05/11/2023 - 18:32

عن الإعلام الإسرائيليّ الإباديّ

ما نشهده حاليًّا، أي منذ السابع من أكتوبر، في المنابر الإعلاميّة الإسرائيليّة هو أمر غير مسبوق في تاريخ نظام الأبرتهايد. فقد اصطفّ الإعلام الإسرائيليّ كلّه وراء السرديّة الرسميّة، ومنع أيّ صوت يقول أمرًا مختلفًا

عن الإعلام الإسرائيليّ الإباديّ

(Getty)

يضطرّ الإعلاميّون الفلسطينيّون، وفي مقدّمتهم إعلاميّو وكتّاب المقالات السياسيّة داخل الخطّ الأخضر، الّذين يتقنون اللغة العبريّة، متابعة وسائل الإعلام الإسرائيليّة، المقروءة والمسموعة بصورة منتظمة، بما يخدم فهمهم وتحليلاتهم للشأن الإسرائيليّ لعلاقته الكولونياليّة الصراعيّة مع فلسطين.

وفي زمن المواجهات أو الحروب، تنطوي المتابعة على معاناة حقيقيّة، لأنّ الجرعات العدوانيّة والكراهية الّتي تبثّ عبر هذا الإعلام ضدّ الفلسطينيّين أينما كانوا تتعاظم، وتصبح هذه المتابعة أكثر صعوبة ومعاناة للّذين يستضافون من ممثّلي الجمهور الفلسطينيّ داخل الخطّ الأخضر، بحيث يتعرّضون لمحاولات ابتزاز مواقف غير الّتي يؤمنون بها، مع أنّ أغلبهم تمرّسوا في هذا الميدان، واستطاعوا الصمود وصدّ المحاولات. وتحوّل بعضهم إلى نجوم إعلاميّين، بعضهم بحقّ وبعضهم الآخر بغير حقّ.

ما معناه أن ليس كلّ نجم إعلاميّ تحصل على هذه الميزة لكونه يطرح رؤية مبدئيّة وحكيمة، بل ربّما بسبب التماشي مع ما هو متوقّع منه إسرائيليًّا، أي "العربيّ المعتدل".

على كلّ، ليست معاناة الإعلاميّين أو ممثّلي الجمهور الفلسطينيّ القضيّة أو الموضوع، بل ندرج ذلك كوصف للواقع الإعلاميّ والمجتمعيّ للدولة والمجتمع الإسرائيليّ الّذي نشهده في هذه الأيّام.

فما نشهده حاليًّا، أي منذ السابع من أكتوبر، في المنابر الإعلاميّة الإسرائيليّة هو أمر غير مسبوق في تاريخ نظام الأبرتهايد. فقد اصطفّ الإعلام الإسرائيليّ كلّه وراء السرديّة الرسميّة، ومنع أيّ صوت يقول أمرًا مختلفًا، أو يحاول أن يستأنف على هذه السرديّة الّتي تخرج كلّ ما جرى من السياق التاريخيّ والسياسيّ. ليس هذا فحسب، بل يهلّل ويحثّ على تصعيد حرب الإبادة الشاملة الّتي تنفّذها إسرائيل بدعم ومشاركة الإمبرياليّة الأميركيّة في سجن قطاع غزّة الكبير.

ويتجلّى ذلك شكليًّا في غياب الصوت العربيّ من أيّ برنامج تلفزيونيّ إخباريّ أو تحليليّ، وبدل ذلك يستضاف أفراد قلائل ممّن تماهوا مع هذه السرديّة أو مستعدّون لإدانة المقاومة الفلسطينيّة كفعل إرهابيّ. بل إنّ هذا الإعلام يرفض حتّى من يطالب بإنهاء الحرب فورًا، لأنّ ذلك يفسّر كخدمة لحركة حماس، وليس كون هذه الحرب غير شرعيّة دوليًّا ووحشيّة، لأنّها تحصد آلاف الأطفال والمدنيّين الأبرياء فضلًا عن كونها تزرع المزيد من الكراهية والعنصريّة، والّتي من شأنها أن تؤسّس لجولات دمويّة أخرى قادمة أشدّ عنفًا وأكثر اتّساعًا، وتبعد أيّ فرصة لتحقيق العدالة والحرّيّة والسلام الدائم والتعايش المشترك في فلسطين، بديلًا لنظام الأبرتهايد الكولونياليّ.

كما أنّ حملة كمّ الأفواه وتطبيق حملة قمع شديدة الوطأة لحرّيّة التعبير والتظاهر بين المواطنين الفلسطينيّين، يتمّ تجاهلها بالكامل، بل تحظى بتأييد جارف من هذا الإعلام.

إنّه لأمر لا يصدّقه العقل حين تشاهد صحافيّين على شاشات القنوات التلفزيونيّة العبريّة، وتستمع للإذاعات، وتقرأ على صفحات السوشال ميديا، يدعون وبرعونة المهووسين إلى مواصلة حرب الإبادة بلا توقّف حتّى تختفي غزّة من الوجود. ووسط هذا الجنون لا يعترض أحد، أو يتساءل عمّا يمكن أن يولّده هذا الخطاب الإباديّ، والتعبئة اليوميّة لهذه الأفكار الجهنّميّة، من تعميق للتشوّه الأخلاقيّ والانغلاق على كلّ قيمة إنسانيّة أو أخلاقيّة.

وفي إطار استعراض الانتفاضات الشعبيّة العالميّة، وخاصّة في الدول المتحالفة مع إسرائيل، الداعية لوقف حرب الإبادة ومنح الحرّيّة وحقّ تقرير المصير للفلسطينيّين، يعبّر الصحافيّون والمحلّلون الإسرائيليّون عن خيبة أملهم من هذه الجماهير والحركات الاحتجاجيّة، الّتي باتت ترى فلسطين والنضال من أجل العدالة للشعب الفلسطينيّ امتدادًا لحركاتهم ونضالاتهم لتحقيق العدالة في بلادهم، وفي الكون كلّه.

ويظهر صحافيّ في برنامج تلفزيونيّ، عائد توًّا من ألمانيا، معبّرًا عن إحباطه الشديد، قائلًا إنّه ليس مفهومًا كيف أنّ ألمانيا منعت هذه المظاهرات، ثمّ تخرج الآلاف المـؤلّفة في شوارع برلين ودوسلدورف وغيرها من المدن، متعاطفة مع الفلسطينيّين. ويواصل قائلًا، حتّى في بريطانيا حيث حزب الحكومة وحزب العمل المعارض، يساندا إسرائيل بلا تحفّظ، يخرج هناك عشرات الآلاف رغم القيود الّتي فرضت على التظاهر ورفع العلم الفلسطينيّ.

بعض الصحافيّين يعزّون ذلك إلى التقصير والفشل من قبل وزارة الخارجيّة الإسرائيليّة، وبعض آخر يفسّر ذلك الطوفان الجماهيريّ العالميّ، بوصول صور الأطفال الفلسطينيّين الممزّقة أشلاءهم في كلّ لحظة إلى السوشال ميديا، والّتي كلّ صورة تساوي مليون كلمة كما يستنتج بعضهم.

هؤلاء يتجاهلون، أو أنّهم بسبب حالة الجنون الّتي ألمّت بهم، لا يستوعبون ما يصرّح به قادة إسرائيل أنفسهم، وفي مقدّمتهم بنيامين نتنياهو، عن ضرورة مواصلة الإبادة والطرد والتهجير، وهي التصريحات والّتي حسب منظّمات حقوق الإنسان شهادات دامغة على النوايا الحقيقيّة والمخطّطة سلفًا، وقد باشرت هذه المنظّمات بتوثيق هذه التصريحات تحضيرًا ليوم الدين.

فكيف يمكن لهؤلاء أن يتوقّعوا من شعوب العالم الّتي كثير منها تعرّض لحروب الإبادة الّتي مارستها الدول الاستعماريّة الّتي تقف الآن إلى جانب الاحتلال الإسرائيليّ، والّتي وفّرت لها الحماية من العقوبات والعقاب، على مدار 75 عامًا من التطهير العرقيّ والنهب والحصار والاعتقال، أن يساندوا حرب الإبادة الإسرائيليّة.

لم يأت كلّ هذا التوحّش الإعلاميّ، وبطبيعة الحال، التوحّش الميدانيّ، دفعة واحدة أو بصورة فجائيّة، بل هو ذروة ممارسات وحشيّة ممتدّة إلى ماض بعيد وقريب، في الأرض المحتلّة عام 1967، وقبلها داخل منطقة 48. إنّها ذروة مرحلة من المدّ اليمينيّ الفاشي المتسارع الّذي تغلغل في مؤسّسات الدولة كلّها.

لقد تشكّل هذا الخطاب الإباديّ تدريجيًّا وبصورة منهجيّة ومخطّطة، بالتوازي مع الزحف الاستيطانيّ ومأسسة نظام الفصل العنصريّ، الّذي تسارع في الثلاثين عامًا الماضية منذ اتّفاقيّة أوسلو، بهدف الإجهاز على فكرة إقامة دولة فلسطينيّة في 22% على فلسطين، وتحقيق إسرائيل الكبرى، وبهدف الإجهاز على أيّ حلّ آخر أكثر عدالة، والّذي يوفّر الديمقراطيّة والمساواة بين البحر والنهر.

اقرأ/ي أيضًا | شرق أوسط جديد!

التعليقات