في غيه. كما أن التبلّد يتجسد في من يقف وراء تحلل السياسية العربية داخل الخط الأخضر، ويتحمل المسؤولية عن تفكك تحالفات، ومؤسسات وحدوية، وتعميم الجهل وتجويف السياسة. كما أن ظاهرة تحول اتحادات الأدباء العرب والفلسطينيي، إلى مجموعات مغلقة، تنشغل في ذاتها، ويتحول بعضهم إلى مروجين وداعمين للاستبداد والقمع، وعديمي التأثير، كل ذلك يشكل عاملًا طاردًا للمثقفين والمبدعين الشباب، الذين أوجدوا لأنفسهم منابرَ رفيعة المستوى خاصة بهم، إلى جانب مثقفين وأدباء مخضرمين؛ مستقلين وأحرار.

يقول غرامشي، يموت القديم والعالم الجديد ما انفكّ يُصارع مخاض الولادة. والولادة لن تأت من تلقاء ذاتها، بل تحتاج إلى قابلة. والقابلة في الحالة الاجتماعية، هي القوى البشرية الواعية التي تنجح في إدراك مفهوم التغيير، والحاجة للتمسك والوحدة، كشرط لملء الفراغ الخطير.

تعيش القوى التقليدية المعارضة حالة ضعف، وتكلس فكري، وخواء ثقافي، وحالة من التشتت. في أقطار الوطن العربي نجحت أنظمة الاستبداد والتدخل الخارجي في تمزيق الذين عرضوا أنفسهم كممثيلن للثورات في الخارج، وجموع من المثقفين تروج للثورات المضادة. وحتى الآن لا نشهد أي محاولة ناجحة للملمة الصفوف، والتحدث بصوت واحد في مواجهة الاستبداد. وربما خسرت الشعوب العربية فرصة تاريخية عظيمة، وقد تنتظر أجلا طويلا لفرصة ثانية. وهي آتية لا محالة، فالفشل ليس مطلقا، بل إن ما زرعته تلك الثورات سينبت مجددًا.

ليست الكتابة والتحاليل والدراسات بلا جدوى. إن الانتاج المعرفي الجاد والمعارض هو شكل هام من تحدي الاستسلام، ودحض ثقافة الهزيمة، وهو أيضًا تعبير عن تخيل للتحرر الحقيقي.

ولم يكن للعديد من المبادرات الشعبية، والمنابر الفكرية والثقافية والأدبية، التي تسعى لاستنهاض العقل الفلسطيني، وإعادة إطلاق المخيال السياسي من خارج توابيت المؤسسات الرسمية، لتنطلق وتتفاعل، وإنْ على نطاق محدود حتى الآن، دون هذا الإنتاج،ومن يقرأه ويذوته.

وأعتقد أن كاتبي المقالات، الجديين، من غير المتخصصين، يستطيعون لعب دور أكبر من خلال نقل الدراسات النقدية الجادة بلغة مبسطة ومختصرة إلى عموم الناشطين الشباب وغيرهم، في إطار بلورة عقل سياسي يتسم بالعمق والنظرة التحررية الشاملة، وبالبعد الأخلاقي للتحرر والتحرير.

إن المعادلة الصحيحة القادرة على التأثير والتغيير هي الجمع بين الكتابة والفعل، بين القراءة والنشاط العملي، وبلورة المبادرات التي تستقطب أعدادًا من الراغبين بالانخراط في التغيير. الكتابة هي نص جامد أو ساكن، وتصبح فاعلة عندما يتفاعل العقل مع النص، ويتحول السكون إلى دينامية وفعل مقاوم.

التعليقات