14/09/2023 - 19:20

في إشكاليّة البيان والتخوين

إنّ الرواية الفلسطينيّة الأهمّ هي الحالة الفلسطينيّة بحدّ ذاتها، هي النكبة المتواصلة وهي حوارة والشيخ جرّاح واجتياح مخيّم جنين وهبة الكرامة وتطهير النقب من أهله ومشاريع الضمّ والاستيطان الاستعماريّين والأسرى، وكلّ تجلّيات القهر، ويبقى أوّلها اللاجئون الفلسطينيّون

في إشكاليّة البيان والتخوين

(Getty)

لا مكان لنسب أيّ مسّ بالموقف من اليهود إلى حركة التحرّر الوطنيّ الفلسطينيّ في كلّ تاريخها. ولم تكفّ هذه الحركة يومًا عن التمييز بالموقف ما بين اليهود وبين الصهيونيّة وإسرائيل، وذلك ضمن مناهضة المفهوم الصهيونيّ ورواية التبرير الاستعماريّة في فلسطين. هذا الموقف متأصّل وثقافة شعب حصريًّا في مراحل النهضة الفلسطينيّة، لدرجة انضمّت شخصيّات يهوديّة إسرائيليّة وغير إسرائيليّة إلى حركة التحرّر الفلسطينيّ، ودفعت الثمن إسرائيليًّا.

وإذ إنّ الحديث عن تصريحات الرئيس محمود عبّاس أمام المجلس الثوريّ لحركة فتح، فهو جدير بالنقاش والحوار والاختلاف فلسطينيًّا، وكنت أتمنّى لو تخلّت القيادة الفلسطينيّة عن الخوض في موضوع تأريخ المحرقة النازيّة، والابتعاد عن تحليلات مسبّباتها وحيثيّاتها، باستثناء أمرين وهما أنّه لم يصدر أيّ صوت فلسطينيّ يحمل يهود أوروبا المسؤوليّة عن الإبادة والكارثة الّتي حلّت بهم وبغيرهم وكلام الرئيس عبّاس بعيد كلّ البعد ولا مكان لوصفه باللاساميّة أو التحريض على إبادة اليهود كما ادّعت أوروبا الرسميّة، وهي تنصّب نفسها راعية الأخلاق العالميّة، بينما اللاساميّة هي منتوج أوروبّيّ مائة في المائة، وكلّ الاستعمار العالميّ هو كذلك. وثانيًا مواجهة الرواية الصهيونيّة الّتي تبرّر احتلال فلسطين والنكبة بكلّ تجلّياتها وإقامة إسرائيل باسم ضحايا النازيّة من اليهود، وبهذا المفهوم اعتبر الفلسطينيّون أنفسهم، وفي خطابهم التاريخيّ بأنّهم ضحايا ضحايا النازيّة الّذين تحدّثت باسمهم الحركة الصهيونيّة، ومارست ممارساتها باسمهم، ليتواطأ العالم الغربيّ مع هذه المفاهيم ويساندها. إنّ دور القيادة السياسيّة هو القيادة، وبلورة المشروع السياسيّ التحرّريّ ومستجدّاته وأساسًا صنع الأفق الواعد وبرّ الأمان والحرّيّة والكرامة للشعب.

ثمّ إنّ الرواية الفلسطينيّة الأهمّ هي الحالة الفلسطينيّة بحدّ ذاتها، هي النكبة المتواصلة وهي حوارة والشيخ جرّاح واجتياح مخيّم جنين وهبة الكرامة وتطهير النقب من أهله ومشاريع الضمّ والاستيطان الاستعماريّين والأسرى، وكلّ تجلّيات القهر، ويبقى أوّلها اللاجئون الفلسطينيّون. ولسنا بالضرورة بحاجة إلى اعتماد المقارنات ولا المقاربات لا مع اللاساميّة ولا النازيّة ولا مع نظام الفصل العنصريّ في جنوب أفريقيا الابرتهاد. فلا شيء من هذا يزيد شرعيّة قضيّة فلسطين ولا من عدالتها ولا من الترويج لها. تحتاج الحركة الصهيونيّة بكلّ تيّاراتها التبرير التوراتيّ واللا-سامي ومعادة العالم لليهود والعداء للعرب وللإسلام، وإلى لعب دور الضحيّة كي تبرّر ممارساتها في فلسطين حتّى ولو استدعى الأمر أن تمثّل دور ضحيّة ضحاياها.

مسألة الدخول في إعادة تفسير التاريخ لا تميّز فقط الحالة الفلسطينيّة، بل يستخدمها المستعمرون، وفي هذا الصدد جدير التذكير بتصريحات نتنياهو في 20/10/2015، حين صرّح بأنّ "هتلر لم ينو إبادة اليهود، وإنّما طردهم" و "إنّ الحاجّ أمين الحسيني هو "من زرع الفكرة [الإبادة] في رأس هتلر"، وذلك كي يحيل تهمة الدفع لإبادة اليهود على الحاجّ أمين الحسيني والموقف الفلسطينيّ سعيًا لشيطنة الفلسطينيّين وتشبيههم بالنازيّين، بينما لاقى التصرّح احتجاجات وانتقادات شاملة سيّاسًا وأكاديميًّا وتاريخيًّا، ومن المنظّمات المعنيّة بتخليد ضحايا النازيّة، واعتبروا أنّ نتنياهو سعى إلى تبرير النازيّة وتقديم المساعدة إلى منكري المحرقة الهولوكوست. وهي اتّهامات للفلسطينيّين دحضها أيضًا داني روبينشتاين في كتابه عن عبد القادر الحسيني "إمّا نحن أو هم".

كان لافتًا، لكن غير مفاجئ الموقف الأمريكيّ والأوروبّيّ الرسميّ المتواطئ مع دولة الاحتلال ومع الصهيوينة، وهو إدانته لتصريحات الرئيس الفلسطينيّ واعتبارها لا – سامية بالمستوى "الأخلاقيّ" الأوروبّيّ، وباعتبارها "تعوق حلّ الدولتين"، ليتواصل ذلك مع حملة منظّمة لشيطنة المواقف الفلسطينيّة وعدالة قضيّة فلسطين وتحميل ضحايا الاحتلال مسؤوليّة "غياب حلّ الدولتين"، وللتذكير فقط فإنّ اللا-سامية كما الصهيونيّة هما حركتان عنصريّتان اوروبيتا المنشأ الاستعماريّ. الخطاب الفلسطينيّ المأمول هو الثوابت الفلسطينيّة كما هي، بما فيه تحميل أوروبا والنظام الدوليّ مسؤوليّة مأساة فلسطين السياسيّة والأخلاقيّة والقانونيّة، والّذين لم يقوموا بأيّة خطوة فعليّة حتّى تجاه مواجهة الحكومة الصهيو-دينيّة الفاشيّة الحاليّة أو لتوفير العدالة لفلسطين، ثمّ يلبسون عباءة الواعظ لترسيخ نفاقهم وتحويله إلى ثقافة تفوّق لصالح الصهيونيّة.

عن بيان الأكاديميّين:

صدر هذا الأسبوع بيان الأكاديميّين والمثقّفين والفنّانين الفلسطينيّين المثير للجدل، وقد وقّعته شخصيّات مرموقة أكاديميًّا وثقافيًّا ووطنيًّا، وشخصيًّا العديد منهم أصدقاء وصديقات مقرّبون. يمكن تلخيص جوهر البيان بأنّه إعلان براءة من أقوال محمود عبّاس وإعلان براءة من الشخص واعتباره لا يمثّل وفاقد للشرعيّة، واعتبار تصريحاته لا- سامية، واعتبار السلطة الفلسطينيّة سلطة قمعيّة داخليًّا. وجاء أيضًا "ندين بشكل لا لبس فيه التصريحات المستهجنة أخلاقيًّا وسياسيًّا الّتي أدلى بها رئيس السلطة الفلسطينيّة محمود عبّاس حول المحرقة".

إنّ فتح النقاش فلسطينيًّا بشأن مسائل مثل المحرقة النازيّة والمسألة اليهوديّة تاريخيًّا هو شأن مهمّ على مستوى النخب الأكاديميّة والثقافيّة إذا كان الغرض منه تفكيرًا رؤيويًّا أو أخلاقيًّا، كما جرى في "وثائق التصوّر المستقبليّ" في العقد الأوّل من القرن الحاليّ وحصريًّا في "وثيقة حيفا" كتعبير عن موقف أخلاقيّ، أو كما جرى في "المؤتمر الدوليّ ضدّ العنصريّة" (مؤتمر ديربان 2001) كتعبير عن موقف سياسيّ وأخلاقيّ في اعتبار الفلسطينيّين ضحايا ضحايا النازيّة، والتأكيد على اعتبار اللا- سامية حركة أوروبّيّة المنشأ والممارسة عنصريّة استعماريّة، واعتبار الموقف من جرائم النازيّة، ومن المحرقة موقفًا أخلاقيًّا إنسانيًّا أوّلًا، بالإضافة إلى رفض متاجرة إسرائيل باللاساميّة وبجرائم النازيّة لتبرير جرائمها ضدّ الشعب الفلسطينيّ ولتبرير النكبة واتّخاذ قرار يرفض اعتبار إدانة إسرائيل وسياساتها والصهيونيّة جرائم عنصريّة أو ضمن اللا – سامية، بالإضافة إلى شعار "الصهيونيّة عنصريّة وإسرائيل أبرتهايد" الّذي أجمع المؤتمر غير الحكوميّ حوله.

لم يسع بيان الأكاديميّين والمثقّفين إلى مخاطبة الرأي العامّ الفلسطينيّ، بل صدر باللغة الإنجليزيّة، وهذا بحدّ ذاته موقف، مع العلم بأنّه كان بالإمكان أن يصدر بالعربيّة، ومن يريد ترجمته من وسائل الإعلام فليفعل. وهي نقطة ضعف كبيرة؛ لأنّ قيمة البيان إن أراد التأثير فلسطينيًّا كانت ممكنة في حال توجّه للفلسطينيّين بلغتهم العربيّة وبلهجة حواريّة لا إلغائيّة، وعندها كان سيكسب أكثر شرعيّة ضمن التعدّديّة والاختلافات، ومن باب الغيرة على الخطاب الفلسطينيّ، والقيمة الإضافيّة الّتي كان بالإمكان للبيان أن يحملها هي في مخاطبة الفلسطينيّين، وليس التوجّه إلى العالم لتبيان التمايز عن موقف محمود عبّاس، وبلغة تنعم لأذن العالم الغربيّ دون اتّهامه بأنّه ليس أخلاقيًّا مثلًا، وبأنّه لا يحظى بأيّة مصداقيّة أخلاقيّة كي يعظ للفلسطينيّين ما هو المتاح وما هو غير المتاح لهم أخلاقيًّا، ولم يتّصدّ البيان لحملة التحريض الدوليّة الرسميّة الّتي شيطنت الموقف الفلسطينيّ.

بتقديري، فقد أخفق البيان في مخاطبة الشعب الفلسطينيّ، وفي حماية روايته دوليًّا، ولم يحقّق أيّ إنجاز أمام حركات المناصرة العالميّة الّتي يحرّكها النضال الفلسطينيّ وعدالة قضيّة فلسطين. وفي المقابل فإنّ التخوين وخطاب العار ليس في مكانه فمعظم الموقّعين ذوي مصداقيّة كلّ في مجاله، وكلّهم في انتمائهم والتزامهم الوطنيّ، ومهما كان الاختلاف، فإنّ لغة التخوين كما التكفير ونزع الشرعيّة كما كلّ صيغ الإلغاء هي معايير تدميريّة خطيرة للشعب، وتشتّته أكثر ممّا هو مشتّت.

يكفي شعب فلسطين الانقسام الأليم الّذي تبني عليه إسرائيل استراتيجيّاتها، ولا حاجة إلى انقسامات وطنيّة أخرى. ليكن المسعى هو اللحمة الفلسطينيّة المبنيّة على ثقافة الحوار الوطنيّ والإنسانيّ، ودور المثقّفين الأهمّ في نهاية المطاف هو في مخاطبة شعبهم والمؤسّسات والقيادات، وفي التأثير والرقيّ بالمجتمع والقضيّة، ولا يكفي النقد بحدّ ذاته، كما لا يستطيع أيّ شعب الاستغناء عن دورهم.

بالإمكان تحويل هذا الإشكال إلى فرصة لو تحوّل إلى حوار حقيقيّ حول كيفيّة تطوير الخطاب الفلسطينيّ وعدالة القضيّة ومعاناة الشعب. وهذا مفيد فلسطينيًّا أكثر من أي بيان.

التعليقات