المجندون العرب... الانسحاب وذاكرة "الزنار الأحمر"

إن استعداد مجندين، وباختلاف انتماءاتهم الدينية، للانسحاب من الجيش ومواجهة كل تبعات ثنيهم عن ذلك من قبل الجيش ومحاكمه، ظاهرة تستحق إسنادها منا ودعمها.

المجندون العرب... الانسحاب وذاكرة

ظاهرة انسحاب عدد من المجندين العرب في الجيش الإسرائيلي، وتراجعهم عن الخدمة فيه خلال هذه "الفزعة" بدت ملفتة؛ كل يوم تقريبًا يجري نشر وتعميم في شبكات التواصل عن خادم في الجيش أو مجند في سلك الأمن والشرطة، يُعلن فيه انسحابه منها وعودته إلى صف أبناء شعبه.

هذا الانسحاب لبعضهم يجب دعمه وتشجيعه - دون تنصيبهم كـ"أبطال" طبعًا - لكن دعم قرارهم بترك الجيش، وتشكيل حاضنة اجتماعية لهم واجب علينا، لأن عشرات المجندين بل المئات منهم، يقفون اليوم قاب قوسين أو أدنى عند قرار ترك الخدمة، خصوصًا وأن تراجعهم عن الخدمة، يترتب عليه إجراءات قانونية - عقابية تلاحقهم بها المؤسسة العسكرية، ما يحدونا إلى احتضانهم من أجل تشجيعهم على ذلك. كما يمكن أن يؤسس ذلك لوأد فكرة الخدمة في أجهزة الأمن من أساسها، ومنع الالتحاق بالجيش مستقبلا حتى عند أخواتنا من أبناء الطائفة المعروفية - الدروز المُلزمين بالخدمة.

في سياق تاريخي مشابه إلى حد ما، رغم اختلاف المرحلة وشكل الوعي الوطني، مع الاستعمار البريطاني للبلاد مطلع القرن الماضي، التحق المئات من أبناء عرب فلسطين في صفوف الجيش البريطاني وفي سلك شرطة الانتداب في حينه. لم ير معظم سكان القرى والمدن الفلسطينية بقدوم الإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى استعمارا للبلاد، بقدر ما وجدوا فيه خلاصا وانعتاقا من ربقة الحكم التركي ومظالمه عليهم وقتها (1).

كان الالتحاق بالجيش البريطاني وشرطتها ظاهرة مدينية أكثر منها فلاحية، ولم يكن أيديولوجيًا إنما محاولة لتحسين الظروف المعيشية براتب وظيفي منتظم من ناحية، وللتقدم في سلم الحياة الاجتماعية خصوصًا لدى بعض الفئات المهمشة في المدن والأرياف من ناحية أخرى، ودون أن يرى المجندون ذلك انحيازا للأجنبي ضد أبناء شعبهم. ولا المجتمع العربي - الفلسطيني نظر للمجندين وقتها كمتعاونين ضده، على الأقل حتى نهاية العشرينيات مع تبلور الوعي الوطني باستعمارية الوجود البريطاني. أطلق على المجندين الفلسطينيين العرب في الجيش البريطاني اسم " الزنار الأحمر".

"الزنار الأحمر"

"الزنار الأحمر" تسمية اجتماعية أطلقها المجتمع العربي الفلسطيني على المجندين العرب من أبنائه في الجيش البريطاني، فقد ارتدى المجندون العرب البزة العسكرية البريطانية ("الكاكي") مع زنار أحمر يُربط على خاصرة المجند، في محاولة أرادت فيها بريطانيا من الزنار، تمييز وحدة المجندين العرب عن باقي وحدات عناصر الجيش الإنجليزي، فصار "الزنار الأحمر" يحيل إلى الجندي العربي في جيش بريطانيا.

كانت وحدة المجندين العرب ملحقة بالجيش البريطاني لمهمات اقتصرت على تنظيم الدعم اللوجستي للجيش، ونقل المعدات والعتاد الحربيين، فضلا عن أعمال الحراسة، ومرافقة الضباط ووحدات الاستطلاع إلى المدن والبلدات العربية في فلسطين.

مع اندلاع أحداث البراق سنة 1929، ومن ثم الثورة الكبرى في الأعوام 1936 -1939، تحول المجندون العرب في الجيش البريطاني إلى سؤال إشكالي، خصوصا مع تبلور الوعي الفلسطيني بهويته الوطنية في أعقاب الثورة، وقمع الإنجليز الوحشي لها، ومع إسنادهم لمشروع الاستيطان اليهودي.

اختلفت قيادات ثورة 1936 في مواقفها من "الزنار الأحمر"؛ فمنظمة "الكف الأسود" اتخذت موقفا حادا من المجندين العرب، ما سبب ذلك حرجًا اجتماعيًا مع عائلات المجندين، إذ عملت هذه المنظمة على تصفية كل من اشتبهت به متعاونا مع الإنجليز، وطال ذلك ثوارًا كانوا في صفوف الثورة، ومن دون أي دليل أو حجة أو مرجعية قضائية في بعض الأحيان، ليسبب ذلك شرخًا في صفوف الثورة. (2)


توثق هذه القصاصة الدور الذي كانت تقوم به بكرية (ولا تذكر القصاصة من هي) من قرية إجزم حيث كانت تساعد الكف الأسود في حيفا بحمل المسدسات في سلتها أو زنارها. وبعد العملية تأخذ الاسلحة منهم كما حصل في عملية اغتيال حليم بسطة (المتحف الفلسطيني)

وعلى إثر ذلك، سعت بعض قيادات الثورة إلى استمالة مجندي "الزنار الأحمر" العرب، إما بتشجيعهم على التسرب والانسحاب من الجيش، وإما بالتعاون من داخل الجيش البريطاني لصالح الثورة، وقد جرى فعلا أن تعاون بعض مجندي "الزنار الأحمر" بنقل معلومات لقيادة الثورة عن تحركات سرايا وحدات الجيش البريطاني أثناء الثورة. (3) وقد دفع ذلك بسلطات الانتداب البريطاني خلال الثورة، إلى قرار فك "الزنار الأحمر" عن خواصر المجندين العرب، بعد أن كان الزنار العلامة الفارقة التي يميز بها الثوار المجندين العرب عن الجنود الأجانب عند نصب الكمائن ومهاجمة دوريات الإنجليز، وذلك بالتنسيق ما بين الثوار وبعض عناصر "الزنار الأحمر".

تذكر بعض الروايات الشفوية لثورة 1936، بأنه وبعد فك الجيش البريطاني "الزنار الأحمر" عن المجندين العرب أثناء الثورة بهدف استخدامهم دروعا بشرية، ولردع الثوار عن مهاجمة دوريات الإنجليز، انتقل المجندون العرب إلى تقنية "التشفير" أثناء مرافقتهم دوريات الإنجليز عند كمين الثوار لها، فمن أجل لفت انتباه الثوار إلى وجودهم في الدورية، كانوا يلجأون للغناء مثل القول "على دلعونا على دلعونا - وإحنا عالأول لا تضربونا"... وهكذا. (4)

أفاد استمالة المجندين العرب إلى الثورة، سواء بتشجيعهم على الانسحاب من الجيش أو بالتعاون من داخله، أكثر من مواجهتهم وتخوينهم أو تصفيتهم، إلا في الحالات التي تعنت فيها بعض المجندين وأصروا على البقاء في صفوف جيش الاستعمار ضد أبناء شعبهم. غير أن سياسة التشجيع على ترك الخدمة في جيش الاستعمار عزز من وطنية الثورة وشعبيتها لناحيتين؛ الأولى اجتماعيًا، فاستمالة المجندين منع من صدام الثوار مع عوائل وحمائل المجندين، التي كان جزءًا منها حاضنة للثورة× والثانية عسكريا، فقد التحق المنسحبون من الجيش البريطاني بصفوف الثورة، وقد أفادها ذلك في الخبرة والقتال ضد الاستعمار.

صورة غير ملونة لضابط في حرس الحدود الأردني "الزنار الأحمر"، التُقطت الصورة بين عامي 1930 - 1940 (المتحف الفلسطيني)

في واحد من تفسيرات صمود قرية لوبية العسكري في معارك النكبة عام 1948، يُذكر بأن معظم الذين تمترسوا في القرية من أهلها، ومن أبناء والقرى المحيطة فيها، كانوا ممن خدموا في الجيش البريطاني قبل تسربهم والتحاقهم في الثورة. (5)

عودة إلى المجندين اليوم

إن مسألة تجند العرب وخدمتهم العسكرية في "جيش دفاع" الدولة العبرية، هي أكثر تركيبا وتعقيدا مما كان عليه الحال أيام الاستعمار البريطاني قبل النكبة، وذلك لناحية طبيعة النظام الاستعماري الصهيوني العسكري – الاجتماعي، المتمثل في دولة استيطانية غدا العرب مواطنين فيها، وما ترتب على ذلك من سياسات الأسرلة ونظام الامتيازات الممنوح من قبل الدولة للمجندين في الجيش، على مدار عقود، فضلا عن قانون التجنيد القسري لبعض فئات المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل مثل الدروز، والشركس أيضًا. غير أن عودتنا إلى مراحل مبكرة من تاريخ الاستعمار في فلسطين، هو بغرض وضع كل قضية الخدمة في مؤسسات الاستعمار العسكرية، ضمن سردية تاريخية عن محاولات تفتيت، وسياسات توريط لبعض فئات مجتمعنا العربي في الداخل في سلك التعاون ضمن المنظومة الأمنية - الاستعمارية، وتحويل أبناء هذه الفئات إلى أسنان في ماكينة المشروع الصهيوني التي تنهش بلحم أبناء شعبهم.

إذا كان الوازع الديني والرمزي للمسجد الأقصى ومدينة القدس هما من يقفان خلف "فزعة" عرب الداخل لأهلهم المقدسيين في الأحداث الجارية، فما المانع بأن يكون الوازع ذاته من يدفع المجندين العرب في جيش إسرائيل على الانسحاب منه وتركه! لطالما ظل الوازع الديني يحمل بعدًا وطنيًا في ظل رمزية وقداسة فلسطين الدينية.

بالتالي، فإن استعداد مجندين، وباختلاف انتماءاتهم الدينية، للانسحاب من الجيش ومواجهة كل تبعات ثنيهم عن ذلك من قبل الجيش ومحاكمه، ظاهرة تستحق إسنادها منا ودعمها.

فـ"الفزعة" وفعل السخط والمناهضة الجاري في البلاد، مناسبة لإعادة فتح ملف التجنيد وثني المجندين عن الخدمة، وتوعية ضمن فعل "الفزعة" وقاموسها الأجيال الشابة وإبعادها عن التورط في سلك الخدمة والتعاون الأمني - العسكري الإسرائيليين. وهذا ليس مجرد تخليص لأبنائنا من الخدمة والتعاون، بقدر ما هو إعادة للحمة الوطنية بين مركبات المجتمع التي جرت محاولة نزع الصفة العربية عن بعضها، ضمن سياسات التفتيت والتجزئة الصهيونية.


الهوامش:

1. تعددت الأدبيات والروايات التي أشارت إلى نظرة العرب في فلسطين إلى قدوم الإنجليز بعد الحرب العالمية الأولى وانتهاء الحكم التركي، كمخلصين لهم منه. عن ذلك راجع مثلا، واصف جوهرية، القدس الانتدابية في المذكرات الجوهرية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، ج2.

2. كان لممارسات "الكف الأسود" أثرًا في انقسام الثورة على نفسها بعد تصفيتها لبعض القيادات والشخصيات الفلسطينية، مثل قتلهم لرافع الفاهوم، وهو أحد أبرز داعمي ثورة 1936. عن ذلك، راجع: مقابلة مع الحاج أحمد يوسف الحايك، قرية أندور - قضاء الناصرة، مقابلة شفوية ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، ج2، تاريخ 7/7/2007.

3. مقابلة شفوية، المرجع السابق.

4. المرجع السابق.

5. مقابلة مع كل من السيدين رمزي ومحمد أبو دهيس، قرية لوبية - قضاء طبرية، مقابلة شفوية ضمن مشروع تدوين التاريخ الشفوي للنكبة الفلسطينية، موقع فلسطين في الذاكرة، تاريخ 28/2/2006.

التعليقات