حركة مقاطعة إسرائيل كحركة مقاومة صلبة ضد الاحتلال

تأييد الجمهور الفلسطيني لحركة مقاطعة إسرائيل، رغم كون الحركة حركة مقاومة سلمية، يقع ضمن محور تأييد المقاومة الصلبة (أو المؤثرة أو الموجعة)، ما يعني أن تأييد حركة مقاطعة إسرائيل يرتبط طرديا مع تأييد بقية وسائل المقاومة الصلبة،

حركة مقاطعة إسرائيل كحركة مقاومة صلبة ضد الاحتلال

شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة منذ احتلالهما عام 1967 مقاومة شعبية ضد الاحتلال، تمثلت بالإضرابات والمظاهرات ورفع الأعلام وتقديم العرائض، وأحيانا بمواجهات عنيفة مع قوات الأمن الإسرائيلية. وتعززت المقاومة الشعبية بشكل خاص في الانتفاضتين الأولى (اندلعت في كانون أول/ ديسمبر 1987) والثانية (اندلعت في أيلول/ سبتمبر 2000). ورغم تشابه الكثير من وسائل المقاومة في الانتفاضتين، وبخاصة الإضرابات والمظاهرات والمسيرات الاحتجاجية والمواجهات مع قوات الاحتلال ومقاطعة البضائع الإسرائيلية وعدم الامتثال للقوانين والأنظمة الإسرائيلية، فقد تميزت الانتفاضة الثانية عن الأولى بكثرة المواجهات المسلحة بين الفصائل الفلسطينية والجيش الإسرائيلي، وبقيام هذه الفصائل عمليات تفجيرية داخل إسرائيل، تسببت بمقتل مئات الإسرائيليين. كما طورت الفصائل الفلسطينية، وبخاصة حركة حماس، أسلحتها، وباتت تمتلك صواريخ تضرب بها المدن والبلدات الإسرائيلية في الجنوب. وفي عام 2014، اندلعت الانتفاضة الثالثة، ولا تزال بعض أنشطتها مستمرة، والتي اشتملت على عمليات الطعن بالسكاكين والدعس بواسطة السيارات الخاصة، التي قام بها فلسطينيون أفراد، بالأساس، ضد مستوطنين وجنود وأفراد شرطة إسرائيليين. وبشكل عام يمكن القول إن مقاومة الفلسطينيين في الضفة والقطاع للاحتلال الإسرائيلي هي بالأساس مقاومة سلمية ارتكزت، على الإضرابات والمظاهرات ورفع الأعلام، مع أنها ترافقت أحيانا بنشاطات مقاومة مسلحة، كالمواجهات المسلحة مع قوات الاحتلال في الانتفاضة الثانية وعمليات الطعن والدعس والتفجير في الانتفاضة الثالثة.

بالإضافة إلى وسائل المقاومة التقليدية، المذكورة أعلاه، ظهرت في الفترة الأخيرة وسيلة مقاومة جديدة، ففي عام 2005 نشأت "حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها" (اختصارا حركة مقاطعة إسرائيل BDS)، حينما أصدرت أغلبية منظمات المجتمع المدني الفلسطيني نداء تاريخيا موجها إلى أحرار وشعوب العالم، يطالبهم بدعم مقاطعة إسرائيل أكاديميا وثقافيا واقتصاديا كشكل من أشكال المقاومة الفلسطينية الشعبية والسلمية. أما أهم مطالب الحركة فهي:

1. إنهاء إسرائيل احتلالها للأراضي العربية المحتلة منذ عام 1967 (الضفة الغربية وقطاع غزة)، بما في ذلك تفكيك الجدار الفاصل والمستوطنات الإسرائيلية.

2. إنهاء إسرائيل كافة أشكال الفصل العنصري ضد الفلسطينيين، واعترافها بحق فلسطينيي 1948 بالمساواة الكاملة.

3. احترام وحماية ودعم حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى ديارهم التي هجروا منها واستعادة ممتلكاتهم، كما نص على ذلك قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 194.  

عُرِفت هذه الحركة عالميا بحركة  Boycott, Divestment and Sanctions واختصارا "BDS". وكما يشير اسمها، فإن نشاطات الحركة تتمحور فيما يلي:

1. مقاطعة: تشمل مقاطعة الشركات الإسرائيلية، وكذلك الدولية المتواطئة في انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين، ومقاطعة المؤسسات والنشاطات الرياضية والثقافية والأكاديمية الإسرائيلية.

2. سحب الاستثمارات: تعني الضغط على المستثمرين والمتعاقدين مع الشركات الإسرائيلية، والدولية المتورطة في جرائم دولة الاحتلال، بسحب استثماراتهم وإنهاء تعاقدهم مع هذه الشركات.

3. فرض العقوبات: والمقصود بالعقوبات تلك الإجراءات العقابية التي تتخذها الحكومات والمؤسسات الرسمية والأممية ضد دولة (مثل إسرائيل) أو جهة تنتهك حقوق الإنسان، بهدف إجبارها على وقف هذه الانتهاكات. وتشمل العقوبات العسكرية والاقتصادية والثقافية والأكاديمية وغيرها.

حركة مقاطعة إسرائيل هي حركة مقاومة سلمية، مناهضة للعنصرية والصهيونية، وتحظى بدعم من قبل اتحادات ونقابات وأحزاب وحركات شعبية ومؤسسات مجتمع مدني في العديد من دول العالم. ويتنامى تأثير الحركة بشكل ملموس في مجالات مختلفة، ففي المجال الثقافي، مثلا، قاطع هذا العام أكثر من مئة فنان عالمي مسابقة "يوروفيجن" بسبب انعقادها في إسرائيل، وفي المجال الأكاديمي، أعلنت عدة جامعات في جنوب أفريقيا وإيرلندا وإسبانيا مقاطعتها للجامعات الإسرائيلية، وفي المجال الاقتصادي، قرر البرلمان الدانماركي في كانون الأول/ ديسمبر 2018، استثناء المستوطنات من أي اتفاق ثنائي بين الدانمارك وإسرائيل. وفي تموز/ يوليو 2018، صوَّت البرلمان الإيرلندي لصالح قانون يحظر استيراد البضائع الإسرائيلية المصنعة داخل المستوطنات، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2017، أعلنت منظمة الفلاحين الهندية، التابعة للحزب الشيوعي الهندي، انضمامها لحركة مقاطعة إسرائيل، بالإضافة إلى عشرات الشركات العالمية والصناديق الاستثمارية التي أوقفت تعاملها مع إسرائيل، مثل شركة "أورانج" وشركة "فيوليا" والبنك النرويجي والبنك الدانماركي.

ردّا على تنامي حركة مقاطعة إسرائيل في العالم، وبخاصة في أوروبا والولايات المتحدة، فقد صعّدت إسرائيل في السنوات الأخيرة حربها ضد هذه الحركة، معتبرة إياها كحركة مناهضة للسامية وأنها "تشكّل تهديدا إستراتيجيا على الدولة"، تمثل ذلك بعقد العديد من المؤتمرات والندوات حول المقاطعة، وفرض قيود على حرية تنقل ناشطي الحركة وقادتها، وسن قوانين تمنع المقاطعة، ففي عام 2011 سنّ الكنيست قانون المقاطعة، الذي يمنع المواطنين الإسرائيليين والمنظمات الإسرائيلية من العمل لأجل مقاطعة مؤسسات إسرائيلية أو مستوطنات إسرائيلية أو جهات مختلفة تقيم علاقات معها، وفي شهر آذار/ مارس 2017، سنّ الكنيست قانونا، يتم بموجبه منع أجانب من دخول إسرائيل إذا كانوا من مؤيدي حركة المقاطعة، واعتمادا على هذا القانون، قررت الجهات المعنية في إسرائيل مؤخرا منع عضوي الكونغرس الأميركي عن الحزب الديمقراطي؛ إلهان عمر، ورشيدة طليب، من دخول البلاد بسبب دعمهما لحركة مقاطعة إسرائيل.

هل يؤيد الجمهور الفلسطيني حركة مقاطعة إسرائيل؟ وما هي وسائل المقاومة الأخرى التي يؤيدها؟

في بحث أجريتُه على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة البالغين، حول وسائل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وتم نشره في مجلة المستقبل العربي،[1] تبيّن أن أكثر وسيلتَي مقاومة تأييدا هما حركة مقاطعة إسرائيل (اقتصاديا وأكاديميا وثقافيا) وتوحد الفصائل الفلسطينية وتبنيها الكفاح المسلح، فقد حظيت كل من هاتين الوسيلتين بتأييد 60% من أفراد العينة، المكونة من 1200 شخصا، كما أن أغلبية بسيطة (52%-54%) من أفراد العينة ذكروا أنهم يؤيدون عمليات فدائية ضد المستوطنات في الضفة الغربية، ويؤيدون عمليات فدائية ضد أهداف عسكرية داخل إسرائيل، أما وسيلتَا المقاومة الأقل تأييدا فهما التفاوض مع إسرائيل لإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي (43%)، وعمليات فدائية ضد أهداف مدنية (مثل مراكز تجارية ومحطات باصات) داخل إسرائيل (35%).

ولتسهيل عملية التحليل، تمّ، بواسطة منهجية تحليل العوامل (Factor Analysis)، اختزال وسائل المقاومة الثماني إلى محورين (أو عاملين):

تأييد المقاومة الصلبة (أو الخشنة):

1. تأييد عمليات فدائية ضد المستوطنات في الضفة الغربية.

2. تأييد عمليات فدائية ضد أهداف مدنية (مثل مراكز تجارية ومحطات باصات) داخل إسرائيل.

3. تأييد عمليات فدائية ضد أهداف عسكرية داخل إسرائيل. 

4. تأييد توحد الفصائل الفلسطينية وتبنيها الكفاح المسلح.

5. تأييد حركة مقاطعة إسرائيل (اقتصاديا وأكاديميا). 

 تأييد المقاومة الناعمة:   

1. تأييد مظاهرات سلمية في الضفة والقطاع ضد الاحتلال.

2. تأييد التفاوض مع إسرائيل لإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

3. تأييد توحد الفضائل الفلسطينية وتبنيها المقاومة السلمية. 

ومن الجدير ذكره أن معامل الثبات (Reliability Alpha) للمحور الأول (تأييد المقاومة الصلبة) هو 0.885 وللمحور الثاني (تأييد المقاومة الناعمة) هو 0.682، ما يعني أن أسئلة كل محور منسجمة ومترابطة، وكذلك فإن معامل ارتباط "بيرسون" بين المحورين هو 103.- (على مستوى دلالة .01)، ما يعني أن هنالك علاقة عكسية بينهما مع أنها نسبيا ليست قوية. فالفلسطيني الذي يؤيد المقاومة الناعمة يميل إلى عدم تأييد المقاومة الصلبة، والعكس صحيح، أي أن من يؤيد المقاومة الصلبة يميل إلى عدم تأييد المقاومة الناعمة.

أما تسميتنا لمحورَي (أو شكلَي) المقاومة، ناعمة وصلبة، فقد استندنا في ذلك إلى الكاتب الأميركي، جوزيف ناي (Joseph Nye) وصاحب نظرية "القوة الناعمة"[2] (2004)، الذي ميّز بين نوعين للقوة في العلاقات الدولية: قوة ناعمة (soft power)، وهي قدرة الدولة على التأثير على الدول الأخرى من خلال الجذب والإقناع، وقوة صلبة (hard power) وهي قدرة الدولة على التأثير من خلال الإجبار. وفي حين أن القوة الناعمة تعتمد على جاذبية ثقافة الدولة ومُثُلها السياسية وسياساتها الخارجية، فإن القوة الصلبة تنبثق من قوة الدولة العسكرية و/ أو الاقتصادية، وحيث أنه في مقاومة الاحتلال أيضا، يمكن استخدام القوة بكل أنواعها، فقد ميّزنا، لغرض التحليل، بين شكلين للمقاومة: مقاومة ناعمة، تتم باستخدام وسائل ناعمة، غير عنيفة مثل عرائض، ومفاوضات، ومظاهرات سلمية، ومقاومة صلبة تشمل عمليات فدائية، كفاح مسلح، وحركة مقاطعة إسرائيل.

وهكذا، فإن تأييد الجمهور الفلسطيني لحركة مقاطعة إسرائيل، رغم كون الحركة حركة مقاومة سلمية، يقع ضمن محور تأييد المقاومة الصلبة (أو المؤثرة أو الموجعة)، ما يعني أن تأييد حركة مقاطعة إسرائيل يرتبط طرديا مع تأييد بقية وسائل المقاومة الصلبة، وبخاصة الكفاح المسلح، ولا يرتبط (أو يرتبط عكسيا) مع تأييد المقاومة الناعمة. ويبدو أيضا أن تصعيد إسرائيل حربها في السنوات الأخيرة ضد هذه الحركة، وتصنيفها كحركة مناهضة للسامية وأنها "تشكّل تهديدا إستراتيجيا للدولة" يدعم منطق تصنيفها في هذا البحث ضمن المقاومة الصلبة.

وبالنسبة للعلاقة بين تأييد المقاومة وعدد من متغيرات الخلفية الاجتماعية، فقد أوضح تحليل الانحدار المتعدد (multiple regression analysis) أنه توجد علاقة ذات دلالة إحصائية بين تأييد المقاومة ومتغيرات اللجوء ومكان السكن والمنطقة والتأييد الحزبي،[3] فاللاجئون، الذين تم تهجيرهم من مدنهم وقراهم عام 1948، أكثر تأييدا للمقاومة الصلبة من غير اللاجئين، وكذلك سكان المخيمات، وهم بطبيعة الحال لاجئون تم تهجيرهم، وسكان القرى، الذين تضرروا أيضا من الاستعمار الصهيوني الكولونيالي (مصادرة أراضيهم، وبناء مستوطنات عليها، واعتداء المستوطنين عليهم) أكثر تأييدا للمقاومة الصلبة من سكان المدن. من ناحية أخرى، لا توجد علاقة ذات دلالة إحصائية بين متغيرَي اللجوء ومكان السكن وبين تأييد المقاومة الناعمة.

وأظهر تحليل الانحدار أيضا أن سكان قطاع غزة أكثر تأييدا للمقاومة الصلبة، المسلحة وغير المسلحة، وسكان الضفة الغربية أكثر تأييدا للمقاومة الناعمة والسلمية، أما سكان القدس، فيبدو أنهم أقل تأييدا، من سكان قطاع غزة ومن بقية سكان الضفة الغربية، للمقاومة الصلبة والناعمة على حد سواء، وقد يعود ذلك إلى ضم القدس الشرقية إلى إسرائيل، وغياب السلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية عنها، وتوفر فرص عمل للمقدسيين في سوق العمل الإسرائيلي. إن ضعف تأييد سكان القدس للمقاومة قد يكون مقلقا من منظور نضالي تحرري، ما يستوجب بذل الجهود للحفاظ على هوية القدس وتعزيز وحدتها (أو تواصلها) مع بقية الضفة الغربية، رغم المعيقات الإسرائيلية الكبيرة. 

وبالنسبة للتيار السياسي، فقد أوضح التحليل أن مؤيدي التيار الإسلامي (حماس والجهاد الإسلامي) وأحزاب اليسار (وبخاصة الجبهتين الشعبية والديمقراطية) أكثر تأييدا للمقاومة الصلبة، وأن مؤيدي حركة فتح، أكثر تأييدا للمقاومة الناعمة. أما المستقلون، ورغم أنهم أقل تأييدا للمقاومة الناعمة من مؤيدي حركة فتح، فيبدو أن موقفهم من المقاومة الصلبة شبيه بموقف مؤيدي حركة فتح. يبدو أن اختلاف موقفَي حماس وفتح من وسائل مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وبخاصة المقاومة المسلحة، هو السبب الرئيسي في استمرار الانقسام الفلسطيني الذي بدأ في صيف 2007 ولا يزال قائما، ولإنهاء هذا الانقسام، لابُدَّ أولا من الاتفاق على إستراتيجية نضالية لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي.


[1]  ميعاري، محمود (2019) اتجاهات الجمهور الفلسطيني نحو مقاومة الاحتلال، المستقبل العربي ، العدد 384 (أيار 2019)، ص 67-95.

[2]  Nye, Joseph S (2004) Soft Power: The Means To Success In World Politics, New York: Public Affairs. 

[3]  ميعاري، مصدر سابق.

* بروفيسور في علم الاجتماع - فلسطين

التعليقات