13/05/2023 - 14:34

حكايتنا عَ الربابة: الأحداث، الروايات، والدلالات

للرواية أو للفيلم السينمائي حول الموضوع الوطني، من هذا النوع أو ذاك، دلالة أو دلالات أيضًا. والدلالة تعنى أساسًا بأهمية العمل العلمي أو الفني وعلاقته بنا، بهويتنا وبهمومنا، وبقضايا حاضرنا ومستقبلنا.

حكايتنا عَ الربابة: الأحداث، الروايات، والدلالات

لاجئون فلسطينيون بمنطقة حيفا أثناء معارك النكبة عام 1948 (Gettyimages)

تختلف الرواية الخيالية حول الموضوع الوطني، كما نعرف جيدًا، عن الرواية التاريخية من جهة، وعن رواية المؤرخ أو عالم الآثار من جهة أخرى. أما الاختلاف فمرده عاملان رئيسان: الأول، مدى التطابق بين أحداث وشخصيات الرواية وأحداث وشخصيات الواقع، والثاني، ذو علاقة بمعايير وأحكام التقييم.

فرواية المؤرخ، مثلًا، وخلافًا للرواية الخيالية أو الرواية التاريخية، تخضع لمعايير التقييم العلمية، وعلى رأسها مدى تمثيل الواقع والأمانة في التزام ذلك. هذا في حين تخضع الرواية الخيالية لمعايير التقييم الفنية أو الجمالية أساسًا.

أما الرواية التاريخية فتحتل موقعًا وسطًا بين هذه وتلك، إذ تخضع للمعايير الفنية أو الجمالية من جانب، ولمعايير تمثيل الواقع من جانب آخر، وإن كانت المعايير الثانية أقل صرامة في انطباقها هنا عما هو الحال في رواية المؤرخ أو عالم الآثار.

وهناك، بالطبع، اختلافات أخرى بين هذه الأنواع الثلاثة من الرواية حول الموضوع الوطني، ليس هنا المجال لحصرها. وما ينطبق على الرواية ينطبق أيضًا، مع التعديل اللازم، على الفيلم السينمائي أو المسلسل الدرامي حول الموضوع الوطني، والذي بدوره قد يكون خياليًا أو توثيقيًا أو مستوحى من رواية تاريخية.

وللرواية أو للفيلم السينمائي حول الموضوع الوطني، من هذا النوع أو ذاك، دلالة أو دلالات أيضًا. والدلالة تعنى أساسًا بأهمية العمل العلمي أو الفني وعلاقته بنا، بهويتنا وبهمومنا، وبقضايا حاضرنا ومستقبلنا. الدلالة، باختصار، تعنى بهواجس الراوي ومآربه ذات العلاقة بالراهن والمستقبل، والدلالة، كما أفهمها، أوسع نطاقًا من الثيمة أو العبرة.

فأنت تؤلف رواية "رجال في الشمس" لكي تصف رحلة الآلام التي يسلكها اللاجئ الفلسطيني في المنفى سعيًا وراء لقمة عيش كريمة في بلاد بعيدة، والتي قد تؤدي إلى موته صامتًا داخل خزان وفي وهج الصحراء. وكان أولى به، حسب مؤلف الرواية (غسان كنفاني)، أن "يدق جدران الخزان"، أي أن يغضب ويصرخ ويتمرد على ذلك الواقع، واقع اللجوء المقترن بالعوز والهوان، الذي يدفعه ويدفع أقرانه إلى مثل هذه الرحلة المذلة والمميتة والهازمة للهدف.

وأنت تؤلف رواية "قناديل ملك الجليل" (إبراهيم نصر الله) لكي تكشف عن وجود شعب وحكم وأمن وبنيان مدن وتجارة قطن في فلسطين في النصف الثاني من القرن الـ18. وكذلك لكي تقول بأن فلسطين لم تكن أرضًا جرداء بلا شعب تنتظر "عودة" اليهود الصهاينة إليها. وأنت تؤلف الرواية المذكورة لتقول أيضًا بأن شعب فلسطين يستحق أن ينعم مجددًا بالحرية والكرامة والأمن في وطنه.

وأنت حين تؤلف كتاب "التطهير العرقي في فلسطين" (إيلان بابي)، فأنت تريد سرد رواية العدوان الصهيوني الواسع والشرس على الشعب الفلسطيني من جهة، وتريد كذلك تذكير الرأي العام الدولي بواجبه الأخلاقي والسياسي تجاه التعاطي الجدي مع مظالم وحقوق الشعب الضحية من جهة أخرى.

وأنت حين تصنع فيلمًا سينمائيًا عن هذا البيت المغتصب أو ذاك أو هذه القرية المهجرة أو تلك أو هذه المجزرة أو تلك، فأنت تريد تعريف الناس المعنيين بما حصل فعلًا، بمن طرد أو سجن أو قتل ظلمًا، وبمن انتهك حرمة أو اقترف جرمًا، وبمن أمر بهدم مئات القرى بعد تهجير سكانها، وبمن أفرغ مدن الساحل والجليل من أهلها، وبمن يتحمل مسؤولية كل ما حصل، وبمن عليه بالتالي مسؤولية وواجب إنصاف الضحايا ومعاقبة الجناة.

وأنت حين تنظم مسيرة عودة سنوية إلى هذه القرية الفلسطينية المهجرة أو تلك، فأنت تسرد رواية تريد من خلالها تعريف الناس، وجيل الشباب الفلسطيني أساسًا، بما حصل عام 1948، عام النكبة الفلسطينية، وبما كان عليه الحال قبلها، وبما أمكن أن يكون عليه الحال لولاها. ولكنك تريد أيضًا أن تقول: لا بد لظلم وظلام هذا الليل الطويل أن ينجلي، ولا بد لهذا الحق الفلسطيني، وبهمة الشباب، أن ينتصر يومًا.

وبصورة عامة، يهمنا معرفة ما حدث في الماضي وما كان عليه الحال في الماضي، ماضينا وماضي غيرنا من الشعوب والأمم. يهمنا ذلك ليس حصرًا لمعرفة تفاصيل تاريخ هذه الأمة أو تلك في هذه الحقبة الزمنية أو تلك، أو في تعاقب الحقبات، رغم أهمية المعرفة العلمية بذلك. يهمنا معرفة ما حدث في الماضي وما كان عليه الحال في الماضي، أساسًا لاعتبارات ذات علاقة بالحاضر والمستقبل، من بينها التالية:

لأن الماضي ساكن فينا، رضينا أم أبينا. فالماضي يمثل ذلك الجزء الموروث من هويتنا ومن قضيتنا. قبور أجدادنا، مثلًا، تقول الكثير عنا، تمامًا كما يقول الكثير عنا ما تركه هولاء الأجداد لنا أو ورثناه عنهم. وتركوا لنا وورثنا عنهم، من بين أشياء أخرى، ملامحنا ولغتنا وقيمنا وثقافتنا ومظالمنا وطموحاتنا وما بنوا وما قالوا وكتبوا والأرض أو المكان. الماضي، تبعًا لذلك، يلزمنا في الحاضر ويلون نظرتنا للمستقبل. وهنا تكمن ددلالته.

لأن الماضي ليس فوضى أحداث متفرقة أو مبعثرة. هناك قواعد تحكم تعاقب تلك الأحداث التي أوصلنا إلى الراهن. فإذا عرفنا تلك القواعد يساعد ذلك كثيرًا على استشراف المستقبل، نزعاته وإمكاناته والفرص الكامنة فيه، وموقعنا المستقبلي من كل ذلك.

ومن التاريخ المقارن، نتعرف على الشبه العائلي بين حالنا وقضايانا وبين أحوال وقضايا مجتمعات وشعوب أخرى مرت بتجارب مشابهة. وهذا من شأنه أن يساعد على تحديد أهدافنا وإعادة ترتيب أولوياتنا وترشيد نضالنا للدفاع عن المهدد من حقوقنا واستعادة ما أمكن وما وجب من المغتصب أو المنتهك منها.

وباختصار، يهمنا أن نعرف ما حدث في الماضي وما كان عليه الحال في الماضي، خاصة في المحطات والمنعطفات الهامة، لأن الماضي يقبع في صلب هويتنا وفي عمق التحديات التي نواجهها في الراهن أو قد نواجهها مستقبلًا. الماضي هو روايتنا عما حدث سابقًا. ولروايتنا عما حدث سابقًا دلالات لما يتوجب عمله أو إحداثه مستقبلًا، وما إحياء ذكرى نكبة عام 1948 سنويًا إلا خير مثال على ذلك. فليس إحياء ذكرى النكبة مناسبة للبكاء على الأطلال والتذكير بالظلم التاريخي فقط، وإنما أيضًا لغرض التأكيد على عدم جواز التفريط في الحق على المكان.

غني عن القول في هذا الصدد بأن روايتنا الجمعية، الحاوية والجامعة، يتم حبكها من عدد لا يحصى من الروايات الجزئية والمحلية، المتزامنة منها والمتعاقبة، تلك الروايات التي تحكي عن إعلام أو مواقع أو أحداث أو خيبات أو بطولات وطنية. تلك الحبكة للرواية الوطنية الجامعة تستثني أو تهمش، بالطبع، خيوطًا وألوانًا نشازًا قد تفسد صنعنتها.

وفي مثل هذه الرواية الجمعية، والتي تخضع للمراجعة والتعديل عبر الزمن، رد واضح على الرواية أو الروايات المنافسة أو المناقضة التي يحبكها ويروجها الخصم الحاقد أو العدو المتربص، مؤرخوه وفنانوه وصانعو أفلامه ورواياته، الخيالية منها والوثائقية والبين بين.

وأخيرًا، والأهم ربما، لأن روايتنا تحكي عن ما كنا عليه، وعن ما نحن فيه، وعن الذي يميزنا عن غيرنا، وعن ما نستحق ونطمح أن نكونه في المستقبل، فهي أصدق تعبير عن هويتنا الجمعية، أو، قل، هي المقابل الموضوعي لتلك الهوية، تمامًا كما الرواية الفردية هي المقابل الموضوعي للهوية الفردية.

وفي الختام، روايتنا الجمعية، الحاوية والجامعة، ينسج حبكتها الرواة من طرفنا على مختلف أدواتهم وأذواقهم واختصاصاتهم (باحثون وفنانون وحكواتيون وغيزهم). وهي، كما ذكرت، المقابل الموضوعي لهويتنا الجمعية المميزة، أو التي تميزت عبر الزمن وعبر المحن. أما ذلك الفصل أو المقطع من الرواية الجمعية الذي يسلط بؤرة الضوء على أحداث الفترة الأخيرة، فترة "حرب المئة عام على فلسطين" (رشيد الخالدي)، فترة الحق الضائع والذي سوف أو يجب أن يعود، فيجد أوجز وأفصح تعبير له في مفردات الأغنية الشعبية للمطرب علي الحجار "ذئاب الجبل"!

التعليقات