01/11/2023 - 03:59

حرب استنزاف وتنكيل بغزة وأهلها

ذهاب إسرائيل إلى عملية برية واسعة يعني أنها أرجأت ملف الرهائن والأسرى إلى مرحلة لاحقة، واعتقادها بأن منع تزويد القطاع بالوقود في الوقت الراهن سيؤدي لـ"خنقهم في الأنفاق" واستسلام مقاتلي القسام ثم قتلهم

حرب استنزاف وتنكيل بغزة وأهلها

خان يونس، 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 (gettyimages)

بدأت إسرائيل توغلها البري مساء يوم الجمعة الماضي، وإن لم تطلق عليه تسمية التوغل وإنما بالعمليات وقتها، والتعتيم عليه وبالضبابية وقطع الاتصالات والإنترنت عن قطاع غزة، ومنعت الصحافيين من تسمية ما يجري على أنه توغل، وذلك ربما لسببين أو ثلاثة: عدم إثارة أهالي المختطفين والأسرى في غزة؛ عدم اليقين من القادم على أرض غزة و"سيولة" الخطط والخطوات، ومحاولة "تعمية الخصم"؛ وعدم استفزاز حزب الله بأن التوغل قد بدأ، رغم أنها جندت دعمًا من قِبل الولايات المتحدة بتواجدها غير المسبوق في المنطقة منذ غزو العراق للكويت في العام 1990. لكن يمكن إيجاز ما تقوم به بحرب استنزاف وإنهاك المدنيين في غزة، بهدف "خنق المقاومة في الأنفاق".

لقد رفعت إسرائيل سقف التوقعات من التوغل البري لدى شعبها، فيما حددت أهدافًا للحرب بإسقاط حكم حماس والقضاء على القدرات العسكرية، مدفوعة برغبة الجيش لاستعادة كرامته، بعد ما حصل في السابع من أكتوبر، وهو ما جعل قضية المختطفين والأسرى في غزة قضية ثانوية في حساباتهم، بل إن معلومات أكدت أن بدء التوغل البري يوم الجمعة، قد عطّل المفاوضات لتحرير مجموعة من المختطفين المدنيين. وتزعم إسرائيل أن التوغل البري سيزيد من فرص تبادل الأسرى، لكن هذا ذرُّ للرماد في عيون الإسرائيليين، وهذا يعني إن صح زعمها بأنها تفاوِض بالقتل والدمار، وهي بموازاة ذلك تقوم بابتزاز كل الأطراف بالمساعدات الإنسانية.

وهو استنزاف وإنهاك تنقله هذه الأيام إلى التوغل البري، بحيث تريد استنزاف وإنهاك المقاومين في الأنفاق وخارجها لأطول فترة ممكنة؛ ثلاثة شهور وفق مطلعين على نوايا الجيش، حتى "يختنقوا"، وآخرون يقولون ما بين ستة أسابيع لستة أشهر، حتى الوصول لمدينة غزة والسيطرة عليها، وهي التي يعتبر الجيش أنها مركز أعصاب القيادة العسكرية في القسام، فيما يقول رئيس سابق لشعبة الاستخبارات لصحافيين أجانب إن إسرائيل تسعى لقتل 10 آلاف على الأقل من مجموع 30 ألف مقاتل في القسام، وهذا يعني استمرار القتل الجماعي. فما هي آلية تحديد المقاتل من المدني، وما آلية إحصاء ذلك وتأكيد تحقيق الهدف؟ أليس في إسرائيل إجماع بأن لا فرق بين مدني وقسامي في غزة... أليسوا جميعا أهدافا مشروعة؟

هذا الاستنزاف مجازفة بكل الأحوال، لأن العالم لا يعمل بتوقيت إسرائيل وقد تتّسع الحرب إلى الشمال ومناطق أبعد، والأهم أنه يعقّد قضية المختطفين والأسرى وينقلهم إلى مصير مجهول. هذه القضية – مصير المختطفين والأسرى الإسرائيليين – تحولت في الأيام الماضية إلى أولوية في الرأي العام الإسرائيلي وفي الإعلام (وتستغل حماس ذلك من خلال الفيديوهات والتصريحات)، لأن عددهم كبير جدًا، وبينهم أطفال، ولأن أهاليهم يدركون أن أولوية الجيش والحكومة هي تحقيق أهداف الحرب بما يتعلق بحماس، ولا تعتبر تحريرهم أولوية عُليا، حتى لو قالت ذلك.

قد تكون قضية المختطفين منفذًا لهدن إنسانية، وربما لتسوية مؤقتة تتعلق بقطاع غزة، وتسرع بذلك، وهو ما لا تريده إسرائيل، أو المؤسسة العسكرية تحديدًا، وهذا قد يؤثر في موقف الولايات المتحدة واعتباراتها. في المقابل، أبدت حماس استعدادها لعملية تبادل جزئية أو شاملة، لأن ذلك قد يعلق العدوان وينهيه.

في الأيام القادمة قد نسمع عن أفكار لمبادرات تسوية مؤقتة، لكنها لن تنهي الحرب قريبًا، فالتعنت الإسرائيلي والرغبة باستعادة الكرامة قد يوسع الحرب، ففيها متغيرات عديدة ومتناقضة، وليس لدى أي من الأطراف قدرة على التخمين أو السيطرة عليها كلها.

يمكن ترجمة الأهداف الإسرائيلية إلى لغة واقعية وإن لم تفعل هي ذلك؛ أولًا، ضمان الأمن لفترة طويلة الأمد وعدم تكرار ما حدث في السابع في أكتوبر، على حدودها الجنوبية والشمالية، بحيث تقنع سكان هذه المناطق الذين أخلوها، وتحديدًا في مستوطنات "غلاف غزة"، بالعودة إليها، وهذا أمر ضروري وفق أهدافها، وحاليا بنظرها لا يمكن تحقيق ذلك إلا بالقوة والقضاء على حماس (تغيير الواقع الأمني في القطاع)، لكن نتائج ذلك غير مضمونة.

وثانيًا والأقل أهمية، ضمان مصير المختطفين والأسرى وتحريرهم بأقل التكاليف والأثمان، وهو هدف ثانوي.

ثالثًا والأهم، استعادة صورتها عن نفسها (وثقتها بنفسها وثقة شعبها) وصورتها في محيطها والعالم كله، ما يتجاوز الردع، "الصورة الأسطورية الخارقة". لكن عليها أن تدرك، أن مشكلتها ليست خارجية، بل داخلية أو ذاتية مثل سياسات الحصار والتهجير، إضافة للشروخ الداخلية، وسوف تزيد هذه التصدعات بعد الحرب وربما خلالها، لأن نتنياهو لا يوفر لحظة في استثمارها لبقاء عرشه، وهو فعل ذلك حتى خلال أيام الحرب.

ذهاب إسرائيل إلى عملية برية واسعة يعني أنها أرجأت ملف الرهائن والأسرى إلى مرحلة لاحقة، واعتقادها بأن منع تزويد القطاع بالوقود في الوقت الراهن سيؤدي لـ"خنقهم في الأنفاق" واستسلام مقاتلي القسام ثم قتلهم، كما قال تساحي هنغبي، أو تحويل دخول الوقود إلى ورقة مقايضة بأسرى، هي مجازفات وإيغال بالقتل والتدمير، لا يقابلها للأسف موقف عربي يدفع لإنهاء الحرب، وإنما يقتصر حاليًا على مطالب إدخال مساعدات، أو بإصدار قرار من الأمم المتحدة لا يُلزم أي طرف.

تريد إسرائيل "خنق" المقاتلين من القسام في الأنفاق، لكنها تخنق أي حلّ، وتزج نفسها في ورطة استننزاف قد تطول، لأن المقاومين ليسوا "دواعش" طارئين من الخارج إلى الموصل، بل هم أبناء بيئتهم وخرجوا منها ومن ظروفها. إنهاء الحرب ممكن إذا أراد العرب وأصرّوا على ذلك. إسرائيل تريد أن تقابل "سكرة القوة" لدى حماس كما تسميها، بـ"سكرة قوة" موازية، لكن العرب يطالبون ويناشدون.

معبر رفح هو معبر مصري - فلسطيني، لماذا يجب أن يخضع لحسابات الاستنزاف الإسرائيلية، فإن "فتحه" لإدخال المساعدات والوقود، قد يمنع حربًا أوسع قادمة، لا يريدها أحد، ويخفف من معاناة الفلسطينيين.

التعليقات