24/04/2023 - 17:25

كم أنت عظيمةٌ يا باقة الأزهار..

باقة الأزهار هي تسديد دَين لمن رحل ولم نستطع أن نفيَه حقّه عندما كان على قيد الحياة، هي لأحد الوالدين أو لكليهما أو لصديق أو لقريب لم نستطع أن نكافئه في حياته، لم نقدّم له ما يستحق من احترام ومحبة

كم أنت عظيمةٌ يا باقة الأزهار..

(Gettyimages)

هناك عادات نمارسها دون أن نتحقق من جدواها أو من مصدرها، لماذا نمارسها؟ وما فائدتها؟ ودون وعي منا! عادات منها مستحدث ومنها ما هو متوارث وقديم جدًا، قد تعود جذورها إلى أمم بائدة، أو ما زالت ولكن جرت عليها تعديلات خلال الأجيال، وقد نكتسبها من جيراننا أو من شعوب غزاها أجدادنا أو غزتهم.

كثيرا ما أثارت زيارة المقابر صبيحة الأعياد أسئلة فقهية واجتماعية، هل زيارة الأضرحة حسنة أم مكروهة! لن أخوض في هذا، شخصيًا لا أرى في هذا إلا كلّ خير وراحة نفسية، ما دام أنها ضمن المعقول.

في صبيحة يوم العيد نرى الكثيرين من الناس يحملون باقات الزهور لوضعها على أضرحة من رحلوا.

الغريب في باقة الورد أنّها ستذبل بعد ساعات، نضعها على ضريح مغطى بزهور جميلة ويانعة في تربتها من فوقه.

نحن الذين زرعناها، أو زرعها شبان يتطوعون لتنظيف المقابر وتزيينها عشية كل عيد.

ما لفت انتباهي هو أنّه ما دام أنَّ الضّريح مكسو بالورود، وهي كثيرة ويانعة وسوف تستمر لأعوام ما دمنا نرويها، فلماذا نحمل باقة أزهار نعرف أن مصيرها حاوية القمامة بعد أيام قليلة!

ما لفت انتباهي إلى هذا، هو المئات وخصوصًا من السّيدات والآنسات اللاتي حملن هذه الباقات صبيحة يوم العيد لوضعها على أضرحة أحبائهن الراحلين.

الهدف ليس الورد في ذاتِه، لأنه متوفّر على الضريح وبصورة أجمل من الباقة التي نحضرها.

ومن يحمل الباقة يدرك جيّدا، أن من يسكن الضريح لن يشعر بهذه الباقات، ولكن ومن غير وعي منا، الهدف الحقيقي منها هو نحن أنفسنا، نحن نحمل باقة الأزهار إلينا أوّلا.

باقة الأزهار هي تسديد دَين لمن رحل ولم نستطع أن نفيَه حقّه عندما كان على قيد الحياة، هي لأحد الوالدين أو لكليهما أو لصديق أو لقريب لم نستطع أن نكافئه في حياته، لم نقدّم له ما يستحق من احترام ومحبة، وربما نكون من أهل العقوق، ونحمل باقة كي نقول لأنفسنا بأننا نحن على ما يرام ولم ننس ذلك الذي رحل، وقد تكون اعتذارًا منا على تقصير تجاههم.

أتينا لنشكر أولئك الذين سبقونا وقدّموا أقصى ما يستطيعون من أجلنا، أولئك الذين عرفوا الشقاء في حياتهم، وواصلوا الليل بالنهار، وقلقوا وربما جاعوا وتحمّلوا الألم وصبروا على ما لا يرضيهم، كي ننعم من بعدهم بحياة أفضل وأجمل مما عرفوا هم، وكي تكون معاناتنا أقل من معاناتهم، أولئك الذين رحلوا وأعينهم تودّعنا، وما زالت قلقة على مصيرنا في وطننا، وما ينتظرنا في حياة وواقع لم ينصفهم.

نحملها لنقول لهم إنّ فرحتنا في العيد، منقوصة ما لم تكن أرواحهم حاضرة معنا.

ها نحن نتواصل ونستحضرهم بهذه اللفتة الروحية صبيحة العيد، كي نتفرّغ بعد هذا إلى لحظات فرح كانوا يتمنونها لنا.

ربما لم نقدّم لهم طيلة حياتهم باقة أزهار، حتى وهم على فراش المرض، وأنا متأكد من هذا، كانوا وكنّا منهمكين جدًا بما يشغلنا عن شكرهم وتقديرهم في حياتهم.

كذلك قد نحمل باقة الأزهار، كي يرى الآخرون من زائري القبور أن في الضريح شخصًا نحبّه، وأننا لسنا عاقين بحقّه، فهناك أيضًا من يلاحظ ويسأل وقد يقول: لم أر أحدا يزور ضريح فلان، أو أنَّ ضريح فلان مليء بالأعشاب اليابسة، وغيرها من ملاحظات تتشعّب وتبحث وتقول!

باقة الأزهار رسالة طيّبة من الأحياء إلى الأحياء قبل أن تكون إلى الرّاحلين.

لا يقل عن هذا أهمّية عن هذا، أنّ هنالك من ينتظر مناسبة تكون جزءًا من رِزقه، إنهم أولئك الفتية والفتيات في مقتبل العمر، وحتى الأطفال الذين يفتحون بسطة بيع الزهور، كي يربحوا شيئًا ما لتغطية مصاريفهم الشخصية، وأحيانًا لمساعدة الأسرة في تكاليف المعيشة الباهظة. بلا شك أن كثيرين منا مرّوا بهذا التجربة، نحن أو أحد أولادنا، وهي عمومًا تجربة جميلة وناجحة في المناسبات، وهي جزء من دورة اقتصادية اجتماعية تكمّل بعضها بعضًا.

إنه شيءٌ من الخير الذي ما زال يصل الأحياء بسبب أولئك الرّاحلين، كم أنت عظيمة يا باقة الأزهار.

إنها رسالة إلى أنفسنا، وإلى تلك الأرواح التي ما زالت تسكن بيننا، وستبقى حيّة فينا إلى الأبد.

التعليقات