31/12/2022 - 16:30

عام مثل كل الأعوام... تقريبًا

تنظر حوّلك فلا تجد أي شيء مميزًا سوى التمييز بين أبناء البشر، الاحتلال والاضطهاد والحروب واللجوء والفقر، فصناعة التميز هدفها ألا ترى ذلك، بل أن يصبح روتينيًا عاديًا غير استثنائي خلال اللهاث في السباق المبتذل نحو التميز

عام مثل كل الأعوام... تقريبًا

في كل عام تُكتب وتُنشر آلاف التقارير والمقالات عن ما ميّز العام المشرف على الانتهاء، ومن هي شخصية العام السياسية والرياضية وإلخ باحتفاء كبير... لكن في الواقع العام المنتهي يشبه الذي قبله والذي يليه، فهو حيادي لا يتدخل في مسار ومصائر حياتنا، سواء كان تقويما ميلاديا أو هجريا أو صينيا أو غير ذلك، لكن لدى المنجمين آراء أخرى، فحركة الكواكب والنجوم ليست حيادية تجاه مصائرنا بنظرهم، بل باتوا يتوقعون أحداثًا كونية ستحصل، من حروب ونزاعات ورحيل شخصيات. لا بأس في ذلك من أجل الترفيه والتسلية وبعض الدراما والنكت، رغم أن ذلك أصبح صناعة مربحة.

لكن، بالنسبة لنا كأفراد ليس كل عام مثل الذي سبقه أو يليه، فكل منا له تجربته الخاصة في هذا العام أو الذي سبقه، سواء تحقيق إنجاز شخصي مهني أو علمي، رحيل أو قدوم، ارتباط أو انفصال. ربما كان العام 2020 هو العام الاستثناء للبشرية عمومًا في العقود الأخيرة، عام جائحة كورونا، ليس فقط بسبب عدد الضحايا المهوّل والاستثنائي، ولكن بسبب ما أثرت التقييدات والحجر على نفوسنا كأفراد بشكل مشترك. فالحجر والعزل القسري دفعنا ربما إلى الانطواء خارجيًا، وأيضًا إلى الانفتاح داخليًا على ذواتنا. أعدنا تقييم أحوالنا وأهدافنا وطموحاتنا و"هواياتنا" بشكل شخصي وليس بالضرورة بشكل واع. والأخبار في هذه الأيام تحذر من انتشار الفيروس مرة أخرى بشكل واسع، ما يستدعي أن نتمنى ألا تكون الأعوام مثل سابقاتها، وألا يتكرر العام 2020.

في العامين الأخيرين تغير سلوك البشر على نحو لافت في أعقاب الجائحة. تغيرت أنماط السياحة والسفر، وأنماط استهلاك الإعلام، وصار العمل عن بعد، من المنزل، رائجًا ومقبولًا وعاديًا، وكذلك الدراسة الجامعية. صار اللقاء عبر "الزووم" هو العادي وليس الاستثناء. وانتشرت الخزعبلات والتشكيك بكل شيء، من أصل الفيروس وحقيقة التطعيمات وصولا للتشكيك بأبسط الأشياء. كأن ميزان العقل والنفس اختل، وأتاحت شبكات التواصل ومواقع الفيديو مثل "يوتيوب" فرصة لترويج التضليل والجهل، والنجومية الخاوية.

من عادة البشر البحث عن المميز والتميز والتمايز، وهذا ليس من غريزتهم بالضرورة. ماذا يميزنا عن الآخرين؟ وماذا يميز هذا العام عن سابقه؟ والتميز عمومًا صناعة استهلاكية مربحة. فالأزياء والموضة هي صناعة تميز، وهذا ليس اكتشافي؛ والتكنولوجيا مثل صناعة الهواتف الذكية والشاشات والسيارات والساعات هي أيضًا صناعة تميز، تميز على مستوى المنتج، ولكن بالأساس صناعة تميز للمستهلك. ادفع وتميز، وهو تميز محدود الصلاحية، سرعان ما يلحق به تميز جديد أغلى وأغلى. وفي الحقيقة، تنظر حوّلك فلا تجد أي شيء مميزًا سوى التمييز بين أبناء البشر، الاحتلال والاضطهاد والحروب واللجوء والفقر، فصناعة التميز هدفها ألا ترى ذلك، بل أن يصبح روتينيًا عاديًا غير استثنائي خلال اللهاث في السباق المبتذل نحو التميز. بات التميز الحقيقي هو عدم الاشتراك في هذا السباق. العادي صار هو المميز، ولكن لأسفنا صارت تجارة أو صناعة للعادي، فإلى جانب آلاف الكتب عن كيف تنجح وتتميز وتتمايز وتحقق ذاتك، صارت صناعة ترشدك كيف تصبح ذاتك بدل أن تحقق "ذاتك". كيف تكون حقيقيًا وروحانيًا وتتخلص من عادات البحث عن التميز والتمايز المرهقة. "فلسفة بمليم" لكن لها مشترين.

كل عام مثل الذي سبقه أو يليه، يظل حياديًا تجاهنا ونحن البشر الذين نصنع معناه، معنى لحياتنا، كذلك الأقدار تصنعها؛ الاحتفال أو الفرح بذهاب عام وقدوم آخر ليس بحاجة لسبب منطقي عقلاني، إنه التفاؤل والأمل بالقادم، وهذه ميزتنا نحن البشر. كل عام والجميع بألف خير.

التعليقات