"مشروع" الهامشية: بين التفاهمات مع اللايمين والتفاهمات مع اليمين

تعبر الأزمة الحالية في القائمة المشتركة عن أحد تجليات أو تبعات أزمة السياسة في الداخل، لكنها ليست هي الأزمة، هي المؤشر فقط، هي الظاهرة لعنوان أوسع، والتعامل معها كمشكلة وليس كتعبير عن مشكلة هي عملية تورية، وهو ما سيؤبد الأزمة

"لكم أسلوبكم وليَ أسلوب"... السياسة عندما تتحول إلى "أسلوب"


تعبر الأزمة الحالية في القائمة المشتركة عن أحد تجليات أو تبعات أزمة السياسة في الداخل، لكنها ليست هي الأزمة، هي المؤشر فقط، هي الظاهرة لعنوان أوسع، والتعامل معها كمشكلة وليس كتعبير عن مشكلة هي عملية تورية، وهو ما سيؤبد الأزمة ويفاقمها ولن يؤجل موجاتها المقبلة.

وبهذا المعنى، فإن الادعاء الذي يبرر عقد تفاهمات مع بنيامين نتنياهو بصيغة "لقد أوصينا على غانتس فماذا كانت نتيجة ذلك؟"، هو ادعاء منطقي يراد به باطل تشريع مسار انحدار إضافي. لقد دافع نهج التفاهمات مع نتنياهو عن نفسه، بأن ميز نفسه عن منتقديه بأنه فرق بين "أسلوبين"، أسلوب "عقلاني وعملي" وأسلوب "مستفز". أسلوب يؤمن بـ"علاقات طيبة لتحقيق منجزات"، وأسلوب "عدائي" ينطلق من وضوح أهداف السياسة التي نحاربها ونسعى لتغييرها في الوقت ذاته.

خطاب الأسلوب هذا هو عملية تورية لاختلافات أبعد من "الأسلوب" يريد البعض إخفاءها، وقد سبق وعرفت السياسة عندنا كيفية التنصل من مواقف سياسية بحجة رفض " الأسلوب"، وسبق وعرفت استخدام معايير "العلاقات الطيبة لتحقيق إنجازات". أكثر من ذلك، سبق للمشتركة نقاش "عدم أهلية" كاتبة هذا المقال لترأس "لجنة محاربة العنف والجريمة" ذاتها، كونها "لا تتمتع بعلاقات طيبة مع الشرطة"، الأمر الذي لم يمر.

منطق العلاقات الجيدة غير الاستفزازية هو ذاته، سوى أن الفارق بين الحالتين يكشف ديماغوجية المنطق، كما يكشف النجاح في تسطيح السياسة وفي تحويل مضامينها الشائكة إلى قضية "أسلوب". يدفع ثمن ذلك من يعتقد أن السياسة تتعدى مشهديتها.

بالإضافة لذلك، يريد نهج التفاهمات مع نتنياهو أن يجرب طريقة جديدة، ما المانع؟ لقد جرى تسويق نهج القدرة على التفاهم مع المجتمع الإسرائيلي (المعسكر العربي - اليهودي) ومع لا يمينه (غانتس) تحت غطاء "أعطوني سنتين أجرب". صحيح، لماذا لا "نجرب"؟ بما أننا نمارس السياسة خارج معناها، خارج الفعل السياسي الحقيقي، وباستعراضية لا تثير حتى التسلية... فلنجرب.

ثم لماذا يجري الآن التوقف عند ما يحدث داخل لجنة محاربة العنف والجريمة البرلمانية، ولم يجر التوقف في محطات سابقة حملت معان سياسية مدمرة للبعد الفلسطيني الوطني وممهدة لما يحدث الآن؛ التوصية على غانتس هي تمهيد لما يحدث الآن أكثر بكثير مما هي نقيض له. ذاك الحماس لبناء معسكر يهودي عربي في عز احتفالية خطاب الخدمات وفي عز يأس الإسرائيليين اللاصهاينة أنفسهم من مجتمعهم، ماذا يحمل غير تبرير دعوات إقامة أحزاب يهودية - عربية، وبأي منطق سيبرر معارضته لتلك المحاولات؟ المشاركة في جنازة شمعون بيرس (مثلها مثل إبداء الندم بعدم المشاركة) أو الاحتفال السنوي المثابر بـ"ذكرى رابين"، واللتين سوقتا كسلوكيات امتنان لرجلي سلام يتموقعان في الذاكرة الفلسطينية كرجلي حرب واستيطان وعناقيد الغضب وتكسير العظام، ماذا تعني غير الاستفراد بإجراء مصالحة ثنائية خارجة عن سردية شعبنا، في أوج المرحلة التي تُستهدف فيها أسس سرديتنا الوطنية؟

السياسة في الداخل الآن، في خضم بحث الفلسطيني عن الخروج من حالة فقدان معنى وجوده الوطني، هي عبارة عن "تجربة" المدى الإسرائيلي الذي يمكن التوغل فيه، ضمن سيولة في السلوكيات، وعناد في رفض مواجهة المرحلة التي تستدعي بلورة مشروع سياسي جامع ينطلق من رؤية فلسطينية، تعادي بوضوح كل ما تمثله القوى الإسرائيلية من عداء تجاه شعبنا، وتحمل بنفس الوضوح مشروعها الديمقراطي العادل.

هذه هي الأزمة، وتعريف الأزمة أنها أزمة "تفاهمات مع نتنياهو" أو أزمة انشقاق المشتركة أو أزمة أدوات سياسية أو أزمة سطوة العمل البرلماني، هو تعريف نابع من تذويت الهامشية، ومن قصر السياسة على عملية إدارة الأزمات.

وضمن مستوى آخر من المعنى: أليست تلك السلوكيات ناتجة أيضًا عن رغبة في "تسويق" جديد للضحية، على أمل قبولها وجلب منجزات لم ينجح بها "أسلوب مستفز" آخر؟

الأحزاب العربية والتسويق الجديد: بين التبرير الذاتي واقتناص الفرص

لقد دخلت التيارات السياسية جميعها، القومي والشيوعي والإسلامي، مؤخرًا، وبعد سلسلة من "الهزائم" التي امتحنت ردنا، مثل إخراج الحركة الإسلامية عن القانون، "قانون القومية"، قانون طرد أعضاء الكنيست، تعديل "قوانين الإرهاب"، قانون رفع نسبة الحسم، ملاحقة التجمع كحزب وملاحقة أفراده ضمن قضايا ماثلة حتى اليوم أمام النيابة، محاولة منع التجمع وممثليه من خوض الانتخابات، الذي جاء في ما يشبه عملية الدفاع عن النفس، وشعور أحزابنا بالحاجة "لشرعنة" ذاتية ولسلوك شبه اعتذاري "عما سبق"، وانخراطها في مسار من "التسويق من جديد"".

هذه اللغة وهذا المنطق ليسا حكرًا على ما يحدث حاليًا، بل يمثلان "منطق" السياسة عندما تعمل وفق سقف "الاستفزاز" الإسرائيلي، منطق أن تقرر إسرائيل شكل النضال ضدها، وما المريح لها لقمعه وما المريح لها لتتعامل معه، هو منطق ليس بجديد.

نستطيع أن نلمح خلال السنوات الأخيرة داخل كل تيار مؤشرات أزمة عبرت عنها لغة "التسويق من جديد"، وقد اتخذ كل حزب تعبيراته عن أزمته وفق احتياجاته ووفق أولوياته السياسية. انطلقت الجبهة من أولوية البحث عن دور في الشارع الإسرائيلي، ممثلة بشعار المعسكر العربي اليهودي، وذلك في أوج غرق هذا الشارع في الفاشية والعدائية، ورغم الحقيقة البسيطة التي تكمن في أن الإسرائيلي الذي يخرج من حالة العدائية هذه، هو إما ذاك الذي يصوت للمشتركة بكل الأحوال أو ذاك الذي لا يؤمن هو نفسه بإمكانية العمل مع المجتمع الإسرائيلي. لقد حصل هذا أيضًا في أوج وجود المشتركة كأداة تسهل وتحفز على إعادة تنظيم الفلسطينيين في الداخل على أساس وحدة القضية الفلسطينية.

أما التيار القومي، فنتجت أزمتنا على خلفية صراعنا مع مخطط لاجتثاثنا بالكامل من الساحة السياسية، واخترنا أيضًا في حالتنا تكتيكا يستند إلى عملية "تسويق من جديد"، وأيضا ضمن لهجة اعتذارية عما مضى، لم نوضح فيها على ما يبدو، أو لم نميز بين تسويق" اعتذاري يناقض مبرر وجودنا، وبين "تسويق" ينزع الشيطنة والتحريض عنا كحركة وكأفراد.

وبالنسبة للتيار الإسلامي الجنوبي، موضع النقاش اليوم، فهو معروف بشدة براغماتيته منذ نشأته، وهو حاليًا، ليس أكثر من ورقة الليتموس التي تكشف حقيقة المرحلة والتي تجد في المرحلة فرصة للعب دور أوسع، سيما بعد إخراج الحركة الإسلامية الشمالية عن القانون. تعرف إسرائيل أن تلعب الدومينو أيضًا...

المشتركة... عندما تكون السياسة ليست مسألة أدوات

في خضم تلك الديناميكات الحزبية، يبرز في المشهد لاعب يتم التعامل معه باستقلال نسبي عن الأحزاب: المشتركة.

قامت المشتركة كسباحة ضد التيار وخارج المناخ، وبتجسيد أمل في مرحلة تختنق فيها الآمال. قامت برسالة وحدة في ظل مشهد طافح بالانقسامات الفلسطينية والعربية، وبدت كأنها رسالة انتصار وبرهان أن الإرادة السياسية تستطيع أن تغلب المناخ السائد أو على الأقل أن تخرج عنه. وفعلا في ظل المشتركة حصد الأمل وفرح الناس الطبيعي والحقيقي بوحدة تمثيلهم، استقطاب جماهيري غير مسبوق للأحزاب العربية، وحصدت المشتركة 85% من أصوات الناس ومن آمالهم وتوقعاتهم، كما استقطبت أنظار المشهد الفلسطيني وما تزال.

وشهدت المشتركة في عهدها أكبر الامتحانات السياسية، منها منع أعضاء الكنيست من زيارة الأقصى، إخراج الحركة الإسلامية خارج القانون، احتجاز جثامين الشهداء، "قانون القومية"، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس و"صفقة القرن"؛ وبقراءة باردة ومسح واضح، نستطيع أن نقول إن في أي من تلك المحطات لم تبد المشتركة أداء أفضل من أداء الأحزاب متفرقة، وقراءة أكثر تمعنًا تجعلنا نقول إن مبدأ الأداء الموحد ضبط وقيد حرية الأداء السياسي للأحزاب داخل المشتركة أكثر بكثير مما أعطاها قوة.

لكن كما أظهر القسم السابق، فإن تلك القراءة غير دقيقة. قراءة داخلية للأحزاب تبين أن المشتركة لم تكن إلا حاضنة - وإن غير حيادية - لصراعات وديناميكيات كانت تجري داخل الأحزاب نفسها. بهذا المعنى المشتركة لم تكن "تستحق" اتهامات كثيرة وجهت لها، لكنها مع ذلك لم تكن بريئة منها تمامًا، ذلك أن ديناميكيات المشتركة نفسها وإنتاج ساحة سياسية مستقلة نوعا ما عن الأحزاب، ساعدت في إنتاج أدائها بالصورة التي خرج بها.

بالتالي بدل أن تتقاطع المشتركة مع الظرف السياسي الحرج الذي يعيشه شعبنا، تأثرت أكثر برغبتنا كأحزاب أن "نجرب" أو أن "تسوق أنفسها من جديد"، بكلمات أدق، كانت المشتركة ضحية الأجندات الداخلية "الطموحة" لبعض الأفراد، وضحية تخبطاتنا الداخلية.

بالإضافة إلى ذلك، سهلت المشتركة عملية "التسويق الجديد" للأحزاب، فأولًا: لم تكن بعض المواقف السياسية لتمر حزبيًا، أو لتمر بمثل هذه السهولة دون ذريعة "الحفاظ على وحدة المشتركة"؛ وثانيًا: لم تكن بعض المواقف الغريبة الأخرى لتمر دون توفر كتلة برلمانية كبيرة الحجم كظهر تستند إليه، فالمعسكر العربي اليهودي، لم يكن ليشطح دون الاستناد المعنوي إلى المشتركة كتمثيل لقوة كبيرة في الشارع العربي؛ ثالثًا: أخذت بعض السلوكيات معنى أكبر من حجمها عندما يقوم بها "رئيس المشتركة"، حتى لو قام بها دون توكيل من المشتركة أو حتى خلافًا لموقفها، وفي أحيان مخالفًا موقف حزبه نفسه؛ رابعًا: ساعد الإطار الذي وفرته المشتركة على تصدير النقاش، بالذات الخلافي منه، من الأحزاب إلى "رباعية المشتركة" وحسمت الكثير من النقاشات هناك، دون أن تمارس الأحزاب تأثيرها اللازم وأحيانًا دون علمها. أكثر من ذلك، عملية توازن القوة ذاته تحول من توازن بين أحزاب إلى توازن قوة بين أشخاص داخل رباعية المشتركة، تتدخل فيها العلاقات الشخصية كعامل مركزي، الأمر الذي يضعف الثقل السياسي للأحزاب.

بهذا المعنى، وبالحكم على هذه التجربة حتى الآن، علينا أن نسأل في ما إذا نجح عمليًا قانون رفع نسبة الحسم بأن يلجم البعد الوطني في الكنيست في حين لم ينجح رسميًا.

باختصار، توفر تجربة المشتركة مؤشرًا إلى أن الأدوات في السياسة مهما قويت، لا تفرز منطقًا منافيًا للرؤية السياسية التي تحكمها.

بدل أن يجري الاستئناف على هيمنة تيار التفاهمات مع اليسار الصهيوني على المشتركة، من جانب مشروع فلسطيني مستقل يقف على الجهة الأخرى من الصراع مع إسرائيل، تقوم الآن الإسلامية الجنوبية بالاستئناف عليها الآن من جانب خطاب يشبهها أكثر، يشبهها "عندما تشيخ فتزداد حكمة"!

وأخيرًا، إن ما يحدث في المشهد السياسي الحالي للداخل هو "تكثيف وتصعيد لادعاءات مزمنة، عمرها أقل بقليل من عمر" المشتركة، كما قال محلل سياسي في سياق موضوع بعيد عما نتناوله، والحل لا يكمن بالعودة لما سبق الأزمة، ولا بتجاوزها، بل إنه يكمن في إعادة النظر في جذور المشكلة وتصليب المشتركة عبر تصليب مشروعها السياسي، بحيث يفضح الواقع الاستعماري الذي نعيشه ويطرح بديله الديمقراطي.

التعليقات