17/09/2022 - 16:46

في مواجهة تصفية التجمع... ولإعادة بناء الحركة الوطنية

 سيتضح هذا مع الوقت، وسيشهد عليه شاهد من أهله، ولكن وباستخدام التحليل المنطقي البسيط ودون فذلكات معقدة، فإن الجبهة وفي اللحظة الحاسمة قد حسمت أين موقعها؛ إنه مع منصور عباس ونهجه، ومع معسكر الوسط - اليمين الصهيوني

في مواجهة تصفية التجمع... ولإعادة بناء الحركة الوطنية

لعل أهم سمة للوضع السياسي المأزوم لدى المجتمع الفلسطيني في الداخل، هي حالة الضياع وغياب أي بوصلة أو قطب جذب جامع، حتى أن قضية وحدة الأحزاب العربية التي شكلت مرة إجماعا شبه شامل، فقدت قيمتها وقوتها المعنوية والأخلاقية عند الناس، بعد تعامل أحزاب معها كقضية تكتيكية لتحسين التمثيل، وليس كقضية إستراتيجية بوسعها أن تترجم إلى القفز بالعمل السياسي الفلسطيني في الداخل درجات على سلم المواجهة مع يهودية الدولة وعنصريتها، ومشروعها الاستعماري الإحلالي من البحر إلى النهر.

بدل أن يحدث ذلك سارت أحزاب المشتركة (باستثناء التجمع الوطني الديمقراطي) في طريق التنافس الشخصي والفئوي للحصول على فتات المائدة، أو على أخذ الصور والتزلف للكاميرات والاستضافة في القنوات الإسرائيلية. وهكذا، بدل تعزيز قوة التمثيل العربي على أنه تمثيل جماعي لشعب، ومخاطبة الرأي العام الإسرائيلي والفلسطيني والعالمي بقوة، وبعزة نفس وكبرياء أصحاب الوطن الممهورة بحوالي نصف مليون صوت فلسطيني في صناديق الاقتراع، انحدرت أحزاب المشتركة (باستثناء التجمع مرة أخرى) في التنافس في ما بينها على النجومية، وعلى من هو السوبر ستار الذي بعلاقته مع وزير المالية حينها، موشيه كاحلون، أو مع وزير الداخلي آرييه درعي، كان من وراء قرار الحكومة 922.

هذا هو النهج الذي أدى في الانتخابات عام 2019 إلى تفكيك المشتركة بسهولة، وبانعدام حد أدنى من المسؤولية الوطنية. جاء العقاب الشعبي صارما وعارما بمقاطعة غير مسبوقة لصناديق الاقتراع. وقد استمر النهج ذاته بعد إعادة المشتركة في انتخابات عام 2019 الثانية والحصول على 15 مقعدا. وبدل تقويم المسار ازداد طغيان الانتهازية السياسية الذي تجلى في التوصية مرة على غانتس وتارة على لبيد لرئاسة الحكومة. هذا النهج لا يختلف جوهريا عن نهج القائمة الموحدة الذي أدى إلى الانزلاق لدرجة دخول ائتلاف حكومي، بل واكتسب نهج الموحدة الخطير شرعيته من تردي خطاب المشتركة السياسي والممارسات الانتهازية. لقد كتبت في الماضي الكثير عن سوء الأداء في المشتركة عندما كنت عضوا فيها، وعن إضاعة الفرص التاريخية الثمينة، ولا أنوي هنا إعادة التحليل لأسباب ذلك (انظر/ ي الرابط). لكن لا بد من التأكيد على أن حالة الضياع وفقدان البوصلة العام السائدة اليوم، هي نتيجة مباشرة لحالة المشتركة السياسية المتدهورة باستمرار طيلة تلك السنوات، التي كان يبدو في البداية أنها ستكون سنوات يقظة لمشروع سياسي وطني جامع لفلسطينيي الداخل، ولكنها آلت إلى أقل من تحالف انتخابي مؤقت.

المستجد الرئيسي في حالتنا السياسية اليوم هو أن اللاعب المركزي في المشتركة، الذي كان في موقع قلب الدفاع في وجه الانتهازية والأسرلة، أي حزب التجمع، كان يعاني في السنوات الأخيرة من حالة ضعف ووهن غير مسبوقة. ومن دون الخوض في أسباب ضعف التجمع وحالة الحركة الوطنية بشكل عام، تكفي الإشارة إلى ما عاناه التجمع وكوادره القيادية والميدانية الأصيلة من الاستهداف الرسمي بما فيه من اعتقالات وتحقيق والملاحقة السياسية من المؤسسة الصهيونية وأجهزتها الأمنية، وكان آخرها الملف المالي الذي تمت هندسته للقضاء على التجمع تماما. ولكن في الوقت نفسه تجدر الإشارة وبكل صدق ومراجعة حقيقية للذات، إلى الأسباب الذاتية التي أفقدت التجمع خصوصيته وتميزه كحزب الحركة الوطنية، ورأس حربتها وصاحب أهم مشروع قومي ومدني في مواجهة عنصرية الدولة اليهودية.

ولهذا فقد التجمع، في مرحلة ما، ذلك الدور المبدئي وغير المساوم الذي كان يلعبه بكل قوة وحزم داخل المشتركة لصد الانتهازية السياسية. وقد شكل التجمع سدا منيعا في محاولة جر المشتركة إلى مربع مقايضة الخدمات والميزانيات بالمواقف المبدئية والسياسية (أعيد للأذهان اجتماع نواب التجمع مع عائلات الشهداء المحرومين من استعادة جثامين أبنائهم، والذي كان مقررا مع نواب المشتركة، لكن لم يتجرأ على حضوره سوى نواب التجمع، ناهيك عن المشاركة في أساطيل الحرية لفك الحصار عن غزة وغيرها).

سعت الكوادر القيادية في التجمع بقيادة النائب سامي أبو شحادة إلى تقويم مسار التجمع أولا، وإعادة تقييم تجربة المشتركة، وأخد العبر اللازمة والضرورية، والتي لا تنازل عنها لضمان استمرار المشتركة على أرضية وطنية صلبة وواضحة الأهداف والمعالم؛ وهذا ما استبشرنا خيرا بحدوثه مع توقيع الجبهة والتجمع للاتفاق السياسي في 9 أيلول/ سبتمبر الجاري.

وهذا هو بالضبط السبب الحقيقي الذي أدى يوم الخميس الماضي عند تقديم القوائم، إلى قيام الجبهة والعربية للتغيير وبقرار مسبق، ومع سبق الإصرار والترصد، إلى إقصاء التجمع من القائمة المشتركة، وذلك للتخلص من الاتفاق السياسي الذي وقعته الجبهة مع التجمع، والذي يقطع الطريق على أي محاولة بعد الانتخابات لجر المشتركة إلى معسكر لبيد – غانتس والتوصية على لبيد لرئاسة الحكومة، هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى بهدف دفع التجمع لخوض الانتخابات لوحده معتقدين أنه لن يتجاوز نسبة الحسم، وبهذا ستكون نهاية التجمع كحزب وكمشروع وخطاب سياسي.

ما الذي حدث، وما الذي أدى بالجبهة إلى التراجع عن اتفاق سياسي قامت بالتوقيع عليه بالعلن؟! هل هذا يعني انتصار تيار المهادنة والاندماج الذي يرى في حزبي ميرتس والعمل وحتى لبيد حليفا أقرب من التجمع؟ من تدخل، ومن ضغط، ومن وعد، ومن كذب ومن شوه، ومن باع ومن اشترى؟

سيتضح هذا مع الوقت، وسيشهد عليه شاهد من أهله، ولكن وباستخدام التحليل المنطقي البسيط ودون فذلكات معقدة، فإن الجبهة وفي اللحظة الحاسمة قد حسمت أين موقعها؛ إنه مع منصور عباس ونهجه، ومع معسكر الوسط - اليمين الصهيوني، ومهما ستحاول في الحملة الانتخابية تغيير وتجميل الأقنعة، فإن هذه هي الحقيقة التي لا يمكن تغطيتها "بعباية" كائن من كان.

ها هو التجمع يجد نفسه، سواء باختياره أو بدفعه لذلك، في الخندق هو وأنصاره ومناصريه من أبناء الحركة الوطنية؛ هكذا كان قدره عدة مرات خلال مسيرته الكفاحية، وهكذا صمد وانتصر مرة تلو الأخرى منذ تأسيسه. ولا أقول هذا هو الخندق الأخير، بل هو جزء من مسيرة التحدي التي خاضها ويخوضها التجمع، لأنني لا أرى في انتخابات الكنيست سوى فعلا سياسيا كفاحيا ومواجها، وليس مكانا لامتحان الموت والحياة؛ إذ ستعود الدماء الحارة المتوثبة للتدفق في شرايين أبناء الحركة الوطنية كلهم بما فيهم أولئك المقاطعين مبدئيا لانتخابات الكنيست، بهدف منع محاصرة وتصفية المشروع والقيم والمبادئ الوطنية، من خلال إسقاط التجمع ووأد مشروعه السياسي والحضاري، ولتكن بداية إعادة بناء الحركة الوطنية.

هذا كله يتطلب وعيا وحرصا من قبل الجميع، وانطلاق للدفاع عن التجمع الوطني الديمقراطي وإنجاحه، ودفاعا عن مشروعه السياسي وخطابه الوطني. هوية قومية ومواطنة كاملة.

التعليقات