04/10/2023 - 18:06

عن تسلُّط السّلطة المحليّة

السلطة المحلية ليست مُهدَّدة بقدر ما صارت مصدر تهديد، حيث الطمع والجشع بمواردها، والصراع على الوظائف الحيوية فيها، ووضع اليد على العطاءات والمناقصات؛ كلّ ذلك بات يحتكم إلى مسطرة العنف والترهيب.

عن تسلُّط السّلطة المحليّة

منظر عام لمدينة الناصرة (توضيحية - Getty Images)

أسابيع قليلة تفصل قرى وبلدات مجتمعنا العربي عن انتخابات السلطات المحلية. والمعروف أن تفاعُل أبناء وبنات مجتمعنا مع انتخابات الحكم المحلي أكبر وأقوى لناحية نسبة التصويت، مقارنة بنسبتها في انتخابات الكنيست، إذ تتخطى نسبة التصويت في انتخابات السلطات المحلية 95% في معظم القرى والبلدات العربية، بينما النسبة في انتخابات الكنيست أقل من ذلك دائما بكثير.

للتذكير، فإن مردّ اهتمام أبناء وبنات مجتمعنا العربي بانتخابات الحكم المحلي والخروج بنِسب تصويت عالية إلى صناديقها، ليس لأن سؤال الحكم المحلي متصل بالتنافس والنزاع الحمائلي والعائلي وكذلك الطائفي في بعض البلدات على الوجاهة الاجتماعية والتزعم المحلي للسلطة فقط. فهذا سبب صحيح، غير أنه ليس الوحيد، فاشتباك الحكم المحلي مع مطلب الموارد والخدمات ومواقع التشغيل محليا، هو ما يجعل سلطة الحكم المحلي مسألة ذات علاقة حيّة ويومية ومباشرة أكثر في حياة "المواطن" العربي وبنظره.

مع ذلك، تبدو حملة انتخابات السلطات المحلية القادمة والمُزمع عقدها في نهاية تشرين الأول/ نوفمبر الجاري، أقل تفاعلا وزخما، لا بل وإرباكا من أي مرة سابقة في كثير من البلدات والقرى العربية. ففي حديثنا إلى بعض الاستشاريين المرافقين لبعض مرشحي رئاسة البلديات والمجالس المحلية، أشاروا بحسب استطلاعات داخلية قاموا بها إلى مؤشر انخفاض نسبة التصويت في الانتخابات القادمة في بعض البلدات والمدن العربية مثل مدينة الناصرة، حيث سيقاطع ما يقارب 30% من أهالي المدينة الانتخابات، لأسباب متصلة بالمناخ الانتخابي في المدينة على رئاسة البلدية. وينسحب ذلك على عدة بلدات ومدن، خصوصا البلدات ذات التعداد السكاني العالي.

السّلطة المحليّة رافدا للعنف

لم يجرِ أن انسحب مرشحون في سباق رئاسة الحكم المحلي، مثلما جرى وانسحب من الانتخابات الحالية القادمة، إذ انسحب أبرز منافسي رئيس بلدية الناصرة الحالي من سباق التنافس على كرسي رئاسة البلدية بعد تهديده بالقتل، ثم محاولة قتله فعلا. وكذلك في كفر ياسيف القرية التي كانت مضرب مثل في الأمن والأمان والسيرة المُشعة لمهنية إدارة الحكم المحلي تاريخيا فيها، عدا عن فاعلية الأحزاب السياسية والوطنية في تأسيس وبناء الحكم المحلي في القرية، فقد انسحب أحد أبرز مرشحي الرئاسة في كفر ياسيف ومعه خمس قوائم للعضوية من سباق المنافسة، بسبب أحداث العنف المتصل بعالم الجريمة. والقائمة تطول طبعا، إذ تراجع وتخلّى كثيرون عن ترشحهم بعد تهديدهم. هذه الحالة المتكررة في أكثر من بلدة وقرية عربية، يمكننا اعتبارها سابقة تاريخية، إذ لم يسبق أن كان موقع رئاسة الحكم المحلي محفوفا بهذا المستوى من الخوف والخطر.

إن القول بتسلُّل منظمات العنف والجريمة إلى السلطات المحلية والتدخل في انتخاباتها بغرض الطمع والاستئثار في مواردها المالية قول صحيح، خصوصا أن بعض جرائم القتل التي وقعت في العام الجاري، كانت على خلفية خِلاف متعلق بالسلطة المحلية، ومن بين ضحاياها موظفون عاملون في البلديات أو المجالس المحلية. غير أن الأصح من ذلك، ليس في تدخُّل منظمات العنف والجريمة في السلطة المحلية، بقدر ما أن السلطة المحلية في بعض المدن والقرى باتت موقعا لإنتاج العنف، لا بل بعض رؤساء البلديات والمجالس المحلية في مجتمعنا، باتوا لا يقلّون تهديدا في عنفهم و"سلبطتهم" عن منظمات العنف الجريمة، ومن بينهم متورطون حرفيا بأعمال عنف، فيها ما فيها من التهديد والتحريض.

ما نودّ أن نخلص إليه، أن السلطة المحلية ليست مُهدَّدة بقدر ما صارت مصدر تهديد، حيث الطمع والجشع بمواردها، والصراع على الوظائف الحيوية فيها، ووضع اليد على العطاءات والمناقصات؛ كلّ ذلك بات يحتكم إلى مسطرة العنف والترهيب في غير مدينة وبلدة عربية. بينما يقابل ذلك تراجع دور كثير من القوى السياسية الحزبية والوطنية في كثير من المدن والبلدات العربية عن سباق انتخابات الحكم المحلي، لا بل واختفائها تماما في بعضها. تلك القوى التي حملت على كاهلها تاريخيا طرح برامج سياسية ورؤى إدارية للحكم المحلي، متجاوزةً الاستقطاب العائلي – الحمائلي والطائفي. هذا ما يفسر، قنوط الحملات الانتخابية في كثير من مدن وبلدات مجتمعنا العربي. قنوط مصدره الخوف والإرباك وفقدان الجدوى والثقة، أكثر مما هو برود وعدم اكتراث للحد الذي لا يُستبعد فيه هبوط نسبة التصويت، وعزوف عن المشاركة في العملية الانتخابية في كثير من المدن والقرى.

عن مسار تاريخيّ

لم يأتِ الوضع القائم حاليا في السلطات المحلية من الحائط طبعا، إنما ما نشهده هو تحصيل حاصل لعملية تمرحلت على مدار أكثر من عقدين من الزمن إلى أن صار الأمر على ما هو عليه اليوم. فنحن أمام سياسة مرسومة ومُصمَّمة على يد أجهزة الدولة العبرية منذ مطلع الألفية الحالية وتحديدا ما بعد الانتفاضة الثانية وهبّة الأقصى، حيث جرى العمل على تمكين مؤسسة الحكم المحلي "السلطات المحلية" عبر ضخ ميزانيات موارد مالية لأغراض مختلفة من بينها تكثيف مركزية سلطة الحكم المحلي داخل المجتمع العربي في مواجهة القوى والمؤسسات القُطرية والوطنية، للحد الذي صارت فيه أخبار أي بلدية في أي بلدة عربية أهم من أخبار لجنة المتابعة التي لم تعد قادرة على صناعة خبر أصلا.

هذا المسار لهذه السياسة في تعزيز مركزية الحكم المحلي، لم ينتج السلطة المحلية بوصفها مصدرا للسلب والنهب فقط، بل الأخطر كان في محاولة هذه السياسة خلق قيادة في مجتمعنا العربي، بديلة عن القيادات الحزبية والوطنية القطرية خلال العقد الأخير، أو خلق قيادة حزبية قطرية على شكل رؤساء بلديات ومجالس محلية، لا همَّ لهُم غير هَمِّ الموارد والميزانيات –على أهميتها طبعا– عبر طرق مختصرة، مثل الأسرلة السياسية والتورط في مسار التحول لـ"أحزاب سلطوية"، فرأينا ما رأيناه من مشاريع سياسية مشوّهة في السنوات الأخيرة.

ما نريد أن نخلص إليه عن هذه السياسة، هو أن مركزية الحكم المحلي لم تؤثر في مفهوم السلطة المحلية ودورها فقط، بل في المخيال السياسي القطري العام، والعلاقة مع أجهزة الدولة وسياساتها، في مقابل تراجع القوى الحزبية والوطنية عن دورها التاريخي وهبوطها إلى منطق سلطات الحكم المحلي. ثم دخول سلطة الحكم المحلي دائرة الجريمة وليس العنف فقط، فالعنف المجتمعي الاجتماعي قائم تاريخيا في المنافسة على تزعم رئاسة الحكم المحلي في المدن والبلدات العربية، بينما الجريمة على خلفية وضع اليد على موارد ومقدرات السلطة المحلية على تواضعها، هو الجديد في الأمر.

في الأخير، لا تكشفنا الانتخابات على سؤال الاقتراع والصناديق فقط، بقدر ما أنها تكشفنا على أسئلة متصلة بالمجتمع عموما، فالمناخ الانتخابي الحالي في غير مدينة وبلدة عربية، بكل ما يشوبه من خوف وفقدان للثقة جرّاء الفساد والسلبطة، يبين لنا الشكل الذي صار يشتغل عليه منطق الحكم المحلي فينا.

التعليقات