26/04/2006 - 21:22

وقفة مع فتاوى الترابي../ د.عمر سعيد

وقفة مع فتاوى الترابي../ د.عمر سعيد
في زمن المحن الكبرى، غالباً ما تنسحب الثقافة إلى الداخل، وتستدعي من جوفها مخزونها التراثي، لإعادة شحن مخيالها التأسيسي. وحينما يكون التهديد الوافد بجوهره، تحدياً معرفياً وأخلاقيا، فإن خطاب الثقافة السائد سيعمل على استيعابه بعد تفريغه من "سمومه" من خلال نزعة تسامحيه تتسع عباءتها لمصالحة المكونات الأخرى المعارضة لسطوته، لكنه ينكمش على ذاته، ويتشدد عندما يفسر التهديد الوافد كخطر مادي وجودي.

غالبية الأئمة المصلحين الذي برزت أسماؤهم في حقب متعاقبة، بعد انهيار دولة الخلافة وتبدد القيم الأصيلة وانتشار الدين الشعبوي وانهيار الفعالية الاجتماعية في كافة مناحي الحياة، إعتمدوا الخطاب السلفي التجييشي المتشدد أداة في تقويم الواقع ووقف حالة التدهور والإنهيار، وهكذا وعبر عملية متكررة من النقل وانتفاء فعل العقل، أصبحت رؤية الخلف أكثر انغلاقاً وتشدداً من السلف الذين أنتجوا أحكامهم الهامة في بيئات مغايرة تماماً.

السنوات الأخيرة شهدت، وما زالت، حملة منسقة تقودها الولايات المتحدة لفرض إصلاحات نوعية في بنية الفكر الديني الرسمي، عبر التحكم في نظم التعليم، وشكل تمظهر التأويل القرآني في وعي كافة المستويات الشعبية، بما يؤثر في تدجين العقلية الإسلامية، وذلك بحجة قلع جذور التطرف المنتج للإرهاب.

لقد أثار هذا التدخل السافر رفضاً عارماً واعتبر محاولة لتحطيم ركائز الثقافة العربية الإسلامية، ويطال جوهر الدين الإسلامي نفسه. ووفقاً لمنطق الأمور فإن المتوقع أن يلبس الخطاب الديني ثياب التشدد والانغلاق على نفسه كخطوة أولى في المواجهة.

لكن الدكتور حسن الترابي، وعلى ما يبدو، لا يأبه بهذه المعادلة ويرد على التهديد بتفعيل مزيد من الطاقات المحّيدة، حتى ولو كان ذلك متعارضاً مع موروث كامل من الفتاوى والتأويل الذي تحول في ظل غياب نقد أو معارضة من داخل المؤسسة، إلى حقائق دينية مقدسة.

فها هو الترابي يفتي لصالح تساوي شهادة المرأة بشهادة الرجل، بل وتفضيلها في بعض الأحيان، وجواز إمامة المرأة العالمة في الرجال، وصلاحية زواج المسلمة من الكتابيين، وإنكار عذاب القبور، واعتبار الحجاب مقتصراً على نساء الرسول (ص) .... الخ.

من الواضح أن الترابي سيواجه بحملة شعواء من التشكيك قد تصل بمداها حد التخوين والتكفير، وتجعله متساوقاً مع المشروع الأمريكي في تمييع وإطفاء جذوة الإسلام. مع ذلك، لا ينبغي التعامل مع هذه الفتاوى من باب التخوف من ردات الفعل أو من باب الاستخفاف بأثرها، خاصة وأننا نتحدث عن أحد أبرز منظري الفكر الأصولي المتمثل بحركة الإخوان المسلمين، وهو ضالع في بلورة مضامين الخطاب الديني المعاصر، وأحد مفسري القران الكريم، حيث يمتاز بثقافة متنوعة المشارب، تتجاوز ثقافة اللغة الواحدة، هذا ناهيك عن امتلاكه لناصية المناهج التحليلية التي توفرت عنده عبر دراساته العليا في جامعة السوربون.

إن المتتبع لنتاجه الفكري سيتعرف بالحتم على إشارات واضحة في تطوير وعقلنة الفكر الديني، وانفتاح أفقه في تعامله مع احتياجات العصر وتحديات الحداثة. فكتابه المعروف " الفقه السياسي" يزخر بكثير من الأحكام التي تعتبر غاية في الجرأة، قياساً مع نتاج أقطاب المدرسة السلفية الكلاسيكية آنذاك.

لقد اعتلى الترابي في فتاواه الأخيرة أخطر قمم التأويل، وهز أحكاما متوارثة تقع في عداد النصوص المقدسة، كونها تحظى بإجماع مطلق، مما سيحدث اختراقاً نوعياً في جدار العقل الفقهي المألوف، وقد يترتب عن ذلك حراك فكري ونقدي جاد يؤمل له أن يسهم في إعادة صياغة الكثير من المسلمات الإجتماعية التاريخية.

من المعروف أن التيارات الدينية الأصولية تنصب نفسها وصياً أوحد على تأويل وفهم النصوص الدينية، وتستبعد بشكل فوري أي مشاركة فكرية خارجة عن نطاق سلطتها، في عملية تطوير آليات الإستدلال المعرفي لمقاصد الشرع، وذلك من خلال توحيد الدين بنتاجاته الثقافية.

إن عملية التوحيد تلك قد مكنت التيار الأصولي من الإستحواذ المطلق على هذا النطاق الهام والمؤثر، وسهلت نزع الشرعية سلفاً عن تلك المساهمات العقلية التنويرية لأي مفكر لا ينتمي للدائرة السلفية ( دكتور نصر حامد أبو زيد، دكتور محمد شحرور....).

من المؤسف حقاً أن النخب المثقفة في أحزابنا وحركاتنا الوطنية ومنظماتنا النسوية، بوجه خاص، ومجتمعنا على وجه التعميم، قد سلمت بالوصاية السلفية، وأذعنت لحالة إقصائها من ميدان المساهمة في مناطق "الحرام"، التي حددتها لها الأحزاب الدينية، وبذلك بقيت خارج هذا النقاش الهام والذي يطال جوهر مشروع التغيير والتنوير لمجتمعنا.

لقد اكتفت تلك النخب بحملها للمشروع النهضوي من جنباته البرانية غير المؤثرة في تشكل الإصلاح الحداثي المنشود، وبذلك كرست قطيعة فعلية بين أهدافهم المعلنة وبين طبيعة وعي المجتمع لذاته وهويته الثقافية والدينية.

آن الأوان لحركتنا الثقافية بكل أطيافها أن تقتحم هذا الباب، ليس من موقع المماحكة اللفظية مع التيارات الأصولية، وإنما من منطلق التبني المبدئي والإنتماء الطبيعي لحضارتنا وجذورنا القومية، بوصف ذلك شرطا أساسيا لمن يريد المشاركة المؤثرة في إخضاع موروثنا لعملية نقد شاملة تخلصه من عوامل إنتكاساته، وتؤمن لمشروعنا النهضوي عناصر القوة والإنطلاق.

التعليقات