15/03/2024 - 13:47

الخروج من الكتب...

إنّ أيّ خطاب أو مشروع أو نقد سياسيّ، يجب أن يقف على السؤال المجتمعيّ، ويقدّم إجابة ثقافيّة تربويّة، أي "المدرسة الفاضلة" قبل "المدينة الفاضلة"، وهذا شرط تمكّن "قادة الفكر" (إن وُجد ذلك) من "الخروج من كتبهم وأن يقودوا المجتمع"...

الخروج من الكتب...

طه حسين (Getty)

يبدو اللجوء إلى طه حسين وتلميذه نجيب محفوظ في هذه الأيام أمرًا مستغربًا في ظلّ الإبادة الحاصلة في غزة، لكن يمكن تبرير أو تفسير ذلك بأمر بسيط، وهو أنّ هذا الرجل العظيم لم يخض حرب الجديد مقابل القديم فقط، بل فسّر الظواهر الإنسانيّة في الوقائع التاريخيّة والاجتماعيّة التي أنتجتها، وشدّد على أهميّة التربية والثقافة في الاستقلال الوطنيّ والحداثة الاجتماعيّة والتحرّر من الاستعمار، وخاض في نفوس الناس العاديّين، مثلما خاض في أبو العلاء المعري وابن خلدون. لم يسترح للنخبويّة، فانتقل من حزب الدستوريّين الأحرار الأرستقراطيّ، إلى حزب الوفد الذي عبّر عن روح الشعب المصريّ، وتوقه إلى الحريّة والاستقلال، وإذا كتب الفلاسفة عن الدولة الفاضلة، فقد كتب هو عن المدرسة الفاضلة.

ويقول فيصل درّاج عن طه حسين: "يبدأ الخطاب، الذي يرتكن إلى العقل والثقافة والقيم الكونيّة، بإنسان ممتاز، بلغة طه حسين، يؤسّس مجتمعًا ممتازًا، يجسّد مصر الحديثة، أو ’مصر الخالدة’، كما كانت وكما يجب أن تكون، والحديث الذي يصوغه ليبراليّ متّسق، يعالج المدرسة وشؤونها وهو، في اللحظة عينها، حديث اجتماعيّ – سياسيّ بامتياز، والفرق بينه وبين إيديولوجيّات لاحقة، أنه يرى السياسة في بدايتها الصحيحة، أي في الإنسان الحرّ المتعلّم المختلف عن غيره، الذي يترجم حرًّا اختلافه المستقلّ بالنقد والمبادرة والاقتراح. فالسياسة جماعيّة في تكوّنها ومؤسّساتها وأهدافها، وفرديّة في ولادتها ونشأتها، لأن تجانس الأفراد لا يثير خلافًا ولا يطالب ببديل".

ويحدّد درّاج مشروع طه حسين الحضاريّ في الكلمات الآتية: "إنّ غياب الشروط الموضوعيّة اللازمة لممارسة السياسة، بالمعنى الحديث، يفرض على التعليم الحديث، أن يكون أداة لتوليد الفرد القابل للتسييس، أي الحرّ المتعلّم الذي له حقوق الاختيار والمبادرة والتعبير. ولا غرابة، والحال هذه، أن تترجم كلمات: المدرسة، التلميذ، المعلّم، إلى كلمات مطابقة هي: السياسة، الشعب، قادة الفكر. والكلمة الأخيرة، تداولها طه حسين كثيرًا، وأعطاها عنوانًا لأحد كتبه، وأعتقد جازمًا، في لحظة صفاء، أنّ على ’قادة الفكر’: أن يخرجوا من كتبهم وأن يقودوا المجتمع".

ويخلص درّاج إلى أنّ مشروع طه حسين "ما زال في مقولاته الأساسيّة صحيحًا، ولا يزال ما نادى بإصلاحه يحتاج إلى الإصلاح، ولا يزال شعاره عن وحدة التعليم والسياسة والديمقراطيّة يتمتّع براهنيّة كاملة، كما أشار المفكّر المغربيّ عبد الله العرويّ في بعض كتاباته".

خرج طه حسين من كتبه وانخرط في مجتمعه، ودعوته لـ"قادة الفكر" بأن "يخرجوا من كتبهم وأن يقودوا المجتمع"، هي دعوة بأن يكون فكر هؤلاء "القادة" و"الصفوة" مجبولًا بالمجتمع وهمومه، والسؤال الوطنيّ والسياسيّ عنده هو سؤال اجتماعيّ يتعلّق بظروف نشأة وتربية الفرد أوّلًا.

وقراءة مشروع طه حسين تقود المرء إلى أن ينظر حوله، إلى أحوال مجتمعه، إلى الواقع الاجتماعيّ قبل السياسيّ، وليس إلى أساطير العرب عن الشعر الجاهلي، فهو يعود للأساطير والانتحال الشعريّ ليصل إلى الواقع ويعالجه. يعود إلى الماضي من أجل المستقبل.

وإذا نظر المرء حوله من خلال نظّارة طه حسين، فيكفر بكلّ الكلام الكبير عن السياسة والنقد السياسيّ في أيّامنا، فكلّه كلام فوقيّ لا يجيب عن سؤال اجتماعيّ في الواقع، ويحلّل السياسة والسياسيّ من فوق، ويجهل أنّ تلك تصنع من الأسفل وليس العكس، ويصبح هذا الكلام والنقد ليس ذا صلة بالواقع؛ أيّ غريب، لأنّه مغترب عن مجتمعه ومشاكله. فهو حديث عاموديّ وليس أفقيًّا، أو "يجبُ الذي يجبُ".

وإذا خرجنا من كتبنا، عملًا بنصيحة طه حسين، أيّ مجتمع سنجد؟ وإذا ما تجاوزنا قضيّة الجريمة والعنف، وتجاوزنا "الظروف الموضوعيّة" والكلام عن النيوليبراليّة، سنجد أنّنا أمام مجتمع ليس بلا مؤسّسات فحسب، فهذا مجرّد نقد سياسيّ لا يحتاج لمجهود ذهنيّ كبير، بل نحن أمام مجتمع أصبح غير متجانس، أكبر مرآة له مثلًا هي الانتخابات المحليّة ونتائجها، وعدم التجانس قد يعبّر عنه في التفاوت الاقتصاديّ والمعيشيّ، لكن ليس هذا حصرًا، بل في انعدام الانتماء المحليّ – للبلدة أو القرية – وهو يعني بالضرورة انعدام الشعور بالانتماء الوطنيّ.

ويتفاوت عدم التجانس المجتمعيّ من منطقة إلى منطقة، وليس المطلوب التجانس من أجل التجانس، لكن انعدام التجانس في حالتنا لا يعني حداثة وليبراليّة وتقدّمًا، بل يعني التفكّك إلى انتماءات وهويّات بدائيّة، عائليّة وطائفيّة، ويعني عدم الإنتاج الثقافيّ الخاصّ والعامّ، فقبل أن نسأل عن المشروع السياسيّ، يجب أن نسأل عن المشروع أو المشاريع الثقافيّة والتربويّة؛ "فالسياسة جماعيّة في تكوّنها ومؤسّساتها وأهدافها، وفرديّة في ولادتها ونشأتها، لأنّ تجانس الأفراد لا يثير خلافًا ولا يطالب ببديل".

إن انعدام التجانس أو التفكّك والتذرير الحاصل، وشكله الجريمة والعنف، ينعكس في تراجع الثقافة ثم السياسة، أو بسبب انعدامها، ولكي يصبح أيّ مشروع سياسيّ وطنيًّا حقًّا، عليه أن يبدأ بالمشروع الثقافيّ الجماعيّ، بالتربية، في كلّ بلدة وبلدة، وهذا هو مشروع الهويّة والانتماء. فقبل أن نسأل السؤال السياسيّ، علينا أن نسأل السؤال الاجتماعيّ، والمعالجة حتمًا ستكون ثقافيّة ثمّ سياسيّة (من الجدير بالذكر في هذا السياق، مشروع عزمي بشارة السياسيّ في الداخل، فقد سبق بيانه السياسيّ، "بيان قوميّ ديمقراطيّ"، بكتابين تناولا الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ، وهما "الخطاب السياسيّ المبتور" و"طروحات عن النهضة المعاقة"، أيّ أسّس المشروع السياسيّ على تحليل اجتماعيّ – سياسيّ، ثم رفد المشروع السياسيّ بمشروع ثقافيّ لا يقلّ أهميّة).

إنّ أيّ خطاب أو مشروع أو نقد سياسيّ، يجب أن يقف على السؤال المجتمعيّ، ويقدّم إجابة ثقافيّة تربويّة، أي "المدرسة الفاضلة" قبل "المدينة الفاضلة"، وهذا شرط تمكّن "قادة الفكر" (إن وُجد ذلك) من "الخروج من كتبهم وأن يقودوا المجتمع".

التعليقات