سياق قتل الإنسان على خلفية هويته البيولوجية

ظاهرة العنف هي ظاهرة بشرية، إذ وجد العنف على مر العصور ولم يخف نطاقه في معظم مجتمعات العالم؛ عنف فردي وعنف جماعي ودولي، وذلك رغم كل الحداثة والتطور، الذي يشمل الأنظمة السياسة الحديثة المنفتحة والتعددية وقوانين حقوق الإنسان ومساواة المرأة.

سياق قتل الإنسان على خلفية هويته البيولوجية

لا تزال جريمة قتل المرأة فقط بسبب هويتها البيولوجية، قضية يقف الإنسان السويّ أمامها مشدوها، ويحاول أن يلج أسرار القاتل؛ أبًا أو أخًا، أو قريباً آخر، أو مأجوراً، فيحصل على تفسيرٍ اجتماعي - ثقافي لظاهرة قتل المرأة على خلفية ما يسمى "شرف العائلة"؛ ولكن يصعب عليه فهم الحالة النفسية والذهنية التي تحوله إلى أداة فتك بأقرب الناس إليه. فقط علماء النفس الذين يُعينهم اختصاصهم على فهم ما وراء الخلفية الاجتماعية التي تنتج أعرافا وتقاليد قاتلة لا تصيبهم الحيرة، ليواصلوا ممارسة مهنتهم في محاولة لكبح ظاهرة العنف أو السلوك العدواني، أو السلبي للفرد.

ظاهرة العنف هي ظاهرة بشرية، إذ وجد العنف على مر العصور ولم يخف نطاقه في معظم مجتمعات العالم؛ عنف فردي وعنف جماعي ودولي، وذلك رغم كل الحداثة والتطور، الذي يشمل الأنظمة السياسة الحديثة المنفتحة والتعددية وقوانين حقوق الإنسان ومساواة المرأة. و حتى لا يفهم خطأ وكأننا نبشر بالعدمية وانعدام الحلول، نشير فقط إلى العديد من الدول الأوربية، وخاصة الدول الإسكندنافية التي تعيش في حالة استقرار بدرجة عالية، مما يعني إمكانية تحقيق مجتمعات متزنة.

أما قتل المرأة لأنها امرأة، وعلى خلفية ما يسمى "شرف العائلة"، فهي منتشرة بشكل خاص بالمجتمعات العربية والإسلامية (ولا أوافق على أنه بسبب الدين، بل بسبب تأويل الدين وتحريفه)، ومنها الشعب الفلسطيني، الذي رغم وقوعه، وربما بسبب ذلك، تحت نظام استعماري استيطاني اقتلاعي عنيف، تتفاقم في صفوفه ظاهرة العنف بشكل عام وضد المرأة بشكل خاص. وبالإضافة إلى الجرح المعنوي الناجم عن فقدان كل فرد من هذا الشعب بسبب عنف داخلي، على الصعيد الإنساني والأخلاقي، فإن حجم الضرر السياسي العام هائل لأن ذلك، أي التخلف الاجتماعي يشكل عائقا أساسيا في تحرير الشعب من السيطرة الاستعمارية، وأمام الطموح لامتلاك مؤسسة الدولة لتشكيل حياة المجتمع بصورة عصرية. ولذلك، تكثف الأصوات والمبادرات، خصوصًا في أوساط المنظمات النسائية الفلسطينية لجعل النضال التحرري شاملا ومتزامناً، الاجتماعي والسياسي، والعمل على تشييد ثقافة اجتماعية مساواتية وإنسانية وتقدمية. 

لقد بات مؤكداً أنه حتى لو تحررت الأوطان من الاستعمار، ستتحوّل النخب إلى نخب رجعية ومتخلفة، بل متوحشة، ضد شعوبها وأفرادها وضد نسائها، إذا لم تطبق شعاراتها حول حرية الفرد وكرامته ومساواة المرأة. وهذا ما نراه اليوم في الأوطان العربية التي تحررت من الاستعمار قبل عشرات السنين، حيث يقف الآن الإنسان العربي، السوي عقليا وأخلاقيا، مصدوما ليس فقط بسبب همجية الأنظمة، الملكية والقومية، بل بسبب انحطاط أوساط واسعة من المثقفين، الذين باتوا أبواقا لهذه الهمجية، وهي الكارثة الكبرى، والذين يمارسون ذكوريتهم عبر الأعلام.

في الأسبوع الأخير، كما في الأسابيع والأشهر والسنوات الأخيرة، فُجع المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، بجرائم القتل عمومًا، وقتل النساء، أمهات وطفلات خصوصًا. وكل المعطيات الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والسياسة تشير إلى أن لا نهاية في الأفق لهذا القتل والعنف الداخلي. ويستغرب مراقبون من الخارج كيف يمكن لمجتمع عربي يعيش منذ عام 1948 في ظل دولة تصنف على أنها غربية حديثة، وقد حقق معدلات عالية في الإنجازات التعليمية، ورسخ ذاته كأقلية قومية وكجزء من شعب أصلاني رغم وقوعه تحت نظام استعماري عنصري، و في الوقت ذاته تبقى هذه التقاليد القاتلة راسخة وتحملها أجيال شابة.

ويعكس هذا الاستغراب حالة الجهل بواقع الفلسطينيين الذين فرضت عليهم المواطنة الإسرائيلية. والحقيقة، أن هذا الجهل ينسحب على الكثيرين من الفلسطينيين أنفسهم، وخاصة من هم في مواقع مسؤولية داخل المؤسسات التربوية والاجتماعية والتمثيلية القطرية، والأحزاب والحركات السياسية؛ بالتالي يحصرون ردودهم في الجانب التربوي والأخلاقي، من دون السياسي.

إنّ انتشار العنف واستمرار النظرة الرجعية إلى المرأة، نابع أساساً من ثلاثة عوامل:

العامل الأول؛ وقوع المجتمع الفلسطيني تحت نير نظام استعماري عنصري، جرد المجتمع من مصادر قوته المادية (أرض واقتصاد ونخبته)، ومن إمكانية تطوره الطبيعي الحر نحو الحداثة بمفهومها الشامل. هذه السيطرة الاستعمارية المستمرة أحدثت تشوها عميقا، بمسيرة تطورنا، وسدت الأفق أمام الأجيال الشابة، فانتشر اليأس والإحباط، الذي يتحول بطبيعة الحال، في أحيان كثيرة إلى عنف كلامي وجسدي داخل المجتمع والأسرة، وإلى توتر وتنافر حتى بين الجيران.

العامل الثاني؛ النظام النيوليبرالي المعولم، الذي أفقر الناس من جهة، ونشر ثقافة الاستهلاك من جهة أخرى، وأدخل قيم الفردانية والنجاح الشخصي. وهذا يؤدي إلى تذرير المجتمع إلى أفراد، ليس بمعنى استقلالية الفرد في التفكير والحرية المدنية والخيارات السياسية، بل بمعنى ترسيخ الفردانية على حساب الانتماء الجماعي والتضامن مع أبناء وبنات المجتمع والشعب، في مواجهة الظلم الخارجي والفقر والعنف الداخلي.

العامل الثالث؛ الثقافة التقليدية وخاصة عناصرها المعيقة للتطور الاجتماعي، والتي تهدد وحدته مثل التعصب العائلي والطائفي والديني والأبوية والاستقواء على المرأة.

كيف نواجه ذلك؟ هذا سؤال كبير أمامنا جميعًا، لكن من المهم أن نتذكر أن الشعوب التي وقعت تحت الاستعمار والتي تمكنت في مرحلة معينة من توحيد الشعب أو غالبيته تحت حركة تحرر وطني، لجمت أو كبحت الظواهر التفتيتية، كالعشائرية والجهوية والعنف ضد المرأة، ووجهت العنف الثوري ضد المستعمر، وذلك من خلال قيادة كاريزماتية ومتفانية وذات رؤية تحررية سليمة. في حالة الشعب الفلسطيني، شكلت منظمة التحرير الفلسطينية هذا النموذج من القيادة إلى حد ما. وتحققت وحدة كفاحية لافتة وتقدمت خلالها مكانة المرأة الفلسطينية كثيرا. غير أن تفكك حركة التحرر وتحول المتنفذين فيها إلى حراس للاستعمار، أعاد انتاج عوامل التخلف والتشرذم، وأحياناً بلباس حداثي مزيف.

في الداخل، قطع الفلسطينيون شوطا عظيما في الحفاظ على هويتهم وفي تبلورهم كجزء من شعب، وحققوا تعليما واسعا، وأنتجوا أحزابهم الوطنية وهيئاتهم التمثيلية، وفرضوا قضيتهم على العالم؛ غير أنهم يعيشون الآن أزمة قيادي وأزمة رؤية وأزمة مشروع. معظم القيادات لم تتغير، ولا يجري فتح الطريق أمام طلائع الجيل الشاب وأصحاب المعرفة والخبرة، ليكونوا في مقدمة العمل والقيادة من أجل إعادة بناء مشروع سياسي ثقافي، تقوده هيئة عربية فلسطينية عليا، تكون مرجعية وقيادية موجهة ومخططة، في مواجهة تغول نظام الأبرتهايد الإسرائيلي – الصهيوني ضدنا

ليست المظاهرات ولا المبادرات النسائية ضد العنف بلا معنى، بل بالعكس، هي ضرورية لأنها ضرورة تربوية وتحشيدية وأخلاقية، بل يجب أن يشمل هذا التوجه المؤسسات التربوية والأسرة التي هي أساس المجتمع لتعميق التربية على المساواة بين المرأة والرجل وضد العنف. ولكن، لا بديل عن رؤية إستراتيجية وعن قيادة قطرية تفكر إستراتيجيا،  تضع المجتمع على طريق خلق وعي جديد، تحرري إنساني بمفهومه الشامل.

التعليقات