03/10/2022 - 19:24

جدل انتخابيّ في واقع مركّب

إنها معركة الحركة الوطنية كلها، معركة ستفتح أفُقا لبناء أوسع جبهة شعبية داخل الخط الأخضر، تُعيد التوازن الداخلي لمجتمعنا الفلسطيني، وتستعيد طريق تحصيل الحقوق اليومية الموجَّه بفهمنا المبدئي والأخلاقي، لقضية فلسطين، كونها قضية تحرّر لشعب يرزح تحت نير نظام أبارتهايد

جدل انتخابيّ في واقع مركّب

(Getty Images)

سواء اتفقنا أو اختلفنا مع التجمّع الوطني الديمقراطي، فإنّ ما حدث في ليل الخامس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر، وما ترتّب على ذلك من عزم الحزب على خوض الانتخابات حتى منفردا، سيشكل فاصلا بين مرحلة ضاعت فيها المعايير والكثير من حامليها، ومرحلة تِعدُ بضبط هذه المعايير. بل ربما سيشكّل هذا كله حدثا مؤسِّسا لتحوّل نوعي في المشهد السياسي لفلسطينيي الداخل. نقول ذلك، ليس لأننا نشهد استعادة الخطاب التجمعي، الذي تبلور ورسخ، في أتون ما يزيد عن عقدين من المواجهة الفكرية والشعبية مع نظام الأبارتهايد فحسب، بل لأن أفواج الجيل الجديد العائدة إلى التجمع تحملُ ثقافةً وإدراكا أكثر جذرية ونقدية، وأكثر انفتاحا على مستجدات الساحة الفلسطينية، غير الرسمية، وعلى مقولات التحرر الشامل من نظام الأبارتهايد والاستعمار الاستيطاني، والذي يعني التشابك الفعلي مع المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، الذي تجري صياغته من تحت، أي من خارج الهيئات التمثيلية الرسمية، المتهالكة.

كما يتبيّن أن هذه الأجيال ماضية بالتسلّح بمعرفة جديدة نقدية، وبرؤية كونية ومحلية أفضل لكيفية تطوير التفاعل مع هموم الناس اليومية، من خلال بناء المؤسسات التمثيلية والمهنية، واللجان الشعبية، المؤهلة لمحاربة الجريمة ومخططات تدمير مجتمعنا من الداخل. بعضنا كان يفضّل أن تحدث هذه المعركة السياسية والثقافية، من خارج الكنيست، لكن اتضح أن الحزب، كما غيره، لم يهيئ نفسه ولم يستطع توفير شروط خوض معركة من خارج الكنيست، بعد أن مارس هذه التجربة بصورة مختلفة عن الآخرين، لأكثر من عقدين، خاصة وأنه حاضرٌ في ذهنه تجربة الحركة الإسلامية الشمالية التي تم حظرها، ومرور هذا الإجراء القمعي بدون أن يستجلب ردًّا مدويا من قبل لجنة المتابعة، أو من الأحزاب جميعا، ولا حتى من نشطاء وقيادات الحركة.

كما أن الواقع الفلسطيني الراهن، ليس ثوريا، ومزاج الناس عموما، لا يزال يميل إلى قبول لعبة المشاركة في انتخابات الكنيست، لأسباب موضوعية، ويخضع لإكراهات الواقع، وإن الذين يقاطعون لأسباب مبدئية، لا تزيد نسبتهم عن 15%، وربما 20%؜، وهو أمر لا يجوز الاستهانة به. كما أنه يجب أن ننتبه إلى أن الحركة الإسلامية الشمالية المحظورة، وقد كانت حركة لها امتداد شعبي وازن، وأعتقد أن هذه القاعدة لا تزال موجودة وإن كانت مشتتة، وكان بمقدورها، قبل حظرها، لو أرادت، أن تنظم حملة مقاطعة منظمة، ولكن القلائل الذين انتبهوا لسؤال لماذا اكتفت هذه الحركة بالامتناع. وتحليلي، وهو قديم وليس تحليل اليوم فقط، هو أنها قرأت أبعاد حملة بهذه الدرجة، وما يترتب عليها من نتائج، بالنسبة لمصيرها أو قدرتها على المناورة في فضاء العمل السياسي، أو الهامش الضيق الذي يتيحه نظام الأبارتهايد. كما أن علاقتها الجيدة مع معظم الأحزاب السياسية، ودور هذه الأحزاب والحركات، دفعها إلى احترام خياراتها الانتخابية، ومع ذلك لم تكن تُخفي تماثُل موقفها مع موقف التجمع وحركة أبناء البلد، خاصة في ما يتعلق بالموقف من قضايا وطنية كبيرة، وقضية إعادة بناء لجنة المتابعة العليا، وبخصوص الموقف من سلطة أوسلو. هي لم تُرد المخاطرة بخوض معركة مقاطعة، لأنها كانت تدرك مخاطر خوض المعركة وحدها، ليس فقط على صعيد المواجهة مع المؤسسة الصهيونية، إنما أيضا لأن المقاطعة الهجومية، تحتاج إلى شبه توافق بين الأحزاب السياسية، وإلى بديل جاهز، مثل إنجاز انتخاب للجنة المتابعة، لتصبح برلمانا عربيا بديلا عن الكنيست، أي أن تكون لدينا مؤسسات شعبية ومهنية، ولجان كفاحية جاهزة لمواصلة المشوار بنجاعة وفعالية، وقادرة على استقطاب معظم الناس، مع تجنب تحميلهم فوق طاقاتهم. إن الحركات السياسية الكبيرة، على خلاف المجموعات الصغيرة، أو الأفراد، تدرك أن عليها مسؤولية ضخمة، أمام ناسها، وأمام الناس عموما. لكن لا بدّ من تذكُّر الفرق بين موقف الحركة الشمالية، التي فضلت سلوكا وسطيا تجاه فكرة انتخابات الكنيست، أي الامتناع، والاحتفاظ بموقف مبدئي مناهض للنظام الصهيوني، وموقف الحركة الإسلامية الجنوبية التي انخرطت في هذا النظام القاتل، بل نظّرت وتُنظر لقبوله كما هو، نظام إجرامي، ومعاد لفكرة المساواة بين البشر. ولا بد من القول إن المقاطعة المشتتة، وإذا مورست بصورة تلقائية، بدون تنظيم واسع يقودها، وبرؤية متفق عليها، تفقد تأثيرها الكبير. وهذا ما يجب أن ندركه جميعا، ليس لكي نتخلى عن الفكرة، أو هذا "السلاح"، بل لكي نجعل منه سلاحا فاعلا ومؤثرا ضد نظام الأبارتهايد مستقبلا.

لقد بذلنا، في السابق، نحن والحركة الإسلامية وأبناء البلد، جهدا كبيرا لإعادة بناء اللجنة، لكن حين حانت الفرصة، وبعد تحقيق نجاح جزئي في تطوير دستور داخلي، فشلنا في التوافق على قيادة المتابعة، وذهب بعضنا باتجاه آخر، مناقض لما نعلنه، لأسباب تتعلق بحساسيات حزبية تغلبت على الحسّ بالمسؤولية التاريخية. وهذا أمر لم يجرِ التوقف عنده بصورة جدية، أي لماذا لم يتمكن الذين يطرحون رؤية وطنية وديمقراطية للجنة المتابعة، وبينهم قواسم مشتركة هامة، من تحقيق تفاهم حول تشكيل جبهة وطنية كفاحية، تقوم على مبدأ الانتخاب المباشر و البناء والمأسسة؟ هو سؤال أهملناه ولم نعد إليه. بل حتى لم يعد أحد يطالب بإعادة بناء هذه المرجعية التمثيلية لفلسطينيي الـ48، أي لجنة المتابعة، التي تعرضت لمزيد من الاختزال لتنتهي إلى لجنة تنسيق متواضعة. وعلى هذه الأرضية تضخَّم دور القائمة المشتركة التي قضمت مكانة وموقع لجنة المتابعة، لتنتهي التجربة بانهيار المشتركة، ليس فقط تنظيميا، بل أخلاقيا، أما لجنة المتابعة فلا تزال تنتظر لمن يبادر لإنقاذها، وتطوير دورها الوطني الجامع.

الآن، أعتقد أننا أمام حدثٍ مؤسِّس، عجّل به تنفيذ مؤامرة ضد حزب التجمع، ليس لأنه حزب آخر، بل أساسا لأنه يمثل طرحا آخر؛ طرحٌ سياسي يُمثّل بصورة كبيرة ما هو أوسع من الحزب، إلى عموم الحركة الوطنية في الداخل، أي من يصوّت، ومن يقاطع (تكتيكيا أو إستراتيجيا) على السواء. هذا الحدث مرشحٌ لأن يُطلق تفاعلات عميقة، في المشهد السياسي، وسيفتح كوّةً في جدار الانهيار، ويخلقُ فرصا جديدة لنسج علاقات أفضل مع عموم توجهات الحركة الوطنية في الداخل، الأيدلوجية والفكرية، والعقائدية؛ قومية، ويسارية، ودينية.

تحاول بعض الأصوات المنزعجة من بوادر عودة الخطاب الوطني الواضح، تبخيس الفروقات بين دوافع التجمع لخوض الانتخابات منفردا، وبين الأحزاب الأخرى، وكأن المسألة ليست إلا صراعا على الكراسي، أو مجرّد تنافس حزبي، أو انتقاما ممن تآمروا عليه. التجمع العائد من كبوته، يدافع عن منظومة قيم، وطريقة عمل وطنية تتشارك فيها مركبات الحركة الوطنية كلها. نعم يمكن فهم هذا التشكيك إذا ما قسنا الأمر على أداء الحزب في السنوات الخمس السابقة، غير أن الأمر بدأ يختلف في العام الأخير، وقد عادت المؤسسة الصهيونية إلى عادتها القديمة، أي تجديد حملتها التحريضية والعدائية بصورة خاصة ضد التجمع، لأنها ترى جديته في عودته إلى التمسك بخطابه الأصلي. وهي حملة قد تتصاعد، و ستصبح أكثر خطورة بتواطؤ أناس من بين ظهرانينيا معها، وهذا ما يجب أن تستعد له الحركة الوطنية كلها، وأن تعرف كيف تتجاوز تبايناتها، التكتيكية والأيدلوجية، من أجل التصدي لحملات المؤسسة الصهيونية، المتوقع أن تزداد شراسة وعدوانية.

لا يجوز لأبناء وبنات التجمع الاستخفاف بخيار المقاطعة، ولا يجب أن ينجرّ أحد منهم إلى مقولات مستهلَكة مثل أن المقاطعة تخدم اليمين! أصلا كان على التجمع أن يكون مبادرا إلى طرح المقاطعة بعد قانون القومية، بوضوح وصراحة، ربما كان سيجد تفهما واسعا داخل مجتمعنا، ولكن تلك فرصة جرى تبديدها. واليوم، حتى لو وجد التجمع والكثير من مؤيديه تفهّما وتأييدا واسعا لخوضه الانتخابات هذه المرة، بسبب خصوصية اللحظة التي فُرضت عليه، فإن خيار المقاطعة يجب أن يظل مطروحا للنقاش في المرحلة اللاحقة، خاصة بعد أن تتالت تقارير منظمات دولية هامة تصف إسرائيل بأنها نظام أبارتهايد، بسبب ما تقوم به من تجديد وتصعيد هجومها على الشعب الفلسطيني، في كل مكان، وتعمق ذلك بالقوانين العنصرية السافرة.

باعتقادي، إن فوائد خوض التجمع الانتخابات منفردا، وبخطاب وطني يتسم بالتحدّي، أكثر بكثير من سلبياته، وهي معركة سياسية هامة في الأساس، وليست مجرد معركة انتخابية. وبالتأكيد ستكون فائدته كبيرة، في ظل الانهيار والتحلل الوطني، بفعل نهج "التأثير"، أو "التأثير بكرامة"، لعموم الوطنيين والشرائح الشعبية التي لم ينطل عليها النهج المدمر، والجاحد لإرث الآباء والأبناء الذين ناضلوا برأسٍ مرفوعة، وبقامةٍ منتصبة، على مدار عشرات السنين، من أجل البقاء والبناء في الوطن.

إنها معركة الحركة الوطنية كلها، معركة ستفتح أفُقا لبناء أوسع جبهة شعبية داخل الخط الأخضر، تُعيد التوازن الداخلي لمجتمعنا الفلسطيني، وتستعيد طريق تحصيل الحقوق اليومية الموجَّه بفهمنا المبدئي والأخلاقي، لقضية فلسطين، كونها قضية تحرّر لشعب يرزح تحت نير نظام أبارتهايد واستعمار استيطاني، وليس قضية ميزانيات وفتات المال.

شعبنا في الداخل لن يسمح بتصفية الحركة الوطنية، لن يسمح بتصفية التوجه الوطني وتحويلنا إلى مرتزقة لحساب نهج مغامر وخطير ومدمر، يقوده أناس فاقدون لعمود فقري، وللرشد السياسي.

إنها لحظة إعادة الرشد والتوازن الأخلاقي. إنها فرصة لتمكين كل الوطنيين، المتمسكين بهذا التوجه الوطني العقلاني. معركة التجمع هي معركة كل الحركة الوطنية.

التعليقات