27/08/2023 - 14:21

"حَيْونة الإنسان" مرَّة أخرى...

كانت العائلة والعشيرة هي القلعة التي يحتمي بها الفرد، وتبع ذلك الإنتماء إلى مجموعة عقائدية حزبية تحمي المنتمين إليها من الابتزاز والعنف، ولكن بدعم السُّلطة في نشر السِّلاح، تحوَّلت عصابات الجريمة إلى عنوان الحماية، فالحزب أو العائلة لم يعودوا قادرين

"العنف لا يمكن له أن يستمر إلا في ظل دولة ضعيفة، أو في ظلِّ دولةٍ معنية... الدولة ليست ضعيفة، وعمليًا هي التي ترعى هذا الإرهاب" (Getty images)

سيبقى كتاب "حَيْونَة الإنسان" للراحل السّوري، ممدوح عدوان، من الكتب التي امتازت في تعرية ما تخطط له وتنفذه السّلطات القمعية لتحويل الإنسان إلى مخلوق خائف على نفسه وأسرته، وأن لا يسعى إلا من أجل قوت يومه وأمنه الشخصي، وبأن يشكر الدَّولة أو السُّلطة لمجرد أنّها لم تقتله، أو لأنّها منحته الحقَّ في الحصول على عمل وقوت، وبأن يبيت ليلته بدون اعتقال أو إهانة أو تهديد بالقتل.

حيث أنها توصل هؤلاء الضحايا إلى مرحلة يدافعون فيها عن السُّلطة القامعة، ويتحوَّل القامع في نظرهم إلى المُخلِّص والمحبوب، وذلك لأنَّه لم يقتلهم ولم يقطع رزقهم، ولأنَّه منحهم أفضلية عن غيرهم بمنحهم العمل والكسب والأمن، ثم يتحوّلون إلى أشرس المدافعين عنه، ويستعدُّون لقتال وحتى إبادة معارضيه، ويصبح اسمه مقدَّسًا فوق النقد والمحاسبة.

في البلد الديمقراطي تعتبر التعدّدية في الأعراق إغناءً للوطن وحضارته، وتُمنح هذه الأقليات كل الفرص المتاحة للإبداع والتعبير عن نفسها، أما في السُّلطة القمعية التي تصادر فيها حقوق الأقلية لصالح الأكثرية التي تنتمي إليها السُّلطة، فهي تسعى إلى منع أسباب القوَّة من الأقلية، وتلعب دورًا أساسيًا في تكريس الخلافات وافتعالها بين أبناء الأقلية إذا كان هناك أكثر من أقلية عرقية واحدة، أو خلافات دينية ومذهبية، لأنّها تعرف أن قوة هؤلاء في وحدتهم، ولا بدَّ من إضعافهم، وإشغالهم بأنفسهم، وهذا يحدث من خلال نشر الفوضى والجريمة بينهم، ولهذا تغضّ النّظر عن عصابات ترتكب الجرائم، ولا تكون جدّية في القبض على المجرمين لأنَّهم يخدمون إستراتيجيتها، بل أنَّها معنية في توصيل الرِّسالة إلى الأقلية المُضطهدة، بأنَّها قادرة على وقف الجريمة أو تخفيضها إلى الحد الأدنى، ولكنها غير معنية في ذلك لأنها تريد معاقبتهم وخصوصًا أولئك المعترضين على سياستها والذين يرفضون الاستسلام لسلطتها وقمعها، ولهذا تشجّع العصابات على نشر الرُّعب بينهم كي يرضخوا في النهاية بلا شروط أو مطالب كبيرة مثل المساواة التامة وغيرها، وتُفهمهم بأنّ الدولة وإن كانوا يكرهونها فهي التي بإمكانها حمايتهم من وحشية بعضهم بعضًا، وتعزِّز لدى فئة منهم شعورًا بالنّقص، حتى صرنا نسمع ونرى ما يُنشر على وسائل التواصل مما يكتبه بعض العرب بأننا "مجرمون ونستحق ما يجري لنا"، وهكذا صرنا نستغيث ونطالب أجهزة القَمع المركزية بأن تنقذنا من أنفسِنا، أي من المجرمين الذين غضّت السُّلطات الطَّرف عنهم وشجعتهم.

هذه السلطة نفسها تنشط بصورة مثيرة للإعجاب عندما تصل الجريمة إلى مدينة أو بلدة من أبناء قومها، حينئذ نرى قدراتها الهائلة في الكشف عن المجرمين.

كانت العائلة والعشيرة هي القلعة التي يحتمي بها الفرد، وتبع ذلك الإنتماء إلى مجموعة عقائدية حزبية تحمي المنتمين إليها من الابتزاز والعنف، ولكن بدعم السُّلطة في نشر السِّلاح، تحوَّلت عصابات الجريمة إلى عنوان الحماية، فالحزب أو العائلة لم يعودوا قادرين على مواجهة العصابات المسلّحة، التي باتت هي القامعة المباشرة لمجتمعها بدلا من السّلطة التي صارت تبدو لدى البعض، أكثر رحمةً من عصابات الجريمة، بل أن هذه العصابات أخذت مكان القضاء في كثير من الحالات، فأجرت الصلح وفرضت الغرامات، وعمليًا منحتها السُّلطات إمكانية القيام بمساعدتها على تحويل حياة المواطن إلى جحيم، بما يفيد مصلحة الطرفين.

أقتبس مما جاء في كتاب حيونة الإنسان "العنف المُطْلَق من عقالِه لا يمكن له أن يستمر إلا في ظل دولة ضعيفة، أو في ظلِّ دولةٍ معنية وهي التي ترعى هذا العنف وتنمّيه لتوظِّفه في مصلحتها، كما أنَّه قد يكون من مستلزمات استمرار الدولة القمعية ذاتها" ص 191.

الدولة ليست ضعيفة، وعمليًا هي التي ترعى هذا الإرهاب، والمعادلة التي نشأت الآن في ظل الحكومة الفاشية، هي أن السلطة لا تحمي المواطنين العرب وسلطاتهم المحلية من ابتزاز عصابات الجريمة، وفي الوقت ذاته تبرِّر لنفسها حق حجب الميزانيات عن السُّلطات المحلية بدعوى أنها خاضعة لعصابات الجريمة، هكذا تضرب السلطات القمعية عدة عصافير برصاصة واحدة، فهي تدعم الجريمة وترعاها لتخريب مجتمع الأقلية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته تتخذ من الجريمة ذريعة لحجب الميزانيات، وتوصل إلى عصابات الإجرام رسائل واضحة "أنتم في أمان طالما لم تدخلوا المجتمع اليهودي، ولن تفلتوا من العقاب إذا وصلتم إليه"، ومن يعارض الواقع الذي تريده الدَّولة القمعية، فهو يغامر في أمنه وحياته.

هذه العصابات تعرف دورها جيِّدا، وتعرف حدودها مقابل أن تحظى برعاية سُلطة "الشّاباك" بشكل خاص.

في نهاية الأمر، فإن السلطة هي المسؤولة عن حماية المواطنين، وبموقفها هذا ترتكب جريمة أخرى بحق الشعب المقموع تضاف إلى جرائمها منذ النكبة.

اقرأ/ي أيضًا | "الجريمة والثواب"

التعليقات