15/01/2023 - 13:45

تسلل القيادات إلى المظاهرات الإسرائيلية... هروب من المسؤولية

يُنتظر من الحركة الوطنية، وخصوصًا التجمع، وحركات سياسية أخرى، ومن شرائح شعبية ومثقفين وأكاديميين وناشطين، إعمال العقل وبذل الجهد الحقيقي لمواصلة العمل على استعادة قواعد ومبادئ العمل السياسي المستقل، ولبناء حراك شعبي واسع ومنظم مستمر له تأثير تراكمي نوعي.

تسلل القيادات إلى المظاهرات الإسرائيلية... هروب من المسؤولية

(الأناضول)

مع تصاعد الانقسام داخل المجتمع الصهيوني الاستيطاني، أفقيًا وعموديًا، وتحوّله إلى "منازلة" وحشد في الشوارع في الأيام الأخيرة، يعود الجدل مجددا داخل ساحة فلسطينيي الداخل، حول الموقف وكيفية التفاعل مع ما يجري على الساحة الإسرائيلية الداخلية، دون أن يتبلور رد حتى الآن بحجم هذا الحدث. أما على الساحة الفلسطينية الرسمية، فالسلطة في رام الله لا تزال مسترخية في عجزها وتعويلها على الدبلوماسية وحدها.

ويُذكّرنا هذا النقاش بذلك الذي اشتعل داخل لجنة المتابعة العليا للجماهير الفلسطينية داخل الخط الأخضر، على إثر قيام حركة احتجاج يهودية إسرائيلية، صهيونية التوجهات، غير المسبوقة في حجمها وطول مدتها، في صيف العام 2011، وهو احتجاج انطلق بتأثير "الربيع العربي". لم يكن الاحتلال أو نظام التفرقة العنصري الاستعماري المحفز لحركة الاحتجاج تلك. إنمّا كان احتجاجًا على ضائقة السكن وارتفاع الأسعار، وهو احتجاج انتهى دون أن يخفف من وطأة نظام القمع والاستغلال، وكأنّه لم يكن.

كان أكثر المتحمسين للانخراط في هذا الاحتجاج قادة الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وجزء من قيادة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة. أما مركبات لجنة المتابعة الأخرى، مثل التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية (الشمالية) وحركة أبناء البلد، فقد اعتبروا المشاركة فيها تحت شعارات صهيونية غير مقبول وتقزيمًا لقضيتنا السياسية وحقوقنا القومية، وإضفاء شرعية على الأجندة الصهيونية لحركة الاحتجاج، التي رفعت شعار العدالة الاجتماعية دون أن تشمل العدالة لمليون فلسطيني داخل الخط الأخضر ولملايين آخرين في الأرض المحتلة والمستعمرة منذ العام 1967، أو في أماكن اللجوء والشتات.

تمخض النقاش داخل لجنة المتابعة عن قرارين؛ الأول، أن تترك حرية المشاركة والامتناع لكل مركب من مركبات المتابعة؛ والثاني، أن تُقام حركة احتجاج فلسطينية ترفع شعارات العدالة الاجتماعية الشاملة، غير العرقية، في مواجهة المؤسسة الصهيونية الاحتلالية والعنصرية.

وبسبب هذا التشتت المتمثل بعدم التوصل إلى قرار موحّد ولرؤية موحدة وإستراتيجية عمل موحدة، لم تتحقق أهداف كلا التوجهين. فقد شاركت قيادات في الجبهة في حركة الاحتجاج وحاولت التأثير في قرارات ومطالب الطاقم الذي تشكل من حركة الاحتجاج، غير أن ذلك لم يؤت ثماره، فقد كانت الهيمنة لصالح قادة الاحتجاج الصهاينة، من اليمين و"اليسار".

أما حركة الاحتجاج العربية والتي وُكِّلتُ أنا شخصيًا بتركيز العمل من أجل تنظيمها وصياغة أهداف خاصة بنا كفلسطينيين، لم تُحقق نجاحًا أيضًا رغم ما قمنا به من جهود تمثلت بجمع عشرات اللجان الشعبية في مختلف البلدات العربية في مقر لجنة المتابعة، وإقامة خيام اعتصام في عدد من البلدات العربية.

ويعود ذلك الفشل إلى أسباب أخرى؛ الأول، هو عدم اقتناع دعاة الاندماج بهذا التوجه القومي الديمقراطي المستقل، وبالتالي عدم المشاركة في التجنيد لها، وهو التجنيد الذي انصب باتجاه حركة الاحتجاج الإسرائيلية؛ وثانيًا، أن حركة الاحتجاج الإسرائيلية لم تعش أكثر من شهرين ما حال دون توفير الحافزية والزخم لمزيد من الحراك، فقد كانت بمثابة "سحابة غيم عابرة" كما توقع لها منذ الأيام الأولى إحدى الشخصيات الأكاديمية اليهودية اليسارية الجذرية، التي تواصلت معها شخصيًا للتشاور حول كيفية التفاعل مع هذه الحركة. ورأت تلك الشخصيات (أمنون راز، يهودا شنهاف وآخرون) أن حركة بتلك الأجندة الضيقة الصهيونية التي تفتقر لوعي طبقي ووعي بالحالة الاستعمارية، تفتقر للديمومة والتطور، وهذا بالفعل ما حصل.

ولكن، وبعد أشهر قليلة، وبعد صدور قرار أو مشروع قانون "برافر" القاضي بترحيل عشرات الآلاف من فلسطينيي النقب، انطلقت حَراكات شعبية لمواجهته بقرار من لجنة المتابعة العليا، التي كان يرأسها آنذاك السيد محمد زيدان، الذي حل محل السيد شوقي خطيب، عضو الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة، بعد عشر سنوات من رئاستها.

إن الرئاسة الجديدة للجنة المتابعة التي لم تكن مقيدة بقرار حزبي سهّلت على القوى التي كانت تدعو للتنظيم الوطني المستقل وللتصعيد وتحديدًا، التجمع الوطني الديمقراطي والحركة الإسلامية (الشمالية) وحركة أبناء البلد، اتخاذ قرار داخل لجنة المتابعة بتصعيد النضال والانتقال من تنظيم مظاهرات ومسيرات وحَراكات شعبية، وإلى الدعوة علنًا لإغلاق الشوارع. وللدقة والموضوعية، فإن الانتقال العملي إلى المرحلة الثانية أي إغلاق الشوارع والصدام مع قوات الشرطة، والذي أرعب المؤسسة الصهيونية، ودفعها إلى المسارعة في إلغاء القانون أواخر العام 2013، وذلك قبل أن تتسع وتتحول إلى مدٍّ شعبي واسع ومؤثر، في الجليل والمثلث والنقب، اقتصر على حزب التجمع بقياداته كلها، وكوادره كلها، وشباب وقيادات حركة أبناء البلد، والمئات من الشباب والصبايا الوطنيين غير المحزبين، بالإضافة إلى ناشطين كثر في اللجان الشعبية. وسُجّل هذا النشاط كنموذج خلاّق في العمل الشعبي المدروس الذي استمر على مدى ثلاث سنوات متواصلة، التي ظهر فيها فلسطينيو النقب قوة شعبية وشبابية فعّالة غير مسبوقة بقيادة "لجنة التوجيه لعرب النقب". وتمكنّا معًا في حينه من مراكمة هذا الفعل الشعبي التواصلي المصحوب بحملات إعلامية وتوعية مكثفة. ولكن مع الأسف، ومع تعثر النهوض بلجنة المتابعة العليا والتغيرات والانتكاسة الخطيرة التي طرأت على عقلية القيادات السياسية، خصوصًا أعضاء الكنيست، لحساب اختزال العمل السياسي في الكنيست، بتنا بلا مركز سياسي موحد قوي ومهني، يتمثل في الحالة الراهنة الرديئة التي تعيشها لجنة المتابعة العليا، ناهيك عن تدمير القائمة المشتركة بأيديهم.

ومع بدء مرحلة صراع جديدة داخل النظام والمجتمع الإسرائيليين، والبدء بالخروج إلى الشوارع، لا يظهر حتى الآن لدى الهيئات التمثيلية والقوى السياسية استعداد للمراجعة وإعادة صياغة قواعد جديدة وخلاقة للعمل السياسي، الذي في صلبه التنظيم والتحشيد الشعبي المستقل. لا تزال عقلية الاذدناب والانصهار في الأجندات الصهيونية متحكمة في تلك القيادات. وشاهدنا أعضاء كنيست عرب يتسللون إلى المظاهرات الإسرائيلية، بطريقة تطفلية، تحت شعاراتها الصهيونية في تل أبيب، التي ليس لأي منهم دور في تنظيمها، وهم بذلك يهربون من واجبهم بضرورة تنظيم حركة شعبية عربية مستقلة. ولم يبادر هؤلاء، بل لم ينتظروا لإجراء نقاش منظم ومسؤول لتقييم طبيعة هذا الصراع الذي يتصاعد واستشراف مآلاته وتأثيره، سواء على عمل نظام القمع الاستعماري، أو على جماهيرنا الفلسطينية، وكيف بالتالي نستفيد من هذا الصراع، وكيف نتفادى أضراره أيضًا.

ومن هنا، يُنتظر من الحركة الوطنية، وخصوصًا التجمع، وحركات سياسية أخرى، ومن شرائح شعبية ومثقفين وأكاديميين وناشطين، إعمال العقل وبذل الجهد الحقيقي لمواصلة العمل على استعادة قواعد ومبادئ العمل السياسي المستقل، ولبناء حراك شعبي واسع ومنظم مستمر له تأثير تراكمي نوعي.

ليس نهج الاذدناب والتطفل والتسول على أبواب أحد معسكرات الصهيونية ما يعيد لنا شأننا ودورنا في التغيير، بل التفكير السياسي الرصين، والتنظيم الشعبي المنهجي، وتحدي منظومة القمع. ثمن النهج الحالي كبير وندفعه يوميا، ويتمثل بتعطيل إعادة تنظيم وتمكين مجتمعنا، وبناء حركته الشعبية المدنية النضالية المطلوبة لمواجهة الممارسات الاستعمارية والقمعية، ومنها الجريمة التي تنهش كياننا. فقد يتمكن طرفا الصراع الصهيوني الداخلي من الوصول إلى "صلحة"، دون أن يكون لذلك فائدة لنا، ونظل لوحدنا في الميدان كما نحن الآن، في مواجهة الطرفين.

ولهذه الحركة الشعبية أيضًا حلفاء في المجتمع الإسرائيلي، وإن كانوا أقلية صغيرة، وواجبنا تطوير التواصل معهم، والتفكير سويًا في مواجهة هذا النظام الأبرتهايدي.

التعليقات