19/12/2022 - 18:29

عن دولة جميع مواطنيها... مرة أخرى

إن طرح دولة جميع مواطنيها يتجاوز البرنامج السياسي الحزبي أو الحركي؛ إنه يحول فلسطين إلى قيمة كونية سامية، تختزل قيم الحرية والمساواة والعدالة.

عن دولة جميع مواطنيها... مرة أخرى

(Getty Images)

ركز التجمع الوطني الديمقراطي في الانتخابات الأخيرة على طرح دولة جميع مواطنيها، من خلال الخطابات واللقاءات التي ظهر فيها رئيس القائمة سامي أبو شحادة. وأظهرت استطلاعات الرأي المتكررة مؤخرًا، أن أكثر من 90 في المئة من المواطنين العرب في إسرائيل يؤيدون هذا الطرح. وبمقدورنا الادعاء حتى الجزم بأن الرؤية السياسية الجدية والإستراتيجية القائمة اليوم، هي دولة جميع مواطنيها كما يطرحها التجمع، وبمقدورنا أيضًا أن نتساءل بكل موضوعية وجدية أيضًا: ما الرؤية السياسية الإستراتيجية التي تحملها باقي الأحزاب العربية، إذا ما تجاوزنا قصة حلّ الدولة أو الدولتين؟

عمليًا وموضوعيًا، باتت هذه الرؤية هي الوحيدة القائمة بجدية في البرامج السياسية للأحزاب والحركات السياسية، خصوصًا بعد حسم اليمين المتطرف للانتخابات البرلمانية، وقطع الطريق على كل "نهج جديد" أراد أن يكون جزءًا من صناعة القرار الصهيوني، فالعديد من ممثلي هذه الأحزاب بات يكرر هذا الطرح والرؤية، وإن بكلمات وصياغات مغايرة، حتى لا يُتهم بأنه يكرر خطاب التجمع وعزمي بشارة.

أما على المستوى الفلسطيني الأشمل، فلا مشاريع سياسية حقيقية فاعلة سوى مشاريع المقاومة المسلحة كما تطرحها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، أي مواجهة إسرائيل حتى زوال المشروع الصهيوني، لكن ذلك لا يعني عدم وجود إرث سياسي ونضالي عميق وراسخ لدى باقي الفصائل والحركات الأخرى، إذ إن الرفض الإسرائيلي لأية تسوية مع الفلسطينيين ولو بالحد الأدنى من العدالة، خلق أزمة على صعيد المشروع الوطني العام، لم يعد فيها سؤال الحلول الممكنة -الدولة أو الدولتين- هو الأساس، بل كيفية مواجهة المشروع الصهيوني والحالة الاستعمارية والاستيطانية القائمة على نظام فصل عنصري، في ظل تطبيع عربي ودعم غربي لهذا المشروع وانقسام فلسطيني. ولا أحد يملك حلولا سحرية وذهبية لهذا الواقع، كما أن إعادة تدوير الحلول ليست مشاريع سياسية فاعلة على أرض الواقع، بل تبقى في إطار التفكير والجدل الجماعي في دوائر محدودة، تشخص الواقع جيدًا لكنها تقفز إلى النهاية المشتهاة، دولة أو دولتين، ديمقراطية أو ثنائية القومية، وهذا جيد لكنه غير كاف رغم أنه في حالات معينة يكون اجترارا وابتذالا وتعويضًا عن العجز التنظيمي أو العملي.

وفي إسرائيل، بادرت مؤخرًا ثلّة من متقاعدي اليسار الصهيوني إلى تأسيس "حزب كل مواطنيها" وفي مقدمتهم أبراهام بورغ، نسلوا اسم حزبهم من طرح دولة جميع مواطنيها دون جوهره النافي للصهيونية والكولونيالية. فالدافع لتأسيس هذا الحزب هو "علمنة الحيز العام"، وإيجاد مخرج لمأزق الصهيونية السياسي والأخلاقي الراهن، بسيطرة التيارات الاستيطانية والعنصرية الدينية القومية على المشروع الصهيوني بحيث تحولت "دولة المستوطنين". ويبدو أن متقاعدي اليسار الصهيوني هؤلاء يتعاملون مع المواطنين الفلسطينيين على أنهم خزان أصوات وساحة حيوية لعملهم، بعدما حسم المجتمع الإسرائيلي وجهته نحو اليمين، وباتت طروحاتها ليست ذات صلة بالنسبة إليه، وغير مسموعة في أوساط اليهود، أي محاولة إنقاذ اليهود من أنفسهم، ولكن على أكتاف العرب وأسرلتهم، دون اعتراف جدي بحقوقهم الوطنية والقومية الجماعية، وأولها حق عودة المهجّرين إلى قراهم.

ولا غرابة في أن يقول عشرين أو ثلاثين في المئة من مصوتي حزب "ييش عتيد" برئاسة يائير لبيد، بأنهم يؤيدون طرح دولة جميع مواطنيها، إذ إن منطلقاتهم تتعلق بطابع الدولة العلماني والسفر والعمل أيام السبت وإلخ... وبالتأكيد ليس جوهر الدولة القومي الصهيوني، أو الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني، أو على الأقل بالحقوق الجماعية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل.

بمقدور طرح دولة جميع مواطنيها أن يكون طرحًا ليبراليًا صرفًا، كما في فرنسا والولايات المتحدة مثلا، بحيث تكون الدولة محايدة تجاه انتماءات وهويات مواطنيها المتعددة والمختلفة، لكنها تشكل أمة، أمة المواطنين، وهو الطرح الأفضل رغم نواقصه، والأكثر واقعية كما أثبتت التجربة على مدار عقود في الغرب، فليس بمقدور الدولة أن تكون ديمقراطية إذا لم تكن محايدة تجاه مواطنيها، وإلا أصبحت ديمقراطية غير ليبرالية، أو حصرية لمجموعة قومية أو إثنية محددة كما في إسرائيل.

وفي حالة الفلسطينيين في إسرائيل، جاء هذا الطرح نضاليًا تحرريًا لنزع الصفة الكولونيالية لإسرائيل، والمعبَّر عنها بيهودية الدولة، ولاحقا بقانون القومية. هذا الطرح ليس اندماجيا في إسرائيل، بل إنه مصحوب ببعد قومي هو شرط إلزامي، أي الحقوق القومية الجماعية ومن ضمنها الحق بالحكم الذاتي الثقافي. وهذا ما لم يفهمه على ما يبدو متقاعدو اليسار الصهيوني، أو يتجاهلونه عمدًا، فمطالب الفلسطينيين القومية في إسرائيل ليست اندماجية وإلا أصبحت أسرلة، بل هي مطالب ديمقراطية وقومية تواجه جوهر المشروع الصهيوني، وتكشف التناقُض ما بين يهودية الدولة وديمقراطيتها.

فالديمقراطية الليبرالية تقوم على قدمين في "الحالة الطبيعية"، الحرية والمساواة، ونفي الصهيونية كحركة استعمارية استيطانية عنصرية، لا يمكن إلا من خلال هاتين القيمتين الساميتين، ولا تتحقق هاتين القيمتين بشكل جدي وجوهري في أي طرح حالي سوى في دولة المواطنين. وقد ذكرت في مقال سابق قبل سنوات، أن أي مشروع سياسي نضالي فلسطيني لنفي الصهيونية لا يمكن إلا أن يقوم على هاتين القيمتين، وأن في حالة فلسطين تنضاف إليهما قيمة عُليا ثالثة غير منفصلة، بل متصلة وهي العدالة، وهي قيمة تختزل جوهر القضية الفلسطينية، أي قضية اللجوء، إذ لا تتحقق العدالة ولو النسبية دون عودة اللاجئين الفلسطينيين، فجوهر القضية الفلسطينية ليس الحل الدولاتي، بل اللجوء.

من الصعب في أيامنا تقديم أو تبني طرح تحرري لا يقوم أولا على الديمقراطية، وقد أثبتت ذلك الانتفاضات الشعبية في العالم العربي في العقد الأخير، فالحرية لا يصنعها خائفون، هذا صحيح، ولكن أيضًا لا يصنعها غير الديمقراطيين. لذا؛ إن طرح دولة جميع مواطنيها يتجاوز البرنامج السياسي الحزبي أو الحركي؛ إنه يحول فلسطين إلى قيمة كونية سامية، تختزل قيم الحرية والمساواة والعدالة.

عودة على بدء؛ لدى التجمع طرح سياسي وطني ديمقراطي إستراتيجي، وحاضنة شعبية واسعة، ولا تنافسه اليوم طروحات سياسية جدية في الداخل على الأقل، لا يسارية ولا يمينية، فهذه فرصته لإعادة تعريف "قضية" الفلسطينيين في إسرائيل كقضية تحررية من خلال دولة جميع المواطنين كنقيض لجوهر المشروع الصهيوني، بدلا من الوقوف على منصات "جي ستريت"، أو التوسّل للراف دروكمان.

اقرأ/ي أيضًا | العرب والمونديال

التعليقات