في التشتت الفلسطيني

سينتصر العالم للفلسطيني بقيمه وليس بسرديته أو روايته فقط. هكذا علمنا سود جنوب أفريقيا، وهكذا علمتنا الحركات الفلسطينية مرةً، قبل 4 عقود.

في التشتت الفلسطيني

إعادة القضية إلى جذورها

ليس المأزق الوطني الفلسطيني الراهن جديدًا، ولا مستحدثًا نتيجة الإعلان عن الصفقة الأميركية – الإسرائيلية. إنها أنوميا جماعية تطرقتُ إليها سابقًا. يمكن مد خيط هذا المأزق إلى اجتياح بيروت في العام 1982، عندما بدت منظمة التحرير بلا سلاح سياسي دبلوماسي وبلا سلاح يحمي مخيمات اللاجئين. تدحرج المأزق مُذاك وصولا إلى أوسلو. سياسة "إطفاء الحرائق" وتحصيل ما يمكن تحصيله. غزة وأريحا أولا، مثالا.

لكن الجديد أن الصفقة ألغت ما استكانت إليه القيادة الفلسطينية طيلة أكثر من عقدين. لقد استبدلت الشرعية الدولية بشريعة كوشنر وفريدمان، شريعة توراتهما، حسب فهمها. كُتبت كأنها نص ميثولوجي من الدرجة الخامسة ويجدد الوعد الإلهي بالأرض.

لا تواجه الغيبيات بالغيبيات. لا تُلغي ميثولوجيا واحدة الأخرى. يلجأ الإنسان للميثولوجيا لمواجهة الميثولوجيا إذا عجز عن فهم الواقع أو التعامل معه. الميثولوجيا قد تكون دينية غيبية، لكنها قد تكون أيضًا علمانية. الدليل؟ الصهيونية. حركة قومية علمانية حديثة قوامها الميثولوجيا، أو كما يتندر العلمانيون الصهاينة، "لا نؤمن بالرب، لكنه وعدنا بالأرض".

قد تواجه السردية بسردية موازية، لكن معركة السرديات هي منزلق خطير. ليس الفلسطيني نصًا تاريخيًا مفتوحًا على التأويل، أو مادة خام تستخدم في سرد الروايات. الفلسطيني لحم ودم، بشر قائم بحد ذاته، ليس بحاجة لوعود من الله بتحرير القدس. ألم يخاطبه شاعر حصار بيروت بأنه "جربناك جربناك"؟

عمل من كتاب "أبيض أسود" للفنان محمد سباعنة - Justworld books) Palestine In Black and White)

في الأثناء، تحوّل الفلسطيني إلى حقل تجارب لدى قيادته السياسية. فلنجرب رابين. جربناه. فلنجرب إيهود براك. جربناه وجربنا شارون فاغتيل رمزنا وصار شهيدًا. فلنجرب أولمرت. جربناه. فلنجرب أوباما. جربناه وجربنا نتنياهو. نتيجة التجربة كانت "قطعة جبنة سويسرية" كما قال أبو مازن بنفسه. هو يقصد أراضي سلطته، وأقصد الشعب الفلسطيني. تحوّل الشتات إلى تشتت.

الاحتيال أو المكر

تواجه الميثولوجيا بالواقع. أو للدقة بتكثيف الواقع وعقلنته. العقلنة تعني ألا تنغمس فيه وألا تتجاهله أو تعيش حالة إنكاره. أن تحفظ مسافة منه كي تتمكن من توقع حركته. هذا يتيح اليقين، واليقين مضاد حيوي للأنوميا. العقلنة فضيلتها الإمساك بالواقع وعدم الانجرار خلفه. أن تسمي الأشياء باسمها. أن تضرب الواقع بسيف العقل وليس بمطرقة الميثولوجيا أو الأيديولوجيا. أن تسمي الفشل فشلا.

لكن ذلك لا يعني براغماتية المنهزمين. لا بأس بالاحتيال والمكر. سيرة ثورات العبيد على طول التاريخ تؤكد فضيلة الاحتيال والمكر. السيد يطلب من العبد أن يكون واقعيا غير عقلاني، لأن قبول الواقع يعني انتهاء دور العقل. انتهاء دور العقل يعني انتهاء السيادة على الذات. العبد يكون عقلانيا وماكر واقعيا.

يبدو أن الصهيونية أدركت ذلك مبكرًا. تحايلت على واقع العداء لليهود أو اللاسامية في أوروبا في القرن الماضي، بتجاوزه. تجاوزت واقع العداء لليهود واللاسامية بالهروب منه إلى الشرق، وفي الوقت نفسه الإصرار على الانتماء إلى الغرب. لم يكن بمقدورها القضاء على العداء لليهود. تحايلت عليه. أنشأت إسرائيل.

وللمرة الثانية، تتحايل على الواقع الذي أنشأته هي هذه المرة. واقع الفصل والتطهير العرقي في فلسطين. تخشى أن تُدمغ بالأبرتهايد، فتتحايل على واقع الأبرتهايد. كيف؟

حاولت جنوب أفريقيا البيضاء أن تغمغم واقع الفصل العنصري. قررت تحويل قبائل السود إلى كيانات سياسية "سيادية". قالت للأسود سمي كيانك المسخ هذا إمبراطورية وإن شئت أدخل معنا نزاعًا على الأرض. لا بأس. لكن لا تدخل مدننا. نحن هنا وأنتم هناك. خذوا كازينو ونوادي ليلية وفنادق سياحية. عيشوا منها. لكم الكازينو ولنا اليورانيوم. هذا حصل أيضًا في أميركا الشمالية. هذا ما حصل، لكن الحيلة لم تطل في جنوب أفريقيا. تدفق السود بعشرات آلافهم ولاحقًا أسرهم إلى المدن البيضاء. أحاطوها بمحيط من عشوائيات الفقر. انهار جهاز الضبط والسيطرة، "الإدارة المدنية"، أمام تدفق السود إلى المدن بحثًا عن لقمة العيش. لم يعد بالإمكان الاحتيال أكثر على واقع الفصل العنصري. حاولوا الاحتيال مرة أخرى. صنعوا برلمانات لغير البيض. لم يتجاوب السود وبات الواقع "أسود" بالمعنى الحرفي. انتهت لعبة التحايل.

العبقريان كوشنر وفريدمان يكرران اللعبة. إسرائيل دولة أبرتهايد؟ كيف؟ نحن نقترح عليهم كيانًا سياسيًا فليكن اسمه إمبراطورية. الخرائط المقترحة محل أخذ وعطاء. الأموال متوفرة. بيل كلينتون فتح لكم كازينو في أريحا؟ نحن سنقيم لكم ما هو أكثر. فنادق ومطاعم ومجمعات تجارية تستقبل الزوار المسلمين القادمين إلى الأقصى. نتحدث عن المطار لاحقًا وكذلك الميناء. المهم لا تقتربوا من المدن البيضاء. إذا فشلت جنوب أفريقيا في توفير الرفاهية لكيانات السود المسخ، نحن سنوفرها لكم. 50 مليار دولار توفرت. هل هذا أبرتهايد؟ أخذنا الأرض وأعطيناكم الدولة. ألم تنشدون "الأرض مقابل السلام". فليكن "الأمن مقابل الرخاء". رخاء وأبرتهايد لا يتماشيان مع بعضهما البعض. إذًا إسرائيل ليست دولة أبرتهايد. هذا هو سلام التاجر(ان)، ترامب ونتنياهو. لكن في الحقيقة، خبرة ترامب بالكازينوهات فاشلة. موثقة في "نتفليكس".

كيف يحتال الفلسطيني على الواقع؟ بأن يتجاوز الحواجز والجدار يوميًا. مهنته صارت الاحتيال والالتفاف على الواقع، إلا قيادته السياسية. هي غير منغمسة في الواقع. هي تعيش حالة إنكار للواقع.

من يحل السلطة الفلسطينية؟

لم تقم السلطة الوطنية الفلسطينية بقرار فلسطيني وطني مستقل. هي نتاج نهايات الحرب الباردة وبقرار أميركي – إسرائيلي. والتهديد بحل السلطة لن يصدقه أحد. مفاتيحها ليست بالمقاطعة في رام الله. إنها عند دايتون وقواته. لنفرض أن تعلن المقاطعة حل السلطة، في اليوم التالي ستقام مقاطعة جديدة. إنها أصبحت أكبر مشغل في الضفة المحتلة. لنتصوّر مثلا أن تعلن إدارة مصنع كبير يشغل عشرات الآلاف إقفاله. ماذا سيفعل العمال وكيف سيردون؟

المشكلة مع السلطة ليس بوجودها. المشكلة في دورها وسياستها، وفي حجبها لمنظمة التحرير، وتحديدًا دورها السياسي والتاريخي.

حوار مع الإسرائيليين

ليس حوار الفلسطينيين مع الإسرائيليين أمرًا مستجدًا. هو قائم منذ السبعينيات والثمانينات. حتى أن أبو جهاد نفسه حاول مد خيوط مع اليسار الإسرائيلي. هنا في الداخل من يشهد على ذلك. لا يعيبه ذلك. لكن المعيب هو الاعتقاد أن المجتمع الإسرائيلي بقي كما هو مُذاك. الحقيقة المؤكدة، أن ليس في إسرائيل معسكر سلام، ولا حتى يسار حقيقي. إسرائيل الحالية تختلف كليا عن إسرائيل تلك الأيام. لا فائدة من اللقاءات ولكن من يهواها فليمارسها. لا تضر ولا تنفع، خصوصًا أن من يلتقون الإسرائيليين ليسوا مهمين، لا هم ولا الشركاء الإسرائيليين. شيء على هامش الهامش.

المعيب أكثر، أن يعتقد الفلسطيني بضرورة الحوار مع الإسرائيليين لكنه يرفض ويعارض بشدة الحوار مع الحمساويين. لا مبرر لذلك سوى عقلية الاستفراد والإقصاء.

جيل الانقسام

منذ العام 2007، عام الانقسام، نشأ جيل ليس فتحاويًا ولا حمساويًا. هو جيل الانقسام. هذا الجيل تفتح على كيانين فلسطينيين، الضفة وغزة، ولا أدري ماذا أصبحت فلسطين بالنسبة له. ربما أصبحت بقعة يجب الهرب منها في أسرع وقت.

وما يجب أن يوحد هذا الجيل ليس الفصائل، ليس فتح وحماس، وإنما ما يوحد الأجيال العربية ما بعد الربيع العربي. توحدها القيم وفقط القيم، وليس البرامج الحزبية السياسية. توحدها قيمة العدالة الاجتماعية، وتوحدها قيمة الحرية، وقيمة الكرامة الإنسانية. لا توحدهم الغيبيات والميثولوجيا. توحدهم استنتاجات عقلانية بأن الواقع لا يوفر لا الحرية ولا العدالة ولا الكرامة. ما يوحد العراقي واللبناني اليوم هو هذه القيم، وليس برامج الفصائل السياسية ولا شعار المقاومة أو التطبيع. ما يوحدهم هو همهم الجماعي كشعوب وبشر. أين الهم الجماعي الفلسطيني ومن يمثله ومن يصيغه؟ ما يوحد الشعب هو همه الجماعي ومصيره المشترك. كما من همّ ومصير فلسطيني بات اليوم؟ لا أحد يوحدها ولا أحد يصيغها.

لذا، إذا لم تستطع الفصائل على توحيد الفلسطينيين سياسيًا أو اجتماعيًا، فإن واجب كل بالغ وعاقل، إن جازت الاستعارة، بهذه الفصائل وخارجها، الدفع لهذه الوحدة. وحدة القيم الأساسية، الحرية والعدالة والكرامة ومساواة المرأة، ووحدة الهم والمصير. هذا ألف باء الشعوب، ولا يحتاج لبرامج سياسية وثورية ضخمة. هذه بديهيات وهي المطلوبة. لن ينتصر العالم للفلسطيني إذا تبنى خطاب "خيبر خيبر يا يهود"، ولا إذا ألف نشيد "إرزع رمان إرزع تفاح"، أو ألف أوبريت "ملاك السلام" أو "كينغ السلام".

سينتصر العالم للفلسطيني بقيمه وليس بسرديته أو روايته فقط. هكذا علمنا سود جنوب أفريقيا، وهكذا علمتنا الحركات الفلسطينية مرةً، قبل أربعة عقود.

التعليقات