ما معنى الحركة الوطنية في ظل الفوضى الحالية؟ (3/3)

هل يستطيع حزب واحد أو حتى الأحزاب وحدها، إحداث النقلة النوعية الثورية المطلوبة، في واقع العمل السياسي؟

ما معنى الحركة الوطنية في ظل الفوضى الحالية؟  (3/3)

ما العمل، ومن هي القوة المؤهلة لبناء البديل؟ 

هل يستطيع حزب واحد أو حتى الأحزاب وحدها، إحداث النقلة النوعية الثورية المطلوبة، في واقع العمل السياسي؟

لنحدد أولا ماذا نريد. منطق الحركة الوطنية يقول بضرورة التصرف على أننا جزء من شعب واحد، بالفعل وليس بالكلام. وهذا يتطلب إعادة تعريف وضعيتنا، وإعادة تعريف الكيان السياسي الذي نعيش تحت حكمه. ولا يقل أهمية عن ذلك، إدراك الخصوصية التي نعيشها بعقلية تحررية وبتفكير حديث، لا كعائق أمام الانطلاق والسعي إلى الاعتماد على الذات.

لا يجوز مواصلة ممارسة الخطاب السياسي نفسه، بل نحتاج إلى تطويره، والارتقاء بطموحاتنا، على الأقل في المرحلة الحالية التي لا يظهر فيها أفق لحل عادل لقضية فلسطين، أو تحقيق مساواة للمواطنين العرب.

إسرائيل حسمت وجهتها النهائية، بأنها نظام أبارتهايد كولونيالي، لا يقيم أي اعتبار للحقوق القومية لشعب فلسطين، ولا حقوق مدنية كاملة لمواطنيها العرب، بل يضعهم في خطر وجودي حقيقي. هذه هي الأيديولوجيا الأصلية التي قام عليها المشروع الصهيوني، وها هو يعود إليها بصورة سافرة.

بعد اتفاق أوسلو، الذي صفق له البعض عندنا في الداخل، أطلق التجمع الوطني الديمقراطي ثورة في الخطاب السياسي في مواجهة الأيديولوجية الصهيونية، من خلال دولة المواطنين، وحوَّله إلى مشروع جماهيري منظم، وأجبر الدوائر الأكاديمية الصهيونية على الانشغال به، ووضعها في حالة إرباك ودفاع عن النفس، قبل أن تنتقل لاحقا إلى الهجوم، حيث لم تعد تبالي به أو تشعر بالحرج إزاءه.

لقد ظل هذا الخطاب فاعلا لسنوات طويلة، في الوعي الفلسطيني داخل الخط الأخضر، ومطلقًا تفاعلات فكرية عميقة، ومحفزا على إنتاج ثقافة مقاومة فكرية وسياسية وشعبية، ومحركًا لفعل سياسي مختلف، وتعبوي لقطاعات واسعة من الجيل الشاب.

وقد اشتمل البرنامج السياسي والثقافي للتجمع على ثلاثة محاور أساسية:

- أولًا، المناداة بتفكيك البنية الصهيونية لإسرائيل، باعتبارها مصدر العنصرية، والظلم الواقع على المواطنين العرب، وكشرط لتحقيق المساواة الكاملة؛

- ثانيًا، إقامة الحكم الذاتي الثقافي لتحقيق الحقوق الجماعية للأقلية الفلسطينية، والذي يشمل إعادة بناء لجنة المتابعة، منتخبة من العرب مباشرة؛

- ثالثًا، إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة والقطاع، وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.

وإذا راجعنا هذه الحقبة، منذ أوسلو حتى اليوم، نستطيع القول إن كل ما أنجز حتى اليوم من خطاب سياسي وثقافي، وتعبئة في أوساط الناس، والجامعيين والأكاديميين، في حالة تراجع مستمر، بل في حالة تآكل.

وأسبابه تعود، أولًا، إلى تنبه النظام الصهيوني، وإلى الإنجازات التي حققها المواطنون العرب، وأحزابهم وحركاته الوطنية، وخاصة التجمع، فأعاد تفعيل آلة القمع بدرجات مشابهة، لما كان عليه الحال أيّام الحكم العسكري في الخمسينيّات والستينيّات. لم يمنح نظام الأبارتهايد التجمع فرصة لتنفس الصعداء، إذ تواصلت الملاحقة والتضييق والترهيب، ومحاولة شطبه المتكررة. كما شكل حظر الحركة الإسلامية وإغلاق مؤسساتها وجمعياتها، وسجن الشيخ رائد صلاح وعشرات من كوادر الحركة، ضربة ليس فقط للحركة بل للمجتمع الفلسطيني برمته.

لا شك أن حزب التجمع وغيره من الحركات، يتحمل كل منها قسطًا من المسؤولية عن الأوضاع الصعبة التي تعيشها هذه الأحزاب والحركات، التي تحتاج إلى مراجعة جريئة تنظيمًا وسياسةً وأداءً، وذلك قبل أن يستفحل التيار الانتهازي، الذي ينزع السياسة عن تجربتنا النضالية، ويقوض كل الإنجازات الهامة التي حققناها، قبل أن يوصلنا إلى حالة من الفوضى السياسية الشاملة، والانهيار الأخلاقي والاجتماعي.

غير أنني اعتقد أن التجمع، رغم كل الصعوبات الخارجية والداخلية التي يعيشها، ولكونه أسس برنامجه ورؤيته منذ اليوم الأول على اعتبار إسرائيل الدولة، وليس فقط الصهيونية، كيانا عنصريا وكولونياليًا، أكثر الأحزاب مؤهلةً من الناحية الفكرية والسياسية لإعادة إطلاق ثورة في الخطاب والرؤية الوطنية الجامعة، التي يمكن ترجمتها ميدانيًا في محورين: 

* المحور الأول، إعادة نشر رؤيته بخصوص إعادة بناء لجنة المتابعة، المدوّنة في برنامجه، وفي عشرات المقالات والحوارات، وذلك في إطار حملة شعبية حقيقية تثقيفية توعوية، من خلال الإعلام والندوات، والأهم نشر طاولات للتوقيع على هذا المطلب في المدن والقرى، وفي الجامعات والكليات. والرسالة المتضمنة في هذه الحملة، هي خلق وعي بالحاجة الوجودية لتنظيم صفوفنا وتعزيز مؤسساتنا، وتنظيم اللجان الشعبية، وإقامة الصندوق القومي، واعتماد إستراتيجية نضال شعبي بديلة. هكذا نعيد بناء مجتمعنا ونؤسس لسلوك جماعي حضاري في مواجهة أكثرية صهيونية، يقودها نظام كولونيالي يتجه نحو الفاشية. إن إستراتيجية التنظيم هذه تستطيع في الأمد المنظور، البدء في توفير الأجوبة العملية على تغول نظام الفصل العنصري والتهميش والإفقار، وطمس الهوية، والعنف المستشري.

* المحور الثاني، هو تطوير برنامجه السياسي الوطني، من برنامج دولة المواطنين داخل إسرائيل ودولة مستقلة في الضفة والقطاع وعودة اللاجئين، إلى تبني صراحة وبصورة رسمية، خيار الدولة الديمقراطية الواحدة في فلسطين التاريخية. ولا بد من الإشارة إلى أننا، نحن مؤسسي التجمع، كنّا حريصين ألا نقطع مع هذا الحل الإستراتيجي، إذ ضمّنا في البرنامج السياسي للحزب إشارة غير مباشرة، إلى كون التجمع منفتحًا على حل أكثر عدالة، أي الدولة الواحدة. وبسبب طبيعة المرحلة الصعبة، التي انطلق فيها التجمع بعد اتفاق أوسلو، وحاجته للانخراط في اللعبة البرلمانية وليتحول إلى قوة مؤثرة أبرز في خطابه اليومي، خطاب دولة المواطنين وطبيعة إسرائيل اليهودية العرقية، أكثر مما أبرز طابعها الكولونيالي الاستعماري، مع أن ذلك متضمنًا في برنامجه.

والآن، واستنادًا إلى ما يُعرّف التجمع نفسه كجزء من الحركة الوطنية الفلسطينية، وبعد الإعلان الإسرائيلي الرسمي والقانوني، عن الهيمنة الاستعمارية الكاملة على فلسطين التاريخية، بات الواجب السياسي والوطني، يتطلب الانتقال إلى تبني حل الدولة الواحدة، الذي يجمع كل الشعب الفلسطيني وينصف كل تجمعاته.

لم يعد مقبولًا لحركة وطنية داخل مناطق 48 وخارجها، أن تتجاهل الواقع الجديد في فلسطين التاريخية، وأن تتجاهل الأفراد والمجموعات والدوائر الأكاديمية الفلسطينية، التي قطعت شوطًا كبيرًا في التنظير لهذا الخيار، ومحاولات الانتظام حوله واستعادة الوعي التاريخي، ولا تستطيع تجاهل تزايد الأعداد من الأجيال الشابة الفلسطينية، التي تلتف حول هذا الخيار. 

إنه وعي جديد، وطني ديمقراطي، يتشكل في كل تجمع فلسطيني. إن أخطر وأردأ ما يمكن أن يحصل لحركة وطنية، هو أن تجوّف نفسها بنفسها وتختزل وعيها في جزئيات، أو تنكر الوقائع المتشكلة، وتصبح كالأحزاب الأخرى التي لا تزال تعتبر المشاركة في كنيست نظام الأبارتهايد دينًا، والذي استنفد جدواه. إن عجز الحركة الوطنية عن التجاوب مع هذه التحديات، سيدفع أوساطًا من خارج الأحزاب إلى التحرك في طريق طويل وصعب، نحو بناء بدائل وطنية تحررية.

وبالفعل، تنمو خارج الأحزاب والحركات مبادرات عديدة وأطر وجمعيات وروابط في مجالات الثقافة والأدب والشعر والفن والإعلام التي قد تتبلور، في مرحلة ما، تحت سقفٍ وطني، ورؤية تحررية ديمقراطية، بآليات حديثة.

أعتقد أنه لم يعد ممكنا، وطنيا وسياسيا، بعد كل هذه التحولات الخطيرة في المشهد الإسرائيلي، تصور إقامة حركة وطنية قائمة بذاتها داخل الخط الأخضر، منفصلة عن الاتجاه الموضوعي الآخذ بالتشكل، في صفوف الشعب الفلسطيني نحو التوحد الشامل، والعودة إلى التاريخ، للانطلاق نحو المستقبل. 

إن خيار الدولة الواحدة بات، في نظري، المحور الشرعي الأساس الذي يجب أن تتمحور حوله الحركة الوطنية الفلسطينية القادمة بحلة جديدة، على أنقاض الفصل العنصري والاستعمار والتجزئة. إنه اتجاه قائم، وآخذٌ في التقدم ببطء، ولكن بثبات. هذا لا يعني التوقف عن المحاولة لتنظيم صفوفنا داخل الخط الأخضر، وإعادة بناء لجنة المتابعة، واستثمار كل طاقاتنا، وإنجازاتنا من أجل هذا المشروع، لأن من دونه سيتسارع الانحدار والتفكك.

وكما علمتنا الحياة، فإنها لا تقبل الفراغ، حتى لو طال.

التعليقات