11/01/2024 - 16:06

المفاعيل القانونية والدلالات الرمزية لدعوى جنوب إفريقيا

لعل المعاناة المشتركة للشعبين والكفاح المشترك لطلائعهما ضد الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري يزيل علامات الاستغراب حول تقديم هذه الدعوى من قبل جنوب أفريقيا بالذات، وليس من قبل أي دولة عربية أو غير عربية أخرى.

المفاعيل القانونية والدلالات الرمزية لدعوى جنوب إفريقيا

(Getty Images)

تحمل الدعوى التي قدمتها جنوب إفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، إلى جانب مفاعيلها السياسية التي يراهن عليها بإدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية وإصدار قرار بوقف عدوانها على غزة، تحمل دلالات رمزية عميقة ترتبط بتاريخ الإبادة الجماعية وإشكالية العلاقة بين إسرائيل وجنوب إفريقيا.

بما يتعلق بالاتفاقية من المعروف أن من صك مصطلح "الإبادة الجماعية" عام 1944 هو محام يهودي بولندي الجنسية يدعى رفائيل ليمكين، خلال سعيه إلى وصف السياسات النازية للقتل المنظم لليهود الأوروبيين، وكان يهدف إلى إيجاد مفهوم يعبر عن "خطة منظمة تتألف من إجراءات مختلفة تهدف إلى تدمير الأساسيات الضرورية لحياة مجموعات إثنية أو قومية بهدف إبادة هذه المجموعات"، وفي العام التالي وجهت المحكمة العسكرية في مدينة نورمبرخ بألمانيا الاتهامات بارتكاب جرائم ضد الإنسانية الدولية، وقد اشتملت الاتهامات على كلمة "الإبادة الجماعية"، ولكن ككلمة وصفية وليس باعتبارها مصطلحا قانونيا.

أما الدلالة الرمزية الثانية، فترتبط باشتراك اتفاقية الإبادة الجماعية وإسرائيل ونظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا في سنة المولد وهي سنة 1948، وهي السنة التي قامت خلالها إسرائيل على أنقاض الشعب الفلسطيني، والسنة التي أقرت فيها الأمم المتحدة اتفاقية منع جر ائم الإبادة الجماعية ومعاقبة مرتكبيها، والتي اعتبرت الإبادة الجماعية بمثابة جريمة دولية تتعهد الدول الموقعة على الاتفاقية بمنعها والمعاقبة عليها، والسنة التي ولد فيها نظام الفصل العنصري، حيث أعلن نظام الأبرتهايد كسياسة رسمية ومعلنة في جنوب إفريقيا عام 1948 مع وصول «الحزب الوطني» اليميني الأفريكاني الأبيض إلى الحكم، والذي كان من بين أهدافه استمرار حكم العرق الأبيض في جنوب إفريقيا.

وكانت جنوب إفريقيا الدولة الإفريقية الثانية التي صوتت لصالح قرار التقسيم عام 1947، والذي أوصى بإقامة دولة يهودية على أرض فلسطين، وبعد تسعة أيام من إعلانها في 24.5.1948 اعترفت جنوب إفريقيا بإسرائيل بحكم الأمر الواقع، وفي 14.5.1949 اعترفت بها بحكم القانون، ويلخص ما ورد في "كتاب جنوب إفريقيا" عام 1976 المشترك بين الكيانين بالقول إن "كلتاهما موجودتان في عالم يطغى عليه العداء ويسكنه أناس من السود".

وقد بدأت العلاقات الحميمة بين إسرائيل وحكومة الأبرتهايد منذ سبعينيات القرن الماضي، كما أنها لم تشارك في العقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على جنوب إفريقيا عام 1986، وهو ما اعتبر وصمة عار في جبين الدولة العبرية، كما كانت إسرائيل الدولة الوحيدة في العالم المتعاونة مع دولة الأبرتهايد التي تاجرت وأيدت ودربت وباعت واشترت وبنت وأجرت تجارب عسكرية نووية، وبررت ذلك بالدفاع عن النفس.

وبالقدر الذي جمعت إسرائيل بنظام الأبرتهايد الغابر في جنوب إفريقيا مصالح بنيوية استعمارية، جمعت حركتا التحرر الفلسطينية والجنوب إفريقية وقيادتيهما التاريخيتين روابط كفاحية تحررية وما زالت، وهي روابط جسدتها حكومة جنوب إفريقيا في عدة مواقف كان آخرها مؤخرا الدعوى التي قدمتها ضد إسرائيل بارتكابها جريمة إبادة جماعية في غزة إلى محكمة العدل الدولية.

ولعل المعاناة المشتركة للشعبين والكفاح المشترك لطلائعهما ضد الاستعمار الاستيطاني والفصل العنصري يزيل علامات الاستغراب حول تقديم هذه الدعوى من قبل جنوب أفريقيا بالذات، وليس من قبل أي دولة عربية أو غير عربية أخرى.

الدعوى الجنوب أفريقية جاءت معززة بعشرات الأفعال والتصريحات تؤكد نية وفعل ارتكاب الإبادة الجماعية والقضاء على الحياة الفلسطينية بكل تجلياتها، ويكفي اقتباس بعض ما نقلته صحيفة عبرية منها، حيث أوردت على لسان عاملين في المجال الإنساني خدموا في مناطق الحروب والكوارث في مختلف أنحاء العالم، قولهم إن ما يحدث في غزة هو شيء غير مسبوق، وأشارت إلى قتل أكثر من 115 طفلا كل يوم، وإن غزة تحولت إلى مقبرة للأطفال حيث تبلغ نسبة الأطفال 40% من مجموع القتلى.

وتتحدث الدعوى عن انهيار غالبية المستشفيات، في حين أن القليلة المتبقية تشهد سيناريوهات من أفلام رعب، بغياب الأدوية ومواد التعقيم، حيث يجري بتر الأطراف بدون تخدير وتحت ضوء الفوانيس وعلى أرضيات متسخة، وجروح ملوثة يغطيها الدود والذباب، بينما يموت الأطفال من الإسهال.

وتورد استنادا إلى منظمة الصحة العالمية أن 93% من سكان قطاع غزة يعانون من نقص في الأمن الغذائي، هو الأعلى في العالم سلم هذا الأمن منذ بدء استعمال هذا المقياس عام 2004، وكذلك من نقص في المياه، حتى أن الأمهات لا يستطعن إرضاع أطفالهن بسبب سوء التغذية ويضطررن لإعداد الحليب الصناعي بمياه ملوثة.

وتشير الدعوى أيضا إلى تدمير أو تضرر 355 ألف بيت، وهو ما يعادل 60% من بيوت القطاع، إضافة إلى المستشفيات والمدارس والمساجد والمخابز والبنى التحتية، من شبكات مياه وكهرباء، وهو ما يهدد بجعل الحياة في القطاع غير ممكنة.

وتنوه أيضا إلى قتل الأطباء والصحافيين والمعلمين والأكاديميين بنسب غير مسبوقة، حيث قتل حتى الآن 311 طبيبا وأعضاء فرق طبية و103 صحافيين يشكلون 73% من الصحافيين الذين قتلوا في العالم عام 2023، وإن إسرائيل قتلت أكاديميين بارزين بينهم حملة درجة بروفيسور في الطب والهندسة والأدب.

وفي كل الأحوال فإن الدعوى الجنوب إفريقية هي لائحة اتهام دولية بارتكاب إسرائيل لجريمة الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني، وما استذكار مذبحة دير ياسين لمحاكاة مجازر غزة إلا دليلا إضافيا على البعد التاريخي لنية وفعل إبادة الشعب الفلسطيني، وهي تضع إسرائيل، في كل الأحوال، في مصاف الدول المارقة في العالم، وتنزع عنها الغطاء الأخلاقي والديمقراطي الذي طالما حاولت التغطي به، وهي دعوة إلى الهيئة القضائية الأعلى في العالم لاتخاذ الإجراء القضائي المناسب لوقف عمليات الإبادة تلك وإدانة إسرائيل بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية.

التعليقات