28/09/2023 - 21:08

"المستوطنون يغزون قلب تل أبيب"

تعريف إسرائيل كدولة يهودية هو شرعنة للتمييز؛ فإذا كانت يهودية فإن سكانها اليهود يستحقون فائضا في الحقوق أكثر من العرب؛ وإذا كانت يهودية فهناك شرعية لفرض العادات والتقاليد الدينية على العلمانيين؛ وكذلك يمكن شرعنة الاحتلال والأبارتهايد.

أعلام الليكود وحركة "كاخ" الإرهابية في مظاهرات مؤيدة لليمين في تل أبيب (Getty Images)

"دولة تل أبيب" التي يمكن اعتبارها مجازا "دولة ما بعد الاستعمار الاستيطاني" والتي تأسست على القيم الليبرالية للصهيونية العلمانية، وشكلت وما زالت المركز الاقتصادي والثقافي لـ"امبراطورية إسرائيل" بتنوعها الديمغرافي والجغرافي، والتي تمتد فعليا من البحر إلى النهر، وأصبحت تبسط هيمنتها السياسية "من النيل إلى الفرات".

لم تعتقد "دولة تل أبيب" عندما تركت استكمال المهمة القذرة في بسط المشروع الاستعماري على الجزء المحتل من فلسطين عام 67، لـ"الصهيونية الدينية" وحلفائها من شرقيين وحريديين، بكل ما يمثله هذا المزيج من "غريم تاريخي" لاقى ما لاقاه من "اضطهاد" وتهميش في بدايات المشروع الصهيوني، أن ذلك سيعود عليها كيدا مرتدا إلى قلب تل أبيب المعقل الحصين للصهيونية الليبرالية.

وللمفارقة، فإن من يقف في مقدمة المنظمة المسماة "هروش يهودي" (رأس اليهودي)، التي كانت وراء إقامة صلوات "الغفران" الخالية من النساء في ميدان "ديزنغوف" وسط تل أبيب، هو يوسي زعيرا، مدير المدرسة الدينية الاستيطانية "شافي حفرون" في الخليل في التسعينيات، والمساعد البرلماني لعضو الكنيست حنان بورات، الذي كان أحد رموز حركة الاستيطان.

وزعيرا كان أحد مؤسسي القناة 20 التي تحولت اليوم إلى القناة 14 المتطرفة، وهو تاجر عقارات وصاحب شركة "بأمونة" التي تعمل على تشجيع عائلات متدينة للانتقال للسكن في قلب تل أبيب من خلال وسائل دعم مختلفة، بينها المشاركة في ثلث أجر الشقق السكنية للمنتقلين.

وتنشط جمعية "رأس يهودي" منذ تأسيسها عام 2000 في "التثقيف التوراتي" و"تعزيز الهوية اليهودية" وهي تتمتع بميزانية تبلغ ملايين الشواكل بعضها يأتي من مخصصات حكومية رسمية، بينما تندرج فكرة ونشاط الجمعية على ما يبدو في الجهد الاستيطاني المسمى "استيطان القلوب"، والذي يضم العديد من "الأنوية التوراتية" التي يشغلها مستوطنون قدموا من مستوطنات الضفة الغربية للاستيطان في قلب المدن الإسرائيلية، خاصة التاريخية منها، مثل اللد والرملة وعكا وغيرها، وهو جهد يهدف إلى تمكين الاستيطان وربط أواصره على جانبي الخط الأخضر.

في هذا السياق، يقول زعيرا ساخرا: "نحن نحقق حلم اليسار في إعادة المستوطنين إلى بيوتهم"، وعن استهداف تل أبيب بالذات يقول إنها" ساحة التأثير الثقافي والجماهيري والإعلامي والقضائي والأكاديمي، وفيها تقرر الأمور، ولذلك من المهم التواجد بها"، بينما تقول إحدى ساكنات "ديزنغوف" إنها بدأت تشاهد أنماطا بشرية شبيهة بأنماط "كريات أربع".

ويبدو أن القضية هي أبعد من ذلك، وترتبط باقتحام المعقل العلماني الليبرالي الحصين، في إطار تمدد "الصهيونية الدينية" ومحاولات سيطرتها على مواقع التأثير في المشروع الاستعماري المتجدد وتصدر قيادته، وهو ما يفضي إلى التجاذبات والتوترات التي تشهدها شوارع إسرائيل وساحاتها القضائية والسياسية.

"الجمع العبثي" بين القطبين المتناقضين "اليهودية" و"الديمقراطية" في تعريف الدولة والذي بات يبدو كأنه صيغة وسط بين الطرفين المتناحرين، هو ليس كذلك في الحقيقة، بل إن مشكلة من يسمون أنفسهم علمانيين وليبراليين، تكمن في تمسكهم باليهودية حتى العظم، حتى لو كان ذلك على حساب الديمقراطية، ويكفي التذكير بتهديد المحكمة العليا، التي يعتبرونها "مناررة" الليبرالية الإسرائيلية، بإخراج التجمع الوطني الديمقراطي عن القانون، إذا ما واصل طرح قانون "دولة كل مواطنيها"، بادعاء أنه يقوض يهودية الدولة.

في هذا السياق، كتب هذا الأسبوع محرر صحيفة "هآرتس"، ألوف بن، أن "تعريف يهودية الدولة، يفتح بابا واسعا ليس فقط أمام التمييز القضائي بين اليهود والعرب من قانون النكبة وحتى قانون القومية، بل يسحب هذا التمييز ليشمل العلمانيين والنساء والمثليين".

ويتعلق اليمين، على حد قوله، بتعريف إسرائيل كدولة يهودية لشرعنة التمييز، فإذا كانت إسرائيل دولة يهودية، من وجهة نظره، فإن سكانها اليهود يستحقون فائضا في الحقوق أكثر من العرب، وإذا كانت إسرائيل يهودية فهناك شرعية لفرض العادات والتقاليد الدينية على العلمانيين، وكذلك الاحتلال والأبارتهايد في الأراضي المحتلة شرعيان، لأن دولة يهودية غير مجبرة على منح المواطنة المتساوية لرعاياها غير اليهود.

مقاله بن التي جاءت تحت عنوان "آن الأوان لشطب اليهودية من تعريف الدولة" ذيلت بالإشارة إلى اللغم الذي وضعه بن غوريون من خلال تعريف إسرائيل كدولة يهودية وليست دولة يعيش فيها اليهود؛ لغم يهدد انفجاره بتمزيق مشروع حياته إلى شقف.

التعليقات