12/02/2023 - 18:10

الميثولوجيا الرحبانية لفضل سمعان

يبدأ فضل سمعان رحلته البحثية منذ سمع فيروز أول مرة مطلع ستينيات القرن الماضي، لتبدأ رحلته التي تعتبر أهم بحث ودراسة في الفن الرحباني، حتى لُقِّب بـ"بولس الرحباني"، فهو يرى في نفسه حاملا لرسالة الرحابنة، ويسعى إلى نشرها.

الميثولوجيا الرحبانية لفضل سمعان

فيروز خلال مسرحية موسيقية للأخوان رحباني (Getty Images)

ليس سهلا أن نكتب عن الموسيقى في وقت الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية التي تتصدر نشرات الأخبار، وخلال فيض الألم الإنساني من كل حدب وصوب.

الكارثة الطبيعية في سورية وتركيا ونتائجها المفجعة، والاحتلال الذي لا يترك يومًا يمضي من دون جرائم جديدة، تجعل الكتابة عن غير الاحتلال وموبقاته أمرًا غير يسير. إلا أن الحياة تستمر، ونبحث عن نفحة من التفاؤل.

الموسيقى من إبداعات الإنسان التي لا تقل أهمية عن أبجدية الكلام، وقد قيل الكثير عن الموسيقى، وأهميتها في حياة البشر، حتى بتنا نشعر بخواء الحياة من دون موسيقى.

وجبة دسمة قدمها الباحث في فن الرحابنة الأستاذ فضل سمعان، وذلك خلال استضافته في مكتبة مجد الكروم العامة مساء أمس السَّبت، وذلك بمناسبة صدور مؤلَّفه الضخم "الميثولوجيا الرحبانية"، وهي عبارة عن أربعة مجلدات حول فن الرحابنة، ونشأته وتطوره، وهي صادرة عن "مكتبة كل شيء" في حيفا.

أحد أجزاء الكتاب

هذا البحث هو عصارة أكثر من نصف قرن من متابعة الفن الرّحباني وتذوّقه، ثم البحث فيه وتحليله وظروف نشأته، ومقارنته مع ما سبقه وعاصره من فنون الغناء.

أولاً؛ بلا شك أنه جهد هائل ويُحترم وتُرفع له القبعة، فهو مؤلَّف من حوالي 1800 صفحة من الحجم الكبير مع غلاف سميك، تزينه صورة عاصي ومنصور وفيروز .

يبدأ فضل سمعان رحلته البحثية منذ سمع فيروز أول مرة مطلع ستينيات القرن الماضي، لتبدأ رحلته التي تعتبر أهم بحث ودراسة في الفن الرحباني، حتى لُقِّب بـ"بولس الرحباني"، فهو يرى في نفسه حاملا لرسالة الرحابنة، ويسعى إلى نشرها ورفع مستوى الوعي بأهميتها.

يرى المؤلف أن الشرق كان في حالة سبات أو ركود موسيقي إلى أن دخل الرحابنة حاملين مشروعهم المختلف في فن الغناء ورسالته.

قد تكون هذه نقطة خلاف مع الباحثين والمتذوّقين لفن الغناء الذي سبق الرحابنة، فالمؤلف يرى أنّ الغناء قبل الرحابنة كان محصورًا في زعل الحبيب أو رضاه والتلوع للقائه أو العويل لفراقه، وأن الحب كان يعني العلاقة الجسدية، فإما وصال أو حرمان، إلى أن أتى الرحابنة بجديد فكتبوا وغنّوا في مواضيع كثيرة جدًا، حيث أنهم طرقوا مختلف أبواب الحياة في قوالب روحانية مستمدة من حياة الناس وأحلامهم: "شتّي يا دنيي تيزيد موسمنا ويحلا"، وغيرها.

دخل الرحابنة الحلبة الموسيقية مزوّدين بالموروث الموسيقي الشرقي والغربي بشتى مدارسه، مضافًا إليها دراسة معمّقة للسلّم البيزنطي للموسيقى الكنسية الغنية جدًا بألحانها ومقاماتها.

يستثني الباحث من كل السابقين السيد درويش الذي عكس حياة الريف المصري، والذي نذر فنه لأجل رسالة آمن بها، بينما يرى أن فن الغناء عمومًا كان للتكسّب، ومن دون رسالة، وحصّة الأسد بل الأسود كما يقول هي للغزل، وهو ليس سوى تلاعبا بعواطف ومشاعر العشاق، فيبكي لفراق الحبيب ويندبه، أو يفرح في لقائه فيطرب، ولا يرتقي عن الحب الغريزي، بينما ارتقى الرحابنة بالحب، وجعلوه أبعد وأرقى من اللقاء الجسدي، وبهذا جاؤوا بثورة فنية شملت اللغة، حيث كانت اللهجة المصرية هي السائدة، فأصر الرحابنة على اللهجة اللبنانية، التي أصبحت لهجة سلسة على كل لسان عربي، بعد انتشارها بصوت فيروز والفن الرحباني، فالحب في الفن الرحباني هو وسيلة البقاء، وليس غايتها.

ويدعي المؤلف أننا لو جمعنا أغاني الغزل العربية كلَّها، لوجدنا أنّه يمكن اختصارها إلى عدد أصابع اليد الواحدة، فهي متكررة في معظم الأغاني. مثل: "أنا هويت" و"شفت حبيبي"، و"بفكر باللي ناسيني"، و"بتلوموني ليه"، و"جميل جمال"، وآلاف النصوص الغنائية التي تكرّر ذاتها.

أما الأغنية الرحبانية، فهي أغنية المحبة الشاملة، إنها تهليلة الحياة بكل حالاتها. وهي المحبة وليس الحب.

وعلى حد قول منصور الرحباني: "لقد جاءت الأغنية العربية من محافل الترف، ولهذا كانت مفرداتها الشعرية هي الورد والفل، ونحن جئنا من الوَعَر والشّوك والصخر، أي من بيئتنا".

أما بالنسبة للغناء الوطني، فيرى أنه قبل الرحابنة، كان ينبع من الأثر المباشر للحدث الوطني، وكان في معظمه للتشجيع وشحذ الهمم، واستنهاض النخوة لمواجهة الحدث والصمود في وجهه، ويغيب هذا الغناء الوطني من السّاحة إلى أن يحدث أمرٌ جديد في البلد والمنطقة.

يقارن بين الأغاني الوطنية الموسمية وبين الأغاني الخالدة للرحابنة، مثال:

"وطني يا ذهب الغَيْم الأزرق

وطني يا قمر الدِّني والزنبق

يا بيوت البيحبّونا، يا تراب اللي سبقونا

يا زغيّر ووسع الدِّني يا وطني".

يخصص المؤلف محورًا لموقف الرحابنة الفني من قضية فلسطين، ويرى أنهم كانوا صوت هذا الشعب المنكوب في كل مكان وصلَتْهُ كلمتهم.

فكانت أغاني ومسرحيات، "راجعون"، و"جسر العودة"، و"مجموعة أغاني العودة"، و"مجموعة القدس في البال"، و"أنا والمساء على بابي"، و"ليلى والغرباء"، ومسرحية "جبال الصوان".

ويرى أنّ الغناء الوطني كان نفاقًا للحاكم أو للحزب الحاكم ومجالا للاسترزاق، حيث أن كلَّ فنان رأى من واجبه تقديم أغنية وطنية للحصول على شرعية من الجمهور والنظام، ولكن هذا الفن يتغيّر بتغير الحاكم أو الحزب الحاكم.

أمّا الرحابنة، فلم يغنّوا لأحد مهما علا شأنه، ولم يكرَّس إلا لخدمة الوطن وإنسانه المظلوم.

يَذكر في مسرحية "ناس من ورق"، أن أحدهم يحاول أن يغري ماريا بأن تغني للمرشح لرئاسة البلدية، فتردّ عليه ماريا: "لو بتدفع مليون ليرة ما منلتزم لحدا".

بلا شك أن الأغنية الرحبانية أحدثت ثورة في الشّكل والأسلوب والأدوات وقوالب الغناء، التي يأتي المؤلف على تفصيلها، فيذكر ما كان سائدًا: الطقطوقة، والدور أو الموال، والموشح، والقصيدة التي قد تستمر نصف ساعة لتقديم بضعة أبيات، فجاء الرحابنة بالأغنية القصيرة من ثلاث إلى أربع دقائق. "الإسكتش" المُغنَّى، المسرحية الغنائية، التي شكلت قفزة عن ما سبقها من استعراضات غنائية لأبي خليل القباني والشيخ سلامة حجازي وسيّد درويش، فقد تعدَّدت مواضيع المسرحيات الرحبانية، وتداخل فيها السياسي مع الفلسفي والفكري والاجتماعي والعاطفي.

ويرى الباحث أن الرحابنة ذهبوا إلى أوزان شعرية جديدة، إذ صاروا يبنون الجُمل النّصية بحسب الجُمل الموسيقية وليس السائد بتلحين القصائد، فهم يطوّعون الكلمات لتلائم الموسيقى التي أعدّوها لحالة ما، وهذا منحهم مساحات واسعة، وخصوصًا أنهم هم الملحِّنون وهم الشعراء.

الأوركسترا - التخت الموسيقيّ

يستشهد المؤلف بعدد من النقاد في مقدرة الرحابنة الكبيرة على التوزيع الموسيقي، التي تعتبر قفزة في الغناء الشرقي، ومنها شهادة أم كلثوم في أحد لقاءاتها الصحافية، أنها قالت لعاصي الرحباني: "إنت يا عاصي معجزة في التوزيع".

هذا غيضٌ من فيض، وبلا شك أنها دراسة مهمّة، يستفيد منها الباحثون في تاريخ الموسيقى العربية المعاصر، وهي مثيرة للجدل للمهتمين بالشأن الفني، يشمل المؤلّف ألبومات من الصُّور والرسائل في مختلف المناسبات، ألف مبروك وإلى الأمام.

اقرأ/ي أيضًا | متفوّقون رغم الفقر

التعليقات