الهبّة الشعبيّة في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل: مَحْو الخطّ الأخضر

نشر مركز مدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، اليوم الثلاثاء، ورقة تقدير موقف بعنوان "الهبّة الشعبيّة في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل: مَحْو الخطّ الأخضر".

الهبّة الشعبيّة في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل: مَحْو الخطّ الأخضر

أم الفحم

نشر مركز مدى الكرمل - المركز العربيّ للدراسات الاجتماعيّة التطبيقيّة، اليوم الثلاثاء، ورقة تقدير موقف بعنوان "الهبّة الشعبيّة في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل: مَحْو الخطّ الأخضر".

ترمي هذه الورقة إلى تحليل الهبّة الشعبيّة في صفوف المجتمع الفلسطينيّ في إسرائيل (داخل الخطّ الأخضر)، ومحاولة فهم أسبابها، ودلالاتها السياسيّة والوطنيّة، وقراءة تداعياتها الداخليّة، وتداعياتها على علاقة المجتمع الفلسطينيّ بالدولة. ستنطلق هذه الورقة من فكرة محو الخطّ الأخضر في وعي الفلسطينيّ في إسرائيل من جهة، ومحو الخطّ الأخضر في أدوات الدولة في تعاملها مع الهبّة الشعبيّة من جهة أخرى.

مقدّمة:

تُعتبر الهبّة الشعبيّة الفلسطينيّة في إسرائيل لحظة هامّة في تاريخ الفلسطينيّين منذ عام 2000، ولا سيّما أنّها خرجت في خضمّ حالة من التشرذم السياسيّ، وحالة الإحباط النابعة من انتشار الجريمة والعنف في المجتمع الفلسطينيّ، وحالة المجتمع الحرجة التي خرج بها من جائحة كورونا مع كلّ ما حملت من تداعيات اقتصاديّة وسياسيّة ونفسيّة. ولعلّ الأهمّ من ذلك حالة الأسرلة التي تعزّزت في السنوات الأخيرة، والتي تمثّلت في حالة الاندماج الفرديّ والرهان على الحراك الفرديّ بمعزل عن مشروع سياسيّ جماعيّ وجمعيّ، أيّدته وقادتْه قيادات عربيّة، فضلًا عن تأييد نسبة لا بأس بها من المواطنين لمشاركة الأحزاب العربيّة في حكومات إسرائيل بصرف النظر عن مركّبات هذه الحكومات. علاوة على ذلك، تميّزت السنوات الأخيرة على وجه العموم بعزوف الناس عن النضال الشعبيّ والمشاركة السياسيّة، بالتوازي مع حالة الغضب من مُجْمَل العمل السياسيّ.

على سبيل المثال لا الحصر، انعكس ذلك في العزوف عن التصويت في الانتخابات الأخيرة، إلى جانب تراجع مكانة المؤسّسات الوطنيّة القطْريّة ودَوْر الأحزاب، وهيمنة خطاب سياسيّ ارتدّ عن الخطاب السياسيّ الذي يَعتبر المجتمع الفلسطينيّ جزءًا من الشعب الفلسطينيّ، ويَعتبر قضاياه جزءًا من القضيّة الفلسطينيّة.

سُوِّق هذا الخطاب ورُوّج له على أنّه يمثّل رغبات المجتمع الفلسطينيّ في التركيز على مطالب مدنيّة خدماتيّة فقط، وتحييد (ولربّما تغييب) الـمَطالب المتعلّقة بمجموعة وطن، ومناقشة جوهر النظام السياسيّ. راهن هذا الخطاب على الاندماج في النظام السياسيّ دون مناقشة جوهره وتحدّي هذا الجوهر. وقد نجانب الصواب إذا قلنا إنّ هذا التحوّل في خطاب بعض الأحزاب العربيّة كان إحدى مهامّ النظام الإسرائيليّ لأَسْرَلة المجتمع الفلسطينيّ، بَيْدَ أنّ هذا الخطاب لم يسعف هذه الأحزاب.

فبعد انتخابات آذار عام 2020، استثناهم بنيامين نتنياهو من تعداد أعضاء الكنيست، ورفَضَهم بيني ﭼـانتس الذي راهنوا وأوصوا عليه لتشكيل حكومة بديلة لحكومة نتنياهو، وامتنع بدوره عن الاعتماد عليهم في تشكيلها. في حين يعزّز النظام الإسرائيليّ هُويّته القوميّة الجمعيّة (وكان آخرَ ركائزه قانونُ القوميّة)، فإنّ خطاب الأحزاب العربيّة المهيمن يتفادى ويتجنّب تحدّي جوهر هذا النظام سياسيًّا. وقد يكون هذا ما ولّد حراكًا شبابيًّا عابرًا لفلسطين وحاملًا لبوصلة سياسيّة تتعدّى خطاب ومرحلة نهج الأحزاب والحركات السياسيّة كما انعكس في السنوات الأخيرة، إلّا أنّ عدم توافر حاضنة شعبيّة قويّة لهذا الحراك لغاية الأحداث الأخيرة أدّى إلى خفوت صوته تارة، وإلى عُلُوّه تارة أخرى.

في الإمكان الإشارة إلى مجموعة من الأسباب المباشرة وغير المباشرة أسهمت في اندلاع الهبّة الشعبيّة. تتمثّل الأسباب المباشرة في قمع الشرطة المسلّح لاحتجاجات حيّ الشيخ جرّاح على طرد العائلات الفلسطينيّة من بيوتها، وسلسلة الاقتحامات العنيفة للمسجد الأقصى وباحاته والاعتداء على المصلّين داخله. في الحالتين كان حضور فلسطينيّي الداخل ومشاركتُهم بارزَيْن.

تكمن أهمّيّة قضيّة حيّ الشيخ جرّاح في أنّها تعيد إلى الأذهان والوعي واقعَ الفلسطينيّين في إسرائيل، ولا سيّما في المدن الساحليّة واللدّ والرملة، حيث يواجهون ويعيشون المحاولات الاستيطانيّة نفسها لطردهم والاستيلاء على بيوتهم وإحلال عائلات يهوديّة مكانهم، وذلك ضمن مشروع استيطانيّ واضح للعيان يبتغي التضييق على العرب وتهويد أحيائهم، وبالتالي تهويد مدن الساحل تمامًا. كانت اللدّ أكثر المدن التي واجهت هذه السياسة الاستيطانيّة، ولربّما هذا ما يفسّر -إلى حدٍّ ما- عنف الأحداث في هذه المدينة؛ ففي مدينة اللدّ بدأ مشروع التهويد من خلال زرع بؤر استيطانيّة تحت غطاء مدارس توراتيّة يدعمها رئيس بلديّة عنصريّ (وذاك أقلّ ما يمكن أن يقال عنه) يعتبر هذه الأمر جزءًا من سياساته في المدينة.

أسهمت الاقتحامات المتتالية للمسجد الأقصى وباحاته في تأجيج حالة الغضب لدى الفلسطينيّين الذين داوموا على الصلاة في المسجد خلال شهر رمضان، ولا سيّما في الأيّام الأخيرة من الشهر.

وكان الاقتحام مساء السبت (8/5/2021) هو الأشدّ؛ فقد اقتحمت الشرطة الإسرائيليّة المسجد الأقصى وساحاته في ليلة القَدْر، وقمعت المصلّين والذين كانوا في الحرم القدسيّ الشريف، واستمرّت هذه الاقتحامات خلال الأيّام التي سبقت العيد وفي يوم العيد. وفي محاولة منها لمنع وصول الفلسطينيّين من الداخل إلى الحرم القدسيّ، أوقفت الشرطة الحافلات المتوجّهة إلى القدس وأنزلت الناس إلى الشارع، غير أنّ الإصرار للوصول إلى القدس والمسجد الأقصى دفعهم إلى المشي على الأقدام صوب المسجد، وهذا ما دفع المقدسيّين إلى التجنّد لنقلهم إلى المسجد الأقصى.

وهكذا أفشل الفلسطينيّون في إسرائيل هذا المخطّط ولم يردعهم هذا العمل. وسبق هذه الأحداثَ نَصبُ الحواجز على باب العمود لمنع تواجد الفلسطينيّين على مدرّجاته، وهو ما أعاد إلى الذاكرة البوّابات الإلكترونيّة التي نشرتها إسرائيل على مداخل المسجد الأقصى عام 2017، ودَوْر الهبّة الشعبيّة الأساسيّ في إفشالها، وهذا ما حدث أيضًا هذه المرّة عندما نصبت الشرطة الحواجز على مدخل باب العمود، حيث كان للهبّة الشعبيّة واحتجاج الفلسطينيّين ومنهم فلسطينيّو الـ48 دَوْر في تراجع الشرطة عن ذلك. شكّلت القدس نقطة اللقاء بين نضال الفلسطينيّين عمومًا، ونضال الفلسطينيّين في مناطق الـ48 على وجه الخصوص.

أسهمت أحداث القدس في تفجّر حالة الغضب المتراكم في صفوف الفلسطينيّين في إسرائيل، الذين يعانون من تواطؤ الشرطة والنظام السياسيّ لمنع محاربة الجريمة والعنف الذي أغرق المجتمع الفلسطينيّ وأضعفه وأنهكه من الداخل، ومن جهة أخرى تتعامل بقمعيّة وعنف شديدَيْن مع الاحتجاج السياسيّ السلميّ في القضايا الوطنيّة. هذه السياسة -وإن كانت سافرة- بلغت ذروتها في أحداث القدس والأقصى.

بين عام 2000 وعام 2021:

عند المقارنة بين انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 والهبّة الشعبيّة الراهنة (2021)، في الإمكان الإشارة إلى مجموعة من سِمات الشبه والاختلاف بينهما، ومن خلال هذه المقارنة سنتعرّف على مميّزات الهبّة الشعبيّة الحاليّة.

يكمن المشترَك الأوّل بين الهبّتين في انتشار احتجاجات شاركت فيها غالبيّة المدن والبلدات العربيّة في النقب، والمثلّث، والجليل والمدن الساحليّة واللدّ والرملة؛ فقد كانتا هبّتين جماعيّتين شاملتين لكلّ مناطق الوجود الفلسطينيّ.

شكّلت القدس والمسجد الأقصى المبارك بداية انطلاق الهبّة في الحالتين، وفيهما شارك الفلسطينيّون في إسرائيل في أحداث القدس والأقصى عام 2000 وكذلك عام 2021. في الحالتين بلغ قمع الشرطة والقوّات الأمنيّة مداه، بحيث قمعت الشرطة احتجاج الفلسطينيّين فيهما باستعمال العيارات المطّاطيّة والرصاص الحيّ، إلى جانب استخدام أدوات أخرى متعارَف عليها عند تفريق المظاهرات. تبنّت الشرطة الإسرائيليّة في قمعها للاحتجاجات الفلسطينيّة داخل حدودها أدوات القمع التي يستخدمها جنود الجيش الإسرائيليّ في قمعهم لاحتجاجات الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة.

وفي اليوم الثاني من الاحتجاج، استجلبت الحكومة الإسرائيليّة جنود حرس الحدود من الضفّة الغربيّة للقضاء على الاحتجاجات في مدن الساحل والمدن والقرى الفلسطينيّة داخل إسرائيل. لم يتلاشَ الفرق في القمع تمامًا؛ فعدد الضحايا الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة وقِطاع غزّة يتجاوز المئات، في حين قتلت الشرطة الإسرائيليّة شابًّا من أمّ الفحم (محمّد محمود كيوان)، وهنالك آخر في اللدّ (موسى حسّونة) قتله مستوطن أُطلِق سراحه بعد أيّام، إلى جانب عشرات الجرحى. في الحالتين، قتلت قوّات الشرطة مواطنين عربًا.

في الانتفاضة الثانية عام 2000، قتلت ثلاثة عشر (13) فلسطينيًّا. رافق الهبّتين تحريضٌ إعلاميّ منقطع النظير على المجتمع الفلسطينيّ، بلغ حدّ التحريض على القتل. ولعلّ الأهمّ من كلّ ذلك أنّه في الحالتين كانت الهبّة الشعبيّة في الداخل جزءًا من هبّة شعبيّة فلسطينيّة عمّت فلسطين بأكملها*.

في الحالتين، كان ثمّة هجوم شعبيّ لمجموعات يهوديّة على المواطنين العرب، أفضت إلى وقوع ضحايا عرب. حدث ذلك في الناصرة عام 2000، عندما هاجمت جماعة من اليهود الساكنين في "نتسيرت عيليت" الحيَّ الشرقيّ، وفي المدن الساحليّة واللدّ والرملة الآن (أيّار عام 2021) عبْر الهجوم الذي شنّته مجموعات يهوديّة.

وبشأن الاختلافات المركزيّة بين الهبّتين، في الإمكان الإشارة إلى مجموعة منها في ما يلي:

1. القيادة السياسيّة: شكّلت انتفاضة القدس والأقصى التحامًا بين القيادة السياسيّة العربيّة والجمهور خلال الهبّة، حيث كانت القيادة العربيّة حاضرةً خلال مجريات الأحداث ومشارِكةً فيها من حيث الحضور في الميدان، أو العمل السياسيّ المكثّف والحضور الإعلاميّ، وعقْد اجتماعات مكثّفة لمتابعة الأحداث. وبرز ذلك في تقرير لجنة القاضي "أور"، إذ أشار إلى مسؤوليّة القيادة السياسيّة العربيّة عن الأحداث، ولا سيّما الدكتور عزمي بشارة، والشيخ رائد صلاح، والمحامي عبد المالك دهامشة. في هذه الهبّة، غاب التحام القيادة السياسيّة مع المحتجّين، فلم تَحْضر مع الشباب في الميدان. باستثناء بعض رؤساء السلطات المحليّة العربيّة وبعض أعضاء الكنيست، لم يكن هناك حضور سياسيّ، ولا ردود فعل سريعة ترتقي إلى مستوى الأحداث، وقد ظهر ذلك في نهاية الهبّة بالأساس.

2. الخطاب السياسيّ: جاءت انتفاضة القدس والأقصى نتاج خطاب سياسيّ رفض مشروع أوسلو على العموم، ولا سيّما أنّه لم ينظر إلى فلسطينيّي الـ48 كجزء من القضيّة الفلسطينيّة ومن حلّها، ولأنّه أجّل التباحث في قضايا تُعَدّ ثوابت إلى مراحل لاحقة (على سبيل المثال: قضيّة اللاجئين وقضيّة القدس). أعاد هذا الخطاب الاعتبار للصلة بين قضيّة الفلسطينيّين في إسرائيل والقضيّة الفلسطينيّة، منطلِقًا من اعتبار الفلسطينيّين أصحاب وطن، وما ترتّب على ذلك من صعود لخطاب الحقوق الجماعيّة والمساواة الجوهريّة وتحدّي الطابع اليهوديّ للدولة، وهو الخطاب الذي رفعه حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ برئاسة الدكتور عزمي بشارة، إلى جانب النشاطات السياسيّة والوطنيّة التي تَعتبر النكبة الفلسطينيّة جزءًا من صيرورة تاريخ الفلسطينيّين في إسرائيل، وتعزيز فكرة تنظيم المجتمع الفلسطينيّ على أسس جماعيّة وقوميّة. كذلك جاءت الانتفاضة الثانية بعد إعلاء خطاب القدس والأقصى، وتحويلهما إلى قضيّة حاضرة في الخطاب السياسيّ الفلسطينيّ الذي رفعت رايتَه الحركةُ الإسلاميّة (برئاسة الشيخ رائد صلاح)، فضلًا عن ظهور جيل جديد من القيادة الفلسطينيّة في الداخل التي انبثقت عن الحركة الطلابيّة الفلسطينيّة التي كانت في سبعينيّات القرن العشرين وثمانينيّاته، وكانت إذّاك جزءًا مهمًّا من النضال الطلابيّ الذي ميّزه الطابعُ السياسيّ والوطنيّ.

في المقابل، جاءت هذه الهبّة على الرغم من ضمور هذا الخطاب وتراجُعه وصعود خطاب سياسيّ يسعى إلى التأثير عبْر الاندماج في اللعبة السياسيّة الإسرائيليّة دون تحدّي جوهر النظام. أضف إلى ذلك تراجُعَ خطاب الحقوق الجماعيّة إلى خطاب الامتيازات الاقتصاديّة والقضايا اليوميّة فقط، وعدم ربطها بالمسألة الوطنيّة، والرهان على شراكة عربيّة يهوديّة تتعلّق بالمسائل المدنيّة والديمقراطيّة فقط، وتجلّى ذلك في التوصية على ﭼـانتس في آذار عام 2020، وعلى لـﭘيد في نيسان المنصرم (2021)، والرغبة في دخول الحكومة، وخطاب القائمة العربيّة الموحّدة بشأن الانضمام إلى أيّ حكومة تنفّذ مطالب خدماتيّة عينيّة للمجتمع العربيّ، سواء أكانت يمينيّة أَم يساريّة، وتهميش الموقف من القضيّة الوطنيّة.

3. المليشيات المسلحة: برز في هذه الهبّة تنظُّم مليشيات مسلّحة يهوديّة استُجلِبت من المستوطنات على وجه التحديد، ولكنّها لم تَخْلُ كذلك من "طلبة" المدارس الدينيّة القوميّة الاستيطانيّة في المدن الساحليّة واللدّ. ظهرت هذه المليشيات وجابت الشوارع نافية الحدود الفاصلة بين حصريّة الدولة في استعمال السلاح واستعمالها هي للسلاح. جابت هذه المليشيات الشوارع معتدّة بالسلاح، وفي أحيان كثيرة كان أفرادها يجوبون الشوارع بصحبة الشرطة وأفراد الجيش، وهذا ما يُثْبِت تواطؤ أذرع الأمن معها. مدح بعض القادة السياسيّين الإسرائيليّين نشاط وتنظُّم هذه المليشيات، من بينهم وزيرة القضاء السابقة أييليت شاكيد، ووزير الأمن الداخليّ إيلي أوحانا. غابت هذه المظاهر في الانتفاضة الثانية عام 2000؛ إذ على الرغم من وجود اعتداءات جماعيّة من مجموعات يهوديّة آنذاك، فإنّ تلك الاعتداءات كانت في أغلبها عفويّة وغير مسلَّحة، وهذا الأمر يدلّ على مؤشّر هامّ في تدهور الحالة السياسيّة في إسرائيل، وازدياد شرعيّة اليمين المتطرّف الهامشيّ في إسرائيل.

4. الحراكات الشبابيّة: برز في هذه الهبّة اشتباك الحراكات الشبابيّة في الميدان وفي الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعيّ. وقد تكون نشأة هذا الجيل على عالَـم افتراضيّ خالٍ من الحدود الجغرافيّة والسياسيّة هي ما مهّد لبلورة حراكات شبابيّة فلسطينيّة عابرة لفلسطين ولبلاد اللجوء والشتات. لم تقتصر هذه الهبّة على أدوات الاحتجاج الكلاسيكيّة؛ إذ بخلاف الانتفاضة الثانية، كانت الساحة الإلكترونيّة ساحة عراك لا تقلّ ضراوةً عن الميدان، نشط فيها الجيل الشابّ بكلّ مهاراته.

أدوات الدولة في قمع الهبّة الشعبيّة (2021):

صعّدت الدولة من استخدام أدوات قمعها للهبّة الشعبيّة التي انتقلت من القدس إلى البلدات العربيّة داخل الخطّ الأخضر؛ فقد أقرّت الحكومة الإسرائيليّة توسيع صلاحيات الشرطة في التعامل مع الهبّة، إذ أُعطِيت الشرطة الصلاحيات التالية: فرْض حواجز وتفتيش السيّارات في البلدات العربيّة؛ إغلاق مداخل بلدات عربيّة (على نحوِ ما حدث في بلدة عرعرة)؛ وضْع كتل إسمنتيّة على مداخل بلدات أخرى وإغلاقها (على نحوِ ما حدث في بلدة "جديّدة – المكر")؛ إغلاق مناطق في المدن الساحليّة (على نحوِ ما فعلت الشرطة في البلدة القديمة في عكّا خلال أيّام عيد الفطر)؛ فرْض حظر تجوّل على السكّان (على نحوِ ما حدث في اللدّ).

تجلّى محو الخطّ الأخضر في إدخال وحدات حرس الحدود لقمع الهبّة الشعبيّة، وذلك لدعم الشرطة، ولا سيّما في المدن الساحليّة واللدّ والرملة، وكذلك في بعض البلدات العربيّة في وادي عارة والجليل. استُدعِيت هذه الوحدات من الضفّة الغربيّة، وذلك لتمرُّسها في مواجهة الاحتجاجات الفلسطينيّة هناك. كذلك هدّد نتنياهو بإدخال وحدات عسكريّة من الجيش لمساعدة الشرطة، غير أنّ وزير الأمن بيني ﭼـانتس عارض ذلك. خلال الأسبوع الأوّل من الهبّة، كثّفت الشرطة اعتقالاتها للشباب المشاركين في الهبّة، وبلغت الحملة اعتقال المئات خلال أيّام، من بينهم قاصرون. بعض الشبّان اعتُقلوا لبضعة أيّام، وأكثريّتهم بقوا في المعتقل. علاوة على ذلك، قدّمت الشرطة نحو 200 لائحة اتّهام خلال أقلّ من أسبوع، كلُّها لشباب عرب في حملة اعتقالات وتقديم لوائح اتّهام غير مسبوقة في مدّة زمنيّة قصيرة. لم تقتصر الاعتقالات على الشباب، بل طالت قيادات سياسيّة مثل الشيخ كمال خطيب، نائب رئيس الحركة الإسلاميّة المحظورة، ومُدِّد اعتقاله مرّتين، وثمّة آخرون أُفرِج عنهم بعد أيّام.

تُبيّنُ هذه الأدوات أنّ الدولة تعاملت مع الهبّة الشعبيّة للفلسطينيّين في إسرائيل كما تتعامل مع الاحتجاجات الشعبيّة في القدس والضفّة الغربيّة، وقد زادت عليها سياسة العقاب الجماعيّ ذي النزعة التأديبيّة، كمثل وضع حواجز بغية تحرير مخالفات للمَركبات في مداخل بعض البلدات العربيّة، على نحوِ ما حصل في بلدة "جديّدة – المكر". هذه المشاهد تعيد إلى الأذهان والواقع ما تمارسه قوّات الجيش في بلدات وقرى الضفّة الغربيّة عندما تصف بلدةً ما بأنّها بلدة معادية.

شهدت هذا الهبّة، كما أشرنا آنفًا، دخول مليشيات يهوديّة منظَّمة بعضُها كانت مسلّحة قَدِمت من البؤر الاستيطانيّة في الضفّة الغربيّة، وبعضُها من المدارس الدينيّة التوراتيّة التي استوطنت في مدن الساحل كاللدّ ويافا، وبعضها من منظّمات مافيويّة عنصريّة وفاشيّة مثل منظّمة "لافيميليا" (رابطة مشجِّعي فريق بيتار القدس)، ومنظّمة "لهاڤا" -وهما منظَّمتان تؤمنان بنقاء العِرق اليهوديّ وتفوُّق هذا العِرق ودونيّة الأغيار.

خاتمة:

ستحمل الهبّة الشعبيّة الكثير من التداعيات على الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر. أوّلًا وقبل كلّ شيء، أكّدت هذه الهبّة على وحدة الشعب الفلسطينيّ وانتماء الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر للقضيّة الفلسطينيّة، وأنّهم جزء من الشعب الفلسطينيّ. في هذا الصدد، كانت قضيّة القدس -بما تحمل من بُعد دينيّ وسياسيّ- الرابطَ الذي جمع الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر مع الشعب الفلسطينيّ. تعاني القدس من السياسات الاستعماريّة الاستيطانيّة نفسها التي يعاني منها عرب مناطق الـ48. تتمثّل هذه السياسات في الاستيطان، وإخلاء بيوت العرب في المدن الساحليّة واللدّ والرملة وفي النقب من ناسها، والتضييق على حيّزهم المكانيّ، وإغراقهم في الجريمة والعنف مثلما يحدث في القدس، والتعامل معهم بتَراتُبيّة على مستوى الحقوق المدنيّة والقوميّة، علاوة على أهمّيّة المسجد الأقصى والقدس في وجدان ووعي الفلسطينيّين في إسرائيل.

تؤكّد الهبّة الشعبيّة في مناطق الـ48 على سقوط الخطاب الذي يدعو إلى الاندماج في النظام السياسيّ دونما تَحَدٍّ لجوهره الاستعماريّ، وإلى فصل الحقوق الوطنيّة عن الحقوق المدنيّة؛ فتعامُل الدولة مع الهبّة أثبت -مثلما في مرّات سابقة- أنّها تريد الفلسطينيّين فيها بدون هُويّة أو كرامة وطنيّة. كذلك تفرض الهبّة الشعبيّة على الحقل السياسيّ الفلسطينيّ إعادة التفكير في أهمّيّة تنظيم المجتمع الفلسطينيّ وترميم خطابه السياسيّ؛ فالشباب الفلسطينيّ تجاوز هذه المرّة القيادات والتنظيمات السياسيّة التي كانت منفصلة عن الهبّة الشعبيّة، على العكس ممّا كان في انتفاضة القدس والأقصى عام 2000 التي تميّزت بوجود تلاحم بين القيادة والجمهور. تزداد أهمّيّة تنظيم المجتمع الفلسطينيّ والحفاظ على هذه النزعة الاحتجاجيّة السلميّة من أجل الاستعداد لسياسات الدولة في ملاحقة الشباب بهدف ردعهم؛ فإسرائيل كما تردع المقاومة الفلسطينيّة تفكّر في ردع مواطنيها من الفلسطينيّين داخل الخطّ الأخضر.

* في الهبّة الحاليّة، كان قِطاع غزّة في حالة حرب تقريبًا مع إسرائيل، في إطار المقاومة المسلَّحة.

التعليقات