الداخل ما بعد السابع من أكتوبر: الصمت إزاء حالة خارج السياسة (3/1)

صُدم العالم، من يجهل إسرائيل ومن يعرفها أيضا، من الوحشية البهيمية التي تعامل بها الإسرائيليون مع غزة، وصُدم الجميع مما وصفه الصحافي والكاتب الأميركي، كريس هيدج، بعد أسبوعين من الحرب بـ"أورغيا الذبح والدمار...

الداخل ما بعد السابع من أكتوبر: الصمت إزاء حالة خارج السياسة (3/1)

آثار الدمار الواسع في غزّة جراء القصف الإسرائيليّ المتواصل (Getty)

مصابون بـ"خلعٍ في الرّوح فقط". محمود درويش

"الشعور بالاختناق والجفاف الروحي الناتج في جزء منه من العجز عن التعبير عن الذات -سواء كان فرديا أم جمعيا - بوصفه أعمق وأبقى الضرورات الإنسانيّة". روجر هوشير، مقدمة كتاب "ضد التيار" - إزايا برلين.

السكوت كإدراك لحالة خارج السياسة

استند البعض إلى حنا أرندت في وصف هول ما نعيشه، فقد ذكرت في لقاء لها عام 1964 أنه "عندما عرفنا عن وجود معسكر الاعتقال أوشفيتس لم نصدق، كان ذلك شيئا فائضا عن الحاجة وغير ضروري من ناحية عسكرية... لكن بعد نصف سنة صدقنا، وهنا كانت الصدمة الحقيقية. قبل ذلك قلنا حسنا، الكل لديه أعداء، أليس كذلك، هذا طبيعي. لكل شعب يوجد عدو، ونستطيع بمساعدة السياسة إصلاح أي شيء... لكن ذلك كان مختلفا، كأن هوة عميقة حفرت، لم يعد بعدها باستطاعتنا التفكير بهذه الطريقة. كان على هذا ألا يحدث، لقد حدث شيء لم نكن نستطيع ضبطه بيننا وبين أنفسنا".

"الأمور التي تحدث ولا نستطيع ضبطها بيننا وبين أنفسنا"، هي "حالة لا نستطيع إصلاحها بواسطة السياسة" وفق أرندت، الأمر الذي يعني أيضا أننا لا نستطيع التعاطي معها بالكلام.

يجد العالم والداخل الفلسطيني (نحن من الآن فصاعدا) أيضا صعوبة فكرية وشعورية في "ضبط" الوحشية التي تعيشها غزة، نحن ندخل حالة من الصمت أكثر من غيرنا لأننا "نعيش معا". التعاطي المتاح أمامنا يجعلنا نصطدم مباشرة بحالة "خارج" السياسة التي تعيشها إسرائيل. إن السياسة واللغة لا ينتميان للمجتمع الذي أمامنا.

يجادل المقال في أن حالة الصمت الذي دخلنا بها (فلسطينيو الـ48) لا تجسد حالة خوف فقط، بل ما هو أعمق وأبعد تداعيات من الخوف. الخوف هو تفسير جزئي يشوش معنى الحالة الآن، ولا يمسك بملامح المرحلة المقبلة.

البيان الذي صدر عن التخنيون – جامعة إسرائيلية في حيفا- يعبر عن ما "لا نستطيع ضبطه"، لكنه يقول أكثر من ذلك. يقول البيان عمليا أننا نعيش "معا" حياة غير ممكنة، إذ جاء في البيان: "يجلس طالب قُتلت عائلته بأيدي مسلحي حماس أو طالب عاد للتو من المعارك في غزة وإلى جانبه تجلس طالبة أُفرج عنها من المعتقل بواسطة حماس. هذا واقع غير معقول يمسّ بنسيج الحياة المشتركة..."، وفق وصف التخنيون لقضية الطالبة العربية تمار مراد، فإن جلوسها كطالبة أفرج عنها –بواسطة صفقة تبادل أسرى مع حماس- بجانب من يعودون من المعارك، هو أمر يمس نسيج الحياة "المشتركة"، أي أن الحقائق المكونة لوقائعنا: الخدمة في الجيش (معظم الإسرائيليين يخدمون به)، والصلة مع حماس (جميعنا مرشحون للاعتقال وبأن تفرج عنا حماس أو تنظيم فلسطيني ما) تمس نسيج الحياة.

يقول التخنيون ما مفاده أن الواقع الذي نعيشه يمس الحياة! أي أن الواقع الذي نعيشه لا تمكن معه الحياة. بكلمات أرندت: الحياة التي "نعيشها معا"، هي التي "لا يمكن ضبطها" برمتها، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نتكلم في عز وضوح هذه الحقيقة؟ رغم أن هذا الوصف لحياة تأكل نسيجها، لا يشير لاتهام مباشر لأحد، إلا أن التخنيون يختار أن يتهم الطالبة الفلسطينية التي أفرج عنها بواسطة حماس، كمسؤولة عن هذا الواقع غير الممكن، ويقرر تجميد دراستها.

الحديث عن السكوت أو بالأحرى الصمت كحالة "وجودية" قائمة بذاتها، وليس كعملية إمساك عن كلام موجود لكن لا يقال، لا يُفسر بالخوف فقط؛ نحن أمام مجتمع دخل حالة بهيمية سادية هي مزيج من الانتقام، التسلية، تعريف الذات والتسامي؛ ثم نحن أمام مجتمع يعاني من "تنافر معرفي" تنتفي معه قاعدة الكلام. هذان الملمحان الأساسيان برأيي في تشكيل أو تفسير النفسية والذهنية والسلوك الإسرائيلي حاليا يجعل الكلام معهم أو مقابلهم أو في حضورهم غير ممكن.

الوحشية كنمط أعلى وحشية سادية

صُدم العالم، من يجهل إسرائيل ومن يعرفها أيضا، من الوحشية البهيمية التي تعامل بها الإسرائيليون مع غزة، وصُدم الجميع مما وصفه الصحافي والكاتب الأميركي، كريس هيدج، بعد أسبوعين من الحرب بـ"أورغيا الذبح والدمار. لقد أصبحوا سكرى من العنف"، لقد أمدت إسرائيل العالم باستعراض غير مسبوق للقسوة ـ الاستعراض غير المسبوق استبق بإعلان واضح من قبل وزير الحرب ضمن تصريح رسمي مخطط سابقا ومدروس وتم تكراره: "ستكون هناك خطوات لم يرها أحد في العالم أبدا، الجيش يزيل كل الكوابح والتقييدات. لم ير أحد في الشرق الأوسط ما تراه غزة".

ثم يشرح محلل سياسي في القناة 12 الإسرائيلية، الأكثر مشاهدة، ما نراه يوميا للتأكد من أننا نفهم: "نحن نعيد تشكيل غزة لزمن غير مقيد". وعندها سألت المذيعة "هل نملك القسوة اللازمة بصفتنا دولة غربية؟"؛ لقد أفصحت المذيعة عن الخوف الجماعي الحقيقي الذي عانى منه الإسرائيليون بعد 7 أكتوبر، وهو ليس الخوف من حماس ولا من محكمة العدل الدولية؛ إنه الخوف من "ألا نملك القسوة اللازمة". هذا الخوف قام المحلل السياسي بمحاولة نفيه بشكل قاطع: "لا يوجد لنا بديل، نحتاج لنكبة ثانية، وعلينا أن نتوقف عن استخدام مصطلح تصفية موضعية، علينا تدمير كل شيء، حتى لو اضطر سكان غزة العيش في خيم خلال السنوات المقبلة، على ما يبدو فإن الهيئات العسكرية العليا مستعدة لذلك".

يوضح أنطوان شلحت الذي كتب عن "الإسرائيلي البشع" في مركز "مدار"، في تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، أن "مجمل تصريحات القيادتين السياسية والعسكرية والإعلامية تشير إلى أن السردية الأصح هي أن إسرائيل لا تحارب ’منظمة إرهابية’ بل ’دولة إرهابية’. وبهذا المفهوم باتت غزة، في قراءة الجنرالات شبيهة جداً بألمانيا النازية".

الأسس العسكرية والنفسية لما يجري في غزة موجودة قبل 7 أكتوبر، وبالتالي فإن ما يجري هو مزيج من إسرائيلي "جديد" يتشكل، لكن ضمن قواعد مسبقة واضحة ومبلورة بشكل عميق. قاعدة "التركيز على الضرر وليس على الدقة" التي يتم التأكيد عليها الآن، هي قاعدة سبقت 7 أكتوبر. فوفق موقع "سيحاه ميكوميت"، "استخدمت إسرائيل نظام الذكاء الاصطناعي ’هبسورا’، الذي يتيح استخدام الأدوات الآلية لإنتاج أهداف بوتيرة سريعة، بمعدل 100 هدف جديد كل يوم، وذلك بعد أن كانت تنشئ ("توّلد" عبر الذكاء الاصطناعي التوليدي) 50 هدفا في السنة. بفضل أنظمة الذكاء الاصطناعي، تمكن الجيش لأول مرة من توليد أهداف جديدة بمعدل أسرع من هجماته. عرفها تقرير للأمم المتحدة في العام 2015 بأنها جريمة حرب محتملة و’نمط جديد’ من العمل".

هذا الشر ليس مخططا عسكريا فقط، "القتل الجماعي كان مطلبا صريحا من الرأي العام الإسرائيلي ومن المحللين الإعلاميين"، بحسب عوفر إيلاني (هآرتس، 1 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023).

وحشية جذلى

ما بدأ كمطلب لجماعة غاضبة ومستنفرة وتريد أن تسترد عافيتها، تحول بفضل المضي دون كوابح، وبفضل المشاركة الأميركية الكاملة (وليس الدعم فقط) إلى حالة من النشوة. الجموع الذليلة تحولت بعد مدة غير طويلة إلى جموع جذلة،مخدرة من الفرح ومن الثقة. بالتالي القول بأن المجتمع الإسرائيلي يُمنع من مشاهدة الدمار على شاشاته، وبالتالي فإنه لا يعرف ماذا يجري، هي مقولة غير مقنعة وديماغوجية؛ هو يعرف حجم الدمار من مصدر أول، من أبنائه وآبائه وأصدقائه الجنود، ويصادق عليه بالعقل والقلب، لكن لا داعي لخدش العيون المرهفة.

حال النشوة هذه جعلت ناقدا تلفزيونيا يتيما (بالأحرى هم حفنة من الأيتام) في "هآرتس" يصف المقابلات الإعلامية، بأنها "تدار في أجواء من المرح، متخمة بالابتسامات وضمن مزاج ترفيهي. المقابلات كأنما تجري في فراغ، ضمن حديث جذل، لا يوجد فيه أي منغصات، كأنما تعاطوا مخدرات أو حبوب تخفيف المشاعر إلى جانب أدرينالين حربي جماعي".

صحيفة "هآرتس" الليبرالية ساهمت من جهتها في الترفيه والتسلية عبر اقتراح قائمة كتب تساعد الجنود على تمضية أوقات الاستعداد المهرجاني للحرب، بالإضافة لقائمة من المطاعم تعرض مأكولات شهية وحلويات للجنود. مساهمة منها لمجتمع يحارب كأنه يدخل تجربة مثيرة يستعد لها بكل حواسه.

إن سؤال أحد المحللين السياسيين (عميت سيغل، 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2023)حول ما "إذا كانوا سيجلسون ويتناولون البيرة على شواطئ غزة"، هو سؤال يعكس ما هو أكثر من مجرد مجتمع يرمم كرامته وينتقم لها.

إنه مجتمع يتسلى بالوحشية. هذه حالة "لا يمكن ضبطها"، ولا التعامل معها، ولا يصلح معها الكلام.

وحشية سامية

مقابل أجواء "المشاعر الجذلة"، برز في الإعلام خطاب من التسامي الروحاني. لم ير الجهاز المؤسساتي الألماني النازي المكون من "مواطنين عاديين" في ما يفعلونه قيمة أخلاقية كبيرة؛ بالعكس، وفق أرندت، رأوا في أنفسهم مجرد موظفين، وتفهوا من قيمة دورهم وحجموه، وذلك لكي يستطيعوا هضم الشر الذي يفعلونه . كان عليهم وفق هذا التنظير أن يفصلوا أنفسهم عن المسؤولية وعن الرؤية الكبرى والقيمية للمشروع النازي.

أما هؤلاء، فإن أصغر جندي أو عامل أو موظف لديهم يشعر برسالة حضارية كبرى، وكلما كبر الدمار كبرت الرسالة: "إننا بصدد صدام حضارتين بين شر صرف وبيننا، وقد آن الأوان أن نقول من نحن، نحن أساس الأخلاق الوطنية"، قال مذيع الظهيرة في القناة 12 ( الساعة 12:30، 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023). أما عميت سيغل، لسان حال قطاع واسع، فتحدث عن تسامي روحي فريد" (القناة 12، 17 شباط/ فبراير 2024)، كونهم "يمتلكون القسوة الكافية" لإتمام هذه الرسالة "الحضارية".

"يهمنا العالم، نحن ليبراليون ومتنورون، قلقون من الاحتلال ومن القمع الذي جلبه، نتألم مع العمال الأجانب، ندعو لحقوق متساوية للمثليين، نخاف على الحيوانات ونكاد نخرج من جلدنا حرصا على البيئة والكرة الأرضية. نحن متعاطفون ونهتم بالجميع" (ملحق "هآرتس"، 16 شباط/ فبراير، "عندما تجاوز عدد الشهداء 27 ألفا"). أستطيع أن أراهن أن معظم من يسمع ذلك يعتقد أنه أمام مقطع ساخر ينفذه أحد المتضامين مع الفلسطينيين، لكننا أمام أستاذ إسرائيلي في علم الدماغ في جامعتي هارفارد الأميركية وبار إيلان الإسرائيلية؛ هو يعدد كل المناقب السامية دون أن يذكر لإبادة غزة. لا بد أنها إبادة سامية أيضا.

وحشية إستراتيجية

وراء هذا الخطاب الانفعالي، المثار، الفرح، المتمتع، المليء بالطاقة والتصميم والروحانيات، ما هو أكبر من الانتقام الانفعالي الظرفي وأكثر تجذرا. بالنسبة لإسرائيل الردع كان دائما أهم مخزونها العسكري والنفسي، والردع لا يحتاج لقوة، بل هو يحتاج لقوة فائضة عن الحاجة الظرفية. القوة المستخدمة ضد الفلسطيني الآن لا تأتي فقط “لإشباع غريزة الانتقام فحسب، وإنما هي، وفق مفهوم ’كي الوعي’، جزء من معادلة تحقيق النصر، التي يجب ألا تتناسب فيها خسائر الفلسطينيين في الأرواح والممتلكات بأّي حال مع الخسائر الإسرائيلية".

في معرض مقاله الاستثنائي كمعظمها، "الأمراض المفعمة بالأمل في الحرب من أجل فلسطين: رد على آدم شاتز" (8 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، موقع mondoweiss)، يدحض عبد الجواد عمر خطابا ظهر في أوساط من اليسار العالمي– وهو خطاب يتبناه بعض أكاديميي الداخل أيضا- الذي يدعي أن "الانتقام أصبح النمط الأساسي للتفاعل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، حيث تعكس ’الأمراض الانتقامية’ لدى الجانبين نفس الغرائز البدائية".

في هذا الادعاء، وفق عمر، تحييدا لنظرية "الجدار الحديدي" أو الردع كما تفهمها وتطبقها إسرائيل، وتحييدا لأمور أخرى أيضا (وضعتُ رقابة عليها). هذه العقلنة للبهيمية كرادع محسوب وليس انفعاليا، تجسدها تصريحات غانتس وآخرين عن "تغيير الواقع الأمني والإستراتيجي في المنطقة". إذًا، "إزالة الكوابح" ليست مجرد رد على أهوال 7 أكتوبر، ولا هي إزالة كوابح لسلوك الجنود الوحشي فقط، بل 7 أكتوبر هي فرصة لإزالة الكوابح عن مخططات مدروسة ومرصودة في الأنفاق الإسرائيلية ولإطلاقها في الجو كالقذائف .

بكلمات بسيطة من محللي الاستوديوهات: "حين ينتهي الطعام ولا تبقى قطرة ماء، ستبدأ الأمور الجيدة بالحدوث". إن التوحش هو أمر محسوب جيدا إذًا، وهو الطريق لبناء المستقبل، هو ليس "مجرد" انتقام.

يفوت الدولة الصهيونية أن توسيع باب جهنم سيعني أن الباب سيتْسع للجميع.

التنافر المعرفي و"اليوم الذي لا ينتهي"

يُرجِع التوحش للإسرائيلي صورته التي يحبها ويحتاجها عن ذاته، القوية المحصنة المنيعة المتماسكة، الوطنية، المخلصة، المتكافلة، المبدعة، المتحدية... إنه طريق التعافي. لكن للإسرائيلي صورة أخرى عن نفسه لا تقل أهمية، إنه الأخلاقي، الإنساني، مرهف الشعور، المتنور والعصري. "التنافر المعرفي" هي نظرية في علم النفس يستخدمها الإنسان لإسكات ضميره. يلوي الإنسان معطيات الواقع، بما فيها سلوكه الشخصي، لكي يستطيع هضمها بشكل متصالح مع ضميره. هذا التشويه المعرفي، يحوله بعض المفكرين الإسرائيليين إلى موجة عالمية معرفية جديدة يتراجع فيها الواقع لصالح خيالات وفانتازيا وأيديولوجيات و"فيك نيوز".

ضمن هذه الموجة العالمية - وفق هؤلاء - يقوم "العالم" (المتضامن مع الفلسطينيين طبعا، وإلا ما نفع التنظير، وما دور المثقفين الإسرائيليين) بتأطير "حرب إسرائيل - حماس" كما يسمونها. تشخص فاديا حبيبا، باحثة في اليهودية والفكر الديني اليهودي، هذه العملية تاريخيا كجزء من مسار تاريخي بدأت مع تفجير برج التجارة العالمي (التوأم) في نيويورك، مرورا بجائحة كورونا، وانتهاء بالحرب على غزة.

جميعها، وفق حبيبا، أحداث وحدت العالم لكيان واحد يتطلع إلى مشهد عالمي، الأمر الذي يشي بأزمة الخطاب الما بعد حداثي، كونه يفرض فرزا للعالم ووضوحا أو قطعية معرفية، فيما الخطاب الما بعد حداثي لا يحب مصطلحات ومفاهيم مثل حقيقة ويقين.

يهدف هذا التحليل الذي يأتي من الباحثين الإسرائيليين الآن، في عز سطوع الحقائق على الأرض سطوع القنابل الضوئيةـ، إلى إقناعنا بأن ما نظنه حقيقة هو مجرد فانتازيا؛ وأن استنتاجاتنا السياسية المبنية على ما نعتقده يقينا، هي مجرد شكل أو منطق معرفي أو موضة معرفية جديدة، "يحتفل" بها العالم في مشهد موحد منكفئ على القوميات (كيف ينكفئ كل العالم على القوميات وهو يحتفي بالفلسطينيين؟).

دور المفكرين الصهاينة ليس النقاش السياسي المباشر، إنما ضرب النزاهة المعرفية للاستنتاجات السياسية التي توصلت إليها أمم الأرض حول حقيقة الإبادة على غزة. هم لا يجادلون مفهوم الإبادة، بل يجادلون مفهوم الحقيقة. ينتقدون ظاهرة غير موجودة لكي يقنعونا بوجودها وبدورهم النقدي معا. لكن المجتمع المستعمِر هو الذي يحتاج "للغرق" في تصورات وخيالات وأيديولوجيات، وهو لن ينجح في الاختباء خلف قواعد يروج لها يسارهم الأكاديمي بأنها تشكل "روح مرحلة" عالمية. لا يحتاج ولا يستطيع الفلسطيني الغارق في الدم أن يغرق في الخيال.

إن وصف صحافية إسرائيلية بـ "نحن لا نعيش الظرف، بل نتجول في العالم كسياح نرفه عن أنفسنا"، يصلح لوصف حالة التسلية، لكنه يصلح أيضا لوصف العلاقة غير الحقيقية بين الإسرائيليين وبين الواقع، إنها علاقة سائح يزوره، لكنه يسكن بلادا بعيدة.

تساعد الشيطنة على إنتاج الفجوة بين الواقع وبين وعي الإسرائيلي، وفق الباحث الإسرائيلي ياغيل ليفي: "الشيطنة التي ترفض الاعتراف بوجود شعب ستنكر بالضرورة قدرة أفراده على إحداث تغيير. لقد توقفت إسرائيل عن رؤية سكان غزة كوكلاء إنسانيين، وعندها تفاجأت من ظهورهم كوكلاء نشيطين".

لا يحتاج المجتمع الإسرائيلي إذًا إلى مخابرات، ولا يحتاج الأكاديميون الإسرائيليون إلى تنظيرات لكي يشخصوا القهر أو لكي يعرفوا كيف تتصرف الطبيعة البشرية عندما تقهر، هم يحتاجون فقط أن يتوقفوا عن "اجتهاداتهم" وأن يلحقوا الفلسطيني بالموكب البشري ليس إلا. خلاف ذلك سيتحول 7 أكتوبر إلى "اليوم الذي لا ينتهي" أو "ويطول اليوم أكثر من قرن"، وفق تعبير الأديب جنكيز أيتماتوف.

التنافر المعرفي الإسرائيلي كتطور "ليبرالي"

يحتاج المجتمع الإسرائيلي إلى أن يرجع إلى تحليلاته القديمة هو لكي يؤنسن الفلسطيني ويفهم ردوده. ففي الوقت الذي فيه يعتقد الباحث في التاريخ الإسرائيلي، "اليساري" آدم راز، أن غزة هي برميل منفجر بسبب الأيديولوجية الإسلامية، ربط أرنون سوفر اليميني قبل عشرين عاما (أي عندما كانت أوضاع غزة أفضل بكثير) بين "التهديد" الفلسطيني وبين الاختناق جراء السيطرة الإسرائيلية. لقد تنبأ سوفر وفق تقرير إحدى الصحف في أيار/ مايو 2004 الانفجار، قائلا "عندما يعيش 2.5 فلسطيني في غزة المغلقة، سيؤدي الأمر إلى كارثة إنسانية". وبعد هذا التشخيص تابع أن وجود "إسلام أصولي سيعزز ذلك"، و"الضغط على الحدود سيكون مروعا، هذا ما سيؤدي للحرب المقبلة". صحيح أن سوفر وظف ذلك التأكيد لمنع "الانفصال" عن غزة، إلا أن ما يهمنا هنا هو ربط الفعل الإسرائيلي، أي الحصار، بالنتيجة: تمرد "الحيوانات"؛ سواء كنا حيوانات أو أنبل البشر، فالتمرد عليه أن يربط بالقمع.

نستطيع العودة إلى بن غوريون وجابوتنسكي أيضا لنوقظ الإسرائيليين الغائبين عن الوعي الإنساني، بالعلاقة بين السبب والنتيجة. لقد ربطت إسرائيل الناشئة للتو جيدا بين مشكلة اللاجئين وبين غزة كبركان سينفجر حتما، وكانت غزة تحديدا هي موقع الانفجار الأكثر اشتعالا في وعي مؤسسي الدولة الاستيطانية، "على أن أهدم الوهم الساكن في نفوس كثيرين منا، أن قطاع غزة هو مصدر شغب، تحت أي نظام وأي إدارة طالما لم يتم توطين اللاجئين في بلد آخر. من يتكلم عن قطاع غزة دون رؤية كل التعقيدات والمخاطر الناتجة عن تركيبة السكان، فإنه يعيش في جنة من صنع المجانين". (دافيد بن غوريون، خطاب في الكنيست، 1956)

إن هذا التفكير الإسرائيلي في فك الارتباط بين الفعل الإسرائيلي والرد الفلسطيني، هو ظاهرة حديثة إسرائيليا، فالإسرائيلي الذي طرد الفلسطيني عام 1948 يبدو أنه أكثر إدراكا لأبعاد الجريمة في فعله، وفي تفهم كره الفلسطيني وإمكانيات، بل وحتمية رده العنيف كجزء من رد إنساني طبيعي ومفهوم، بالتالي أتى مفهوم الجدار الحديدي. لقد أتى لتثبيت العنف، لكنه افترض أيضا مقاومة فلسطينية إنسانية طبيعية.

خاضت إسرائيل بين النكبتين، نكبة 48 ونكبة 2023 – 2024، مسارين مختلفين لكن مكملين من التطبيع وعقلنة الإجرام: المأسسة واللبرلة، أدّى كل منهما على حدى وبطريقته إلى الفصل بين الجريمة والنتيجة. المجتمع الإسرائيلي الذي نفذ النكبة الثانية أكثر بهيمية بكثير من المجتمع الإسرائيلي الذي نفذ النكبة الأولى، ليس بفعل "قدراته" الإجرامية أو منطلقاته الأخلاقية، بل بفعل تصوراته عن العدو. لقد ساهمت التطورات الليبرالية والنيوليبرالية التي "طبعت" الدولة إلى كيان دولاتي منفصل عن مشروعه (جريمته)، في تحويل المجتمع الإسرائيلي من مجتمع منغمس في ممارسات استيطانية إلى مجتمع منغمس في الهايتك والحياة المدنية العصرية، فيما هو يدير استيطانه من بعيد وعبر فئات "غير مركزية" وتقنيات تكنولوجية عالية، ودون أي مشهدية، وإلى إبعاد المجتمع الإسرائيلي ليس فقط عن أصله الاستعماري، بل كذلك عن حقيقته الاستعمارية المستمرة، وقد تأتى ذلك عبر تحول الذهنية الإسرائيلية إلى كتلة من الأساطير القديمة والفانتازيات الحديثة، كتلة من "التنافر المعرفي"، وعي يعيش في غيتو، لكن من صنع يديه (حنين زعبي، في مديح الحالة الطبيعية: الطبيعية كاحتياج كولونيالي، 29 نيسان/ أبريل 2023، موقع عرب 48). المتتبع للتصريحات الإسرائيلية صُدم إذًا من الوحشية، لكنه صدم أكثر من "العقلنة" التي رافقتها.

قال ألبير كامي في مقدمة كتابه "الإنسان المتمرد" إنه "ثمة جرائم ترتكب بدافع الهوى... وأخرى استنادا إلى محاكمات عقلية... إن مجموعة القوانين الجزائية تميز بينهما تميزا ملائما إلى حد كاف... استنادا إلى مبدأ سبق التصور والتصميم... وإنا لفي زمان سبق التصور والتصميم... في زمان الجريمة الكاملة... فلم يعد مجرمونا هؤلاء الأطفال العزل يتذرعون بالحب، إنهم بالعكس راشدون... ولا سبيل إلى دحض ذريعتهم: الفلسفة التي تُستخدم لكل شيء؛ حتى لتحويل القتلة إلى قضاة".

إن المجرم الإسرائيلي هو "الراشد المثالي" لهذا العصر... صاحب الجريمة الكاملة.

التعليقات