11/06/2023 - 18:32

ليس كل قديم زبالة

القيم القديمة المتوارثة هي جزءٌ من بناء الإنسان، وهذا ينعكس على شخصيته وعلى تصرفاته مع الآخرين، وعلى المجتمع كلِّه، فمن يتسلَّح بخلفية تربوية متينة ذات قيم مثالية راقية، يختلف تمامًا عن ذلك الذي يفتقدها

ليس كل قديم زبالة

(توضيحية - Getty Images)

معظم الأسطوانات في سيارتي لأم كلثوم، وفيروز، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ، وفريد الأطرش، وموتسارت، وتشايكوفسكي، وفاغنر.

لم يعد حاجة للأسطوانات، فالهواتف تزوِّدك بما تطلب، ولكنني أجد متعة في الأسطوانة أكثر، وخصوصًا أن معظم الأغاني في اليوتيوب تقطعها الإعلانات، فتقطع معها تحليقك مع الأغنية.

أحيانا أكتفي بمقطع من هذه الأغنية أو تلك. أحيانا أستمع لفنان يقلد هؤلاء الكبار في طبعة سريعة ومختصرة. هذا لا يعني أنني لا أستمع إلى بعض الأغاني الحديثة، بل هناك بعض ما يمكن سماعه، ولكن هناك أيضا فن هابط ومن المعيب أن نسمعه في الأعراس والمناسبات، ومنها ما يشير إلى التدهور الذي وصلناه في الذوق والأخلاق على حد سواء.

ما تزال أم كلثوم تحقق أعدادًا خيالية من الاستماع، فكل أغنية تسجِّل عشرات ملايين المرات من التّشغيل على اليوتيوب، بعضها تجاوز المئة مليون.

بمناسبة اقتراب العيد، تبدأ ربَّات البيوت في عملية تنظيف للمنازل. يجب التخلص من أشياء قديمة كثيرة لم تعد صالحة للاستعمال، أو أنّها لم تعد عملية، إذ نشأت مكانها أدوات حديثة وأسرع، وربما أقل جهدًا وتكلفة.

ورغم ذلك، هنالك بعض الأشياء القديمة التي تكسب قيمتها، ليس من كونها صالحة أو غير صالحة للاستعمال، هنالك أشياء قديمة لها قيمتها المعنوية، فهي قد تكون ذكرى من جدٍّ أو والد، أو من صديق، أو من مصدر ما آخر، مما يكسبها قيمة معنوية، مثل ماكنة خياطة قديمة للوالدة، وتعتبرها ثروتها الكبيرة. هذه الماكنة القديمة لم تعد عملية، ولكن قيمتها الروحانية لا تقدر.

توتة أو تينة غرسها والدك أو جدك بيديه، قيمتها المعنوية كبيرة جدًا، فهي تحمل ذكرى راحلين، وتربطنا بهم وبما كانوا يمثلونه، وفي ظلها رائحة أولئك الذين أعطوا من غير حساب، أولئك الذين فضّلونا على أنفسهم. لكن يأتي شاب يصمّم على اقتلاعها لأنّه يريد موقفًا لسيارته، أو لأنَّ الساحة لا تتسع إلا لسيارة واحدة، وهو يريد مكانًا لسيارتين، أو لأنَّ ربة المنزل ضاقت ذرعًا بأوراقها التي تتساقط في الخريف، أو من ثمارها التي تتساقط بعدما تنضج.

قيم كثيرة تتبدل، ومؤسف كيف يحدث هذا.

تقف أمام بيتك، فيمرُّ شبَّان من أمامك، لا يكلّفون أنفسهم عناء إلقاء التَّحية، التحية التي كنا نعتبرها إلزامية إذا ما مررنا بمن يكبروننا سنًا، بل أنها تكسبنا أجرًا في ميزان حسناتنا.

يدخل مسن إلى بيت أجر لتقديم تعزية أو إلى مائدة فرح، ينظر حوله أين يجلس مرتبكًا، في الوقت الذي يبقى فيه عدد من الشبان جالسين في أماكنهم في الصف الأول، لا مشكلة لديهم بأن يشعر المسن بالحرج، ثم ينشغلون عنه بالحديث مع بعضهم بعضًا.

كذلك الأمر إذا دخل غريب ليس من أبناء البلدة، كانت العادة أن يقف الرجال الأصغر سنًا أولا، ليجلسوا الغرباء، لكن صُرنا نرى الشُّبان يبقون جالسين في أمكنتهم، كأن الأمر لا يخصُّهم.

في النادي الرياضي، ترى عشرات الشُّبان يهندسون أجسامهم لتصبح قوية وذات عضلات، حماهم ورعاهم الله، ولكن تستغرب أنَّهم لا يهتمون لتحيّة بعضهم بعضًا، كأن في التحية انتقاص من كرامتهم، إلا من تربطهم ببعض، علاقة شخصية جدًا. يدخل أحدهم لا يلتفت يمينًا ولا يسارًا، وإذا التفت فهو لا يحيي الآخرين، كأنَّ هؤلاء غرباء عنه في فندق ما في مدينة بعيدة. علمًا بأنَّهم أبناء البلدة نفسها والحي نفسه، ويعرفون أسماء بعضهم.

ليس كل قديم زبالة، وليس كل جديد فيه الخير والفائدة.

القيم القديمة المتوارثة هي جزءٌ من بناء الإنسان، وهذا ينعكس على شخصيته وعلى تصرفاته مع الآخرين، وعلى المجتمع كلِّه، فمن يتسلَّح بخلفية تربوية متينة ذات قيم مثالية راقية، يختلف تمامًا عن ذلك الذي يفتقدها، ومن يحصل على أرقى الشهادات في المجالات العلمية التي قد توفر له مصدرا جيِّدا للدخل، تفقد الكثير من قيمتها إذا فقد صاحبها أساسيات الأخلاق الحميدة، وتحوّل إلى كائن بلا قلب ولا مشاعر ولا ضمير، فلا يفكر إلا في تحقيق المزيد من النجاحات المهنية والمادية، دون التفات إلى الأخلاق، لا بل يسخر ممن يتمسَّك بها.

ما أجمل أولئك الذين يحققون ذواتهم وطموحاتهم ويصارعون الحياة، وفي الوقت ذاته لا يتنازلون عن قيم الآباء والأجداد.

ما أحوجنا في هذه الأيام التي تراق فيها الدماء بلا حساب، إلى الجذور المتينة التي كانت الدرع الواقي لوجود أهلنا، وصمودهم في معركة البقاء.

التعليقات