23/01/2024 - 15:05

محادثات على شروط وقف الحرب

ما يحصل من أداء المقاومة وانعدام تصور سياسي لنهاية الحرب، جعل الجيش الإسرائيلي يبدو كأنه انتقل من حرب واسعة إلى "عمليات قتالية" محدودة كما يحصل في خانيونس يتلوها "عمليات جراحية" بعد تموضع القوات في المناطق الحدودية داخل القطاع.

محادثات على شروط وقف الحرب

آثار القصف على جنوبي قطاع غزة، أمس (Getty Images)

يقول بنيامين نتنياهو إن الحرب مستمرة حتى النصر، وهو في ذلك لا يكذب ولا يخدع، للمفارقة. هو يقصد ما يقوله، ويريد أن تستمر الحرب إلى أقصى ما يكون؛ لسببين: الأول لأن نهاية الحرب تعني بداية نهاية حكمه؛ والثاني وهو الأهم، أن الحديث عن محادثات ومساعي لتبادل أسرى هو تورية للحقيقة.

الحقيقة هي أن هذه المحادثات والمساعي هي عمليًا محادثات على إنهاء الحرب. لقد وضعت حركة حماس شرطين لا يمكن تجاوزهما: الأول هو وقف الحرب ومن ثم التفاوض؛ والثاني هو انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خارج قطاع غزة.

لا يمكن أن تقبل إسرائيل بهذين الشرطين أو حتى بأحدهما، لأن قبولها يعني الاعتراف بخسارتها للحرب، وقد وصف نتنياهو القبول بهذه الشروط بأنها توقيع على شروط الهزيمة لإسرائيل.

وقد تحاول دول عربية الضغط على حماس للتخفيف من شروطها، لكن يبدو أن ذلك غير وارد بالنسبة للحركة، لأن القبول بغير ذلك يعني تقديم تنازلات فيما الحرب مستمرة. قد تلين الحركة في مواقفها وشروطها وتقدم تنازلات، لكن شرط ذلك هو وقف الحرب بشكل كامل.

يدرك نتنياهو هذا الواقع، بأن المحادثات والمساعي هي عمليًا على شروط وقف الحرب، والتسريبات في الأيام الأخيرة في الإعلام الإسرائيلي عن خطوط عريضة إسرائيلية لصفقة تبادل أسرى هي أولا محاولة لخلق انطباع لدى الرأي العام الإسرائيلي بأن نتنياهو يدفع لصفقة، وثانيًا لاحتواء الضغوط الخارجية، الأميركية تحديدًا.

والخطوط العريضة الإسرائيلية هي عمليًا رد على المقترح القطري الذي تدفع به أيضًا الولايات المتحدة ومصر، والمبني من ثلاث مراحل على الأقل لتبادل الأسرى تنتهي بوقف الحرب لفترة طويلة قد تصل لثلاثة أشهر. إسرائيل من ناحيتها تقبل بالمرحلة الأولى، أي إطلاق سراح النساء والمدنيين والأطفال والمرضى، وأبدت استعدادها لوقف الحرب مؤقتا لعدة أسابيع قد تصل لشهرين. أما ما نشرته "سي إن إن" بأن رئيس الموساد اقترح خروج قادة المقاومة من قطاع غزة، فإن هذا المقترح ليس جديدًا وأعلنت حماس أنه غير مقبول.

أعلن الجيش الإسرائيلي أنه صعّد من عملياته العسكرية في خانيونس، وأن ذلك قد يستغرق عدة أيام في محاولة للوصول لقادة المقاومة، لكن هذا التصعيد في الغالب هو محاولة لتقديم صورة إنجاز جدي والخروج بـ"صيد ثمين" وتدمير ما أمكن من الأنفاق واستنزاف كتائب القسام في هذه المنطقة قبل سحب القوات والإعلان عن المرحلة العسكرية الثالثة في خانيونس.

يقول نتنياهو إن الحرب ستستمر حتى النصر، وربما النصر بالنسبة له هو الفوز في الانتخابات البرلمانية المقررة بعد عامين ونصف. ولا يجوز الاكتفاء بتفسير امتناعه عن تقديم رؤية "لليوم التالي" بالحسابات الحزبية والائتلافية، فامتناعه عن ذلك والاستعداد للصدام مع الولايات المتحدة فيه بعد إيديولوجي متطرف، يرفض الاعتراف بأي حقوق وطنية أو سياسية للفلسطينيين أو بكيانية فلسطينية، فهو يعادي السلطة الفلسطينية ويسعى لنزع الشرعية عنها رغم استعدادها لتقديم كل التنازلات من أجل "عملية سياسية"، وهو يصر على رفضه ويعاقبها ماليا ويعيد احتلال مناطقها. فالنسبة له، مستقبل غزة منفصل عن الضفة الغربية، لكن المصير ذاته، سيطرة أمنية إسرائيلية دون حكم مباشر للفلسطينيين.

إلى متى ستستمر هذه العقدة؟ ربما حتى أواسط العام الجاري، حتى لو تغير نمط أو شكل الحرب في غزة، فيبدو أننا بانتظار صيف ساخن في الشمال.

الإعمار مقابل نزع السلاح

تتشكل خطة الجيش الإسرائيلي للحرب على قطاع غزة من سبع مراحل مفترضة، على أن تكون آخر مرحلة "الإعمار مقابل نزع السلاح". وقد أشار أحد المحللين العسكريين الإسرائيليين إلى أن هذه الخطة بمراحلها السبع وضعت منذ فترة طويلة، وناقشها الكابينيت عدة مرات قبل الحرب الأخيرة على غزة.

وتستهدف الخطة تدمير القدرات العسكرية لحماس وإنهاء حكمها في القطاع، وصولا إلى المرحلة الأخيرة المذكورة، وهي سياسية، "الإعمار مقابل نزع السلاح". لكن ما لم تأخذه الخطة بالحسبان هو من يقف على رأس الحكومة، وأن كتائب القسام ستبادر إلى عملية استباقية مباغتة، وهذا ما يفسر إصرار القيادة العسكرية على ضرورة طرح المستوى السياسي لتصور سياسي لليوم التالي للحرب.

لكن ما يحصل من أداء المقاومة وانعدام تصور سياسي لنهاية الحرب، جعل الجيش الإسرائيلي يبدو كأنه انتقل من حرب واسعة إلى "عمليات قتالية" محدودة كما يحصل في خانيونس تتلوها "عمليات جراحية" بعد تموضع القوات في المناطق الحدودية داخل القطاع وفي وسطه، بعد أن سحب نصف قواته من القطاع.

نعي مفهومين

نعى أحد المحللين الإسرائيليين قبل فترة مفهومين كانا في صلب العقيدة الإسرائيلية تجاه غزة والعرب عموما: الردع والاحتواء؛ وهذا صحيح إلى حد كبير، إذ افترضت إسرائيل في العقدين الأخيرين أنها بنت معادلة ردع أمام المقاومة في غزة من خلال العمليات العسكرية منذ العام 2008 وحتى العام 2021، وفي لبنان منذ حرب تموز 2006.

وإلى جانب الردع، اعتمدت إسرائيل "سياسة الاحتواء"، بحيث تمتنع عن توفير ظروف التصعيد العسكري وتحتوي الرد على اعتداءاتها في غزة أو لبنان، أو من خلال السماح بإدخال مساعدات مالية لقطاع غزة مثلا.

في السابع من أكتوبر سقط هذان المفهومان، ومهما حاولت إسرائيل من خلال العدوان المتواصل على القطاع استعادة الردع، فما كُسر لا يمكن جبره، والدليل على ذلك أنها أعلنت مرارًا وتكرارًا في الأسابيع الأخيرة القضاء على المقاومة في شمالي القطاع، ليتبين كل مرة جديد، أن هناك من يستمر في القتال واستنزاف القوات الإسرائيلية غير آبه لا بالردع ولا بالموت.

بعد مئة يوم من الحرب لم تحقق إسرائيل أيًا من أهدافها، لا تدمير حماس ولا استعادة المحتجزين والأسرى، وكأن الحرب باتت تتحوّل إلى "حالة قتالية"، أي دون الحرب، بحسب توصيف أحد العسكريين الإسرائيليين في الاحتياط. طرفان يستنزفان بعضهما البعض، أي عمليًا احتلال في مواجهة مقاومة. فالحديث الإسرائيلي عن "مرحلة ثالثة" من الحرب ليس إلا توصيفا عسكريا لنمط الحرب، ولا يعني أن الحرب تشارف على انتهائها، ولا يعني أن المقاومة ملتزمة بهذه التسميات والتوصيفات، فالنسبة لها الحرب هي الحرب وما زالت مستمرة.

بعد مئة يوم من القتل والتدمير، لم تستطع إسرائيل خلق حالة ردع لا في جبهتها الجنوبية ولا الشمالية، والحديث عن ردع واحتواء بات أمرًا غير ذي صلة بالواقع. ما يحصل عمليًا هو انتقام جماعي وتنكيل واستنزاف لأهالي القطاع، أو بلغة المستوطنين "جباية أو تدفيع ثمن".

قد يقول قائل إن إسرائيل تمكنت، بعد مئة يوم، من "تحييد الخطر من الجنوب" وعدم تكرار السابع من أكتوبر، من خلال تدمير قدرات عسكرية للمقاومة في غزة. في المقابل، سيقول قائل إن المقاومة الفلسطينية خلال يوم واحد، السابع في أكتوبر، حوّلت "غلاف غزة" إلى شريط أمني واسع بإخلاء سكانه بعشرات آلافهم، وعودتهم ستكون مشروطة بوقف الحرب وعودة سكان شمالي القطاع إلى منازلهم. أي إجلاء مقابل إجلاء، دمار مقابل دمار، عودة مقابل عودة.

قد تكون إسرائيل "حيدت الخطر من الجنوب"، لكنها بعد مئة يوم من الحرب لم تستطع استعادة المحتجزين والأسرى من القطاع، ولم تستطع الوصول إلى قادة المقاومة، ولم تستطع حتى وضع تصور لشبكة الأنفاق في غزة.

وفي الضفة الغربية أيضًا، لم يعد الردع يمنع شبانا فلسطينيين من تنفيذ عمليات ومحاولة اقتحام مستوطنة كما حصل هذا الشهر.

التعليقات