14/09/2023 - 17:03

مخطط المعازل وإخفاء الفلسطينيين دون تهجيرهم

تتحول ذكرى أوسلو في إسرائيل إلى حفلة تنكرية تزداد عبثية سنة بعد أخرى، حيث يذرف ‘اليسار‘ خلالها دموع الحنين إلى الماضي، رغم أن أوسلو تحول إلى جهاز سيطرة وأبارتهايد، بينما يهاجم اليمين الاتفاق الذي طورت إسرائيل تحت مظلته المستوطنات.

مخطط المعازل وإخفاء الفلسطينيين دون تهجيرهم

جندي إسرائيلي يلتقط "سيلفي" مع أحد المستوطنين خلال قمع مسيرة فلسطينية ضد الاستيطان قرب يطا (Getty Images)

في إشارة إلى فحوى الوثائق المتعلقة باتفاقية أوسلو التي تخفيها إسرائيل لـ20 سنة أخرى، بعد أن كشفت مؤخرا عن بعضها بمرور 30 عاما على توقيع الاتفاق، كتبت الصحافية الإسرائيلية عميرة هس، أنها بعكس المؤرخين، لن تنتظر 20 سنة أخرى للإجابة عن سؤال في ما إذا كانت المحميات الفلسطينية (المعازل) مجرد "حادثة" أو "تلاحق أحداث" جاءت ردا على عدم التزام الفلسطينيين بالاتفاق، أم أنها نتاج مخطط سري تمت حياكته بموازاة المفاوضات الرسمية وتحت غطاء معسول كلمات السلام والازدهار.

وتتساءل هس في ما إذا كان قد تم حياكة هذا المخطط بعد مقتل رابين، في فترة ولاية بيرس وبعده نتنياهو وبراك، أم قبل ذلك؟ وفي أي مستوى سياسي، هل في مستوى رؤساء حكومة أم وحدة تنسيق المناطق في الجيش الإسرائيلي ومجلس المستوطنات، وتجيب عن ذلك بالقول، إنها لن تنتظر حتى تكشف الوثائق المخفية عن وجود توجيهات واضحة ومكتوبة وتشير إلى الجهة الصادرة عنها؛.. لأنها استنتجت منذ الأشهر الأولى لانطلاق الاتفاق وفي زمن ولاية رابين، أن إسرائيل تتجه لفرض الاستسلام على الفلسطينيين وليس صنع السلام معهم.

وتقرر الصحافية الإسرائيلية التقدمية، أنها كانت لتصيغ ذلك بلغة اليوم كالتالي، أن "واقع الجيوب (المعازل) الفلسطينية هي نتاج تخطيط إسرائيلي واع ومقصود تمتد جذوره إلى تقاليد وأفكار ومؤسسات وآليات عمل كانت قائمة قبل قيام الدولة"، وأن "الجيوب (المعازل) الفلسطينية هي تسوية إسرائيلية داخلية بين الرغبة في اختفاء الفلسطينيين بالمطلق وبين الإدراك بأنه - ولأسباب جيوسياسية - لا يمكن تكرار ما حصل عام 48 من طرد الفلسطينيين، لذلك فإن الحل هو عزلهم في جيوب (معازل)"، مشيرة إلى أن "الخلاف بين المعسكرات الصهيونية المختلفة لا يكمن حول الماهية، بل حول عدد الجيوب الفلسطينية وحجم كل منها".

وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى "الأسرار الأمنية" التي تستدعي حجب وثائق مرتبطة باتفاق أوسلو لـ20 سنة أخرى، خاصة وأن الحديث يجري عن "اتفاق سلام" وليس عن معركة عسكرية أو حرب، على غرار حرب أكتوبر أو حرب لبنان الأولى، إلا إذا أرادت إسرائيل إخفاء "مؤامرة" معينة جرت خلف الكواليس، ومن وراء ظهر الفلسطينيين، وهي بانتظار رحيل الجيل الذي عاصر الاتفاق لكشفها.

ومع مرور ثلاثة عقود على أوسلو وإفرازاته على الأرض، يتعاظم الإدراك بحقيقة النوايا الجوهرية لدى أبطاله الإسرائيليين، رابين وبيرس، خاصة في ضوء تمسك معارضيه من رؤساء حكومات متعاقبة، شارون وأولمرت ونتنياهو، بالاتفاق، ومحافظتهم على "المبنى السلطوي" الذي خلقه، ليس لأن أوسلو فُرِضَ عليهم، ولا من باب احترام التزامات إسرائيل (إذ أن شارون دمر السلطة الفلسطينية من أساسها، فقط ليعيد بنائها من جديد)، كما يكتب الصحافي نوعام شيزف في تقرير نشرته "هآرتس"، "بل لأن الواقع الذي خلقه أوسلو، هو من جهتهم، أفضل من البدائل الأخرى المتمثلة بالضم أو السيطرة المباشرة على الأراضي المحتلة".

تقرير "هآرتس" الذي جاء تحت عنوان "لماذا يحافظ معارضو أوسلو، أيضا، على الواقع السياسي الذي خلقه"، لم يجد أفضل تعبيرا من جواب شمعون بيرس ليشعياهو ليبوبيتش، في محادثة هاتفية بين الاثنين بعد توقيع الاتفاق (نشرتها "معاريف" في حينها واقتبسها رون بونداك، أحد مهندسي الاتفاق في كتابه " قناة سرية")، حيث يقول بيرس إنها "مفاوضات تدور دون أن يغصبنا أحد عليها، فليس لدى الفلسطينيين ما يقدمونه لنا، ليس لديهم أرض وليس لديهم صلاحية وليس لديهم إمكانيات وليس لديهم جيش... إنها مفاوضات يديرها ‘شعب إسرائيل‘ مع نفسه".

وفي تفسيره لأقوال بيرس، يقول الكاتب إنه "تشخيص دقيق يقف في مركزه الاعتراف بأن المسألة الفلسطينية قضية إسرائيلية داخلية، حيث عاش غالبية الفلسطينيين منذ عام 1967 تحت السيادة الإسرائيلية، في قلب دولة إسرائيل تقريبا"، معتبرا أن "الاتصالات التي دارت بين ممثلي حكومة إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية في سنوات التسعين، لم تكن حول الحدود والأرض، كتلك التي دارت مقابل مصر أو سورية، بل هي مفاوضات بين سلطة دولة وممثلي رعاياها".

كما أن تلك الاتصالات تمحورت أساسا في مسألة طابع دولة إسرائيل، هل تتفكك إلى دولتين؟ أو أنها تواصل إقامة حكم عسكري داخلها على غالبية السكان الفلسطينيين داخل حدودها... وهو تفسير يتقاطع مع تحليل عميرة هس، الذي يرى في الجيوب الفلسطينية (معازل) بمثابة تسوية إسرائيلية داخلية تخفي الفلسطينيين دون الحاجة إلى طردهم ماديا.

هس التي عنونت مقالها "أوسلو ليس فشلا بل ربحا صافيا لإسرائيل"، ترى أن اتفاق أوسلو فتح أبواب الأسواق العالمية والعربية أمام المنتجين والتجار الإسرائيليين، وساهم في انخراط الاقتصاد الإسرائيلي في السوق النيوليبرالية العالمية، كما أنه أعفى إسرائيل من مسؤوليتها كدولة محتلة عن السكان الواقعين تحت الاحتلال، في الوقت الذي احتفظت فيه بتسمين صلاحيات السيطرة على الأرض والمياه، الحيز الكهرومغناطيسي، الجو ، حرية الحركة، الاقتصاد والحدود، كما أنها واصلت جني الأرباح من سيطرتها على الفلسطينيين واستمرت باستخدامهم كمختبر بشري لتجريب أسلحتها التي تحصد من تصديرها أرباحا هائلة.

هذا ناهيك عن أن الفلسطينيين، برأيها، يشكلون بالنسبة لإسرائيل مخزونا لقوة العمل الرخيصة والمربحة، إضافة إلى أنها تعيد جزءا كبيرا من تكلفة الاحتلال للفلسطينيين على شكل خدمات واحتياجات يضطرون لشرائها منها لأنهم غير قادرين على تطوير وإنتاج مستقل، بسبب سيطرة إسرائيل على الأرض والحدود والمعاملات الاقتصادية.

كما أن الدول الغربية أعفت، بعد أوسلو، إسرائيل من التزاماتها المالية كقوة محتلة ومولت جزءا كبيرا من نفقات الإدارة والصيانة والتطوير المحدود للجيوب (المعازل) الفلسطينية، بادعاء أن ذلك ضروريا لإقامة دولة فلسطينية، وعندما ملت في السنوات الأخيرة من تمويل الاحتلال ومشكلاته، أصبحت تعاقب الفلسطينيين بتقنين هذا الدعم، في وقت توقع فيه على اتفاقات اقتصادية وعلمية وعسكرية سخية مع إسرائيل.

لكل رغم هذه الأسباب إضافة إلى تعاظم الاستيطان وعزل قطاع غزة وقطع القدس عن الضفة الغربية والسيطرة على السجل السكاني الفلسطيني، فإن اتفاق أوسلو لم ينهار بل أنه حقق برأي هس، نجاحا فوق العادة، بينما يستغرب الصحافي نوعام شيزف كيف تتحول ذكرى الاتفاق في إسرائيل إلى "حفلة سياسية تنكرية تزداد عبثية سنة بعد أخرى، حيث يذرف ‘اليسار‘ خلالها دموع الحنين إلى الماضي، رغم أن أوسلو تحول إلى جهاز سيطرة وأبارتهايد، بينما يهاجم اليمين الاتفاق الذي طورت إسرائيل تحت مظلته المستوطنات وتقوم بـ‘تطهير‘ 60% من الضفة الغربية من الفلسطينيين".

التعليقات